بعد إعلان نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي جرت مؤخرًا، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يستمر في مهام منصبه كرئيس لوزراء إسرائيل في السنوات الأربعة القادمة. على الرغم من ذلك، غالبًا ما يجد المراقبون الغربيون صعوبة في فهم النهج الذي يتبنَّاه الزعيم الإسرائيلي في التعاطي مع المشهد الداخلي والخارجي. فعلى سبيل المثال، لماذا يبدو الرجل متشككًا حيال تقديم تنازلات للفلسطينيين؟ ولماذا يتبني خطابًا قاسيًا بشأن التهديد الذي يشكله الاتفاق النووي مع إيران؟ بل لماذا يتبارى وبشكل علني مع باراك أوباما، رئيس الولاياتالمتحدة أقرب الحلفاء لإسرائيل؟ من الصعب أن نجيب على مثل تلك التساؤلات دون أن نفهم مرجعيات نتنياهو الأيديولوجية ومعتقداته التي يؤمن بها. من المهم أيضًا أن ندرك أن معتقدات الرجل ومرجعياته قد تأثرت بشدة بوالده، العالِم المتمرد الذي كتب عن محاكم التفتيش الإسبانية. ويعتقد كل من نتنياهو وأبيه في التقاليد الصهيونية المتشددة التي يرجع أصولها إلى زئيف جابوتنسكي الذي ولد في القرن التاسع عشر في أوكرانيا. يُمثل «زئيف جابوتنسكي» أحد الشخصيات القليلة الهامة في تاريخ الصهيونية. ولد جابوتنسكي في أوديسا بأوكرانيا عام 1880، وهو من أسس التقاليد الفكرية والمؤسسات السياسية التي نشأ على أساسها حزب الليكود ذات السياسات المتشددة، والذي يرأسه نتنياهو. وُلدت رؤية «جابوتنسكي» الصهيونية من رحم المذابح الروسية. وكما كان يعتقد في بداياته أن الحياة اليهودية لم تكن مستقرة بطبيعتها، فقد حث اليهود قبل عدة سنوات من المحرقة على الخروج من أوروبا قبل وقوع الكارثة. يقول «يوسي كلاين هاليفي»، وهو زميل في معهد «شالوم هارتمان» تعليقًا على زئيف جابوتنسكي: «لا يمكنك أن تفهم فكر جابوتنسكي حول الصراع العربي- الصهيوني «وتطرفه» من دون أن تفهم دوره باعتباره الصوت اليهودي الوحيد الذي نادى بالإنقاذ في حالات الطوارئ». التطرف هو مصطلح أساسي هنا في التعاطي مع فكر جابوتنسكي. لم لا وهو الرجل الذي طالب بإنشاء الدولة اليهودية التي تمتد على جانبي نهر الأردن، الذي يفصل حاليًا بين الضفة الغربيةوالأردن. على عكس القادة الصهاينة قبل الحرب، الذين كانوا أكثر اهتمامًا بالتفاوض مع الفلسطينيين، فإن عقيدة جابوتنسكي، والتي تدعى الصهيونية التصحيحية، كانت ترتكز على أن الطريقة الفعالة الوحيدة لإنهاء عداوة العرب تجاه الدولة اليهودية تتطلب قوة يهودية قوية بما فيه الكفاية لإكراه جيرانها العرب على السلام. يقول جابوتنسكي في مقاله «الجدار الحديدي» عام 1923: «لا يمكننا أن نقدم أي تعويض كافٍ للعرب الفلسطينيين في العودة لفلسطين. وبالتالي، ليس هناك أي احتمال للتوصل لأي اتفاق يتم التوصل إليه طواعية. إن الطريقة الوحيدة للحصول على مثل هذا الاتفاق هو الجدار الحديدي، وهو ما يعني قوة قوية في فلسطين لا تقبل بأي ضغوط عربية». مثلّت مبادئ جابوتنسكي، وبخاصة ما يتعلق منها بالتطرف الإقليمي والسلام الذي يأتي عبر القوة، أحد المبادئ التأسيسية لليمين الإسرائيلي المعاصر وكذا بالنسبة لنتنياهو. بتطبيق ذلك على سياسته تجاه الفلسطينيين، نجد أن نتنياهو لا يعتقد بأن الفلسطينيين مستعدين للسلام، وبأنهم لم يتخلوا عن أحلامهم في طرد اليهود خارج أرض فلسطين. حينما عرض نيتناهو أمام وزير الخارجية الأمريكي جون كيري شريط فيديو لطفل فلسطيني يجري تلقينه بعبارات التدمير لإسرائيل في الجولة الأخيرة من مفاوضات السلام وإعلانه بأن «هذه هي العقبة الحقيقية أمام السلام»، لم يكن ذلك مجرد حيلة سياسية أو تكتيك تفاوضي، وإنما كان تعبيرًا عما يؤمن به. قد لا يعني ذلك أنه بات من المستحيل دفع نتنياهو نحو السلام. فثمة وثائق سرية، كشف عنها مؤخرًا المراسل الإسرائيلي والكاتب «ناحوم برنيع»، تشير إلى تنازلات قد تقدم للفلسطينيين من قبل نتنياهو من الباب الخلفي للمفاوضات. هذا بالإضافة إلى تأييده لحل الدولتين في عام 2009، وإن كان تاييدًا لا يبدو حقيقيًّا. في الواقع، فإن نتنياهو وما يؤمن به هو إلى حد كبير نتاج لمعتقدات جابوتنسكي. ودون أن تفهم ذلك، فلن يمكنك فهم السبب في كونه متشككًا في التوصل إلى حلول تفاوضية للصراع مع الفلسطينيين. لا تقتصر علاقة نتنياهو مع «جابوتنسكي» بالجانب الأيديولوجي فقط. فبنزايون نتنياهو، والد رئيس الوزراء، كان أحد النواب الشخصيين لجابوتنسكي. في عام 1940، أرسل «جابوتنسكي بنزايون» إلى الولاياتالمتحدة للضغط من أجل إنشاء دولة يهودية. «دايفيد ريمنيك» كتب في مجلة «ذي نيويوركر» عام 1998 تعليقًا على تأثير الوالد على الإبن: «الأب. أينما ذهبت في القدس وبالسؤال عن نتنياهو، فلن تحصل سوى على إجابة واحدة: إذا أردت أن تفهم نتنياهو، فما عليك سوى أن تفهم الأب. من جانبه، يرفض نتنياهو أي حديث عن تأثير الأب النفسي، بينما أصدقاؤه وزملاؤه الذين يعرفونه لعقود لا يرفضون». يمكن رؤية التأثير الذي أحدثه «بنزايون» في الخطاب الذي يتبناه نتنياهو بشأن معاداة السامية من ناحية، وبشأن إيران من ناحية أخرى. فبعد عمله في الحركة الصهيونية، عمل الأب نتنياهو كمؤرخ. وكانت أحد أعماله الأكثر شهرة هي كتابه الذي تناول فيه محاكم التفتيش الإسبانية في القرن الخامس عشر. بحسب الغالبية العظمى من الروايات، فإن اليهود الإسبان تم إجبارهم على التخلي عن ديانتهم بشكل علني، وإن كانوا قد استمروا في ممارسة شعائرهم الدينية بشكل سري. من جانبه يرى بنزايون أن اليهود في إسبانيا تحولوا بالفعل إلى كاثوليك، مشيرًا إلى أن محاكم التفتيش الإسبانية تعكس كراهية لليهود كشعب، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. تحمل هذه الرؤية التي تبناها نتنياهو الأب وجهة نظر مظلمة من التاريخ اليهودي. فحتى لو تخلى اليهود عن ديانتهم، فسيظل الناس يكرهونهم على ما هم عليه. وكما يقول بنزايون: «إن التاريخ اليهودي هو إلى حد كبير تاريخ من المحارق التي قام بها مجموعة من القادة والفصائل المعادين للسامية، والذين تمكنوا من السيطرة على بلدان بأكملها في أوقات الفوضى والحرب الأهلية أو التمرد. وفي تلك المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم، تم طرد جميع الطوائف اليهودية خارجها». على الرغم من أن بنزايون توفي في عام 2012، إلا أن أفكاره ظلت باقية وحية عبر ابنه. فعلى سبيل المثال يحوي كتاب نتنياهو “السلام الدائم” نظرة للتاريخ اليهودي مماثلة لنظرة الأب لشرح المبدأ الأساسي لقيام الدولة الإسرائيلية. يقول نتنياهو في «السلام الدائم»: «بمجرد أن تم طرد اليهود إلى المنفى، أصبحوا عبارة عن مجموعة من المجتمعات المتفرقة في العالم في العصور الوسطى. مجموعات حرمت بشكل تدريجي من كافة الشروط اللازمة للدفاع عن النفس. لقد كان صعود إسرائيل محاولة واعية لانتزاع الخلاص من قبضة العذاب بلا هوادة». ربما يكون هذا هو السبب الذي يدفع نتنياهو إلى القلق بشأن إيران. وهو يعتقد بأن معاداة السامية تنعكس في كل ما تقوله طهران. فتصريحات الحكومة الإيرانية المتكررة عن زوال إسرائيل من الوجود تهدد بإضافة فصول جديدة في «تاريخ المحارق اليهودية» التي تحدث عنها والد نتنياهو من قبل. وفي حال حصلت إيران على الأسلحة النووية، فسيكون لدى طهران المزيد من الحرية لمحاولات قتل اليهود سواء في إسرائيل أو خارجها. تهديد يعتقد نتنياهو بأنه لا يمكن أن يسمح به في عهده. كيف تشرح أيديولوجية نتنياهو معاركه مع الأمريكان؟ فقط بمجرد فهم الخلفية الأيديولوجية لنتنياهو، والتي تأثرت بالصهيونية التصحيحية بشكل عام، وبالأب على وجه الخصوص، سيكون واضحًا حينئذ فهم طبيعة المعارك التي يخوضها نتنياهو حاليًا مع الإدارة الأمريكية. لم يكن نتنياهو أبدًا على علاقات جيدة مع أي من الإدارات الأمريكية. فكما دعم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون شيمون بيريز، المنافس لنتنياهو، في الانتخابات الإسرائيلية عام 1996، أخذت العلاقات بين نتنياهو وأوباما بعدًا أسوأ كنتيجة مباشرة لأيديولوجية الرجلين المتباينة إزاء التحديات الكبرى لإسرائيل. الاختلاف الأيديولوجي بين أوباما ونتنياهو كان واضحًا للعيان في لقاء الرجلين الأول عقب تنصيب نتنياهو رئيسًا للوزراء في مايو 2009. ففي حين حاول أوباما إقناع نتنياهو بتحقيق السلام مع الفلسطينيين، وتمهيد الطريق لإنشاء التحالف العربي ضد إيران، قال نتنياهو إن إيران تعوق التوصل إلى السلام من خلال دعمها لحماس، وأنه إذا تم تحييد إيران، فإن الدولة الفلسطينية لن تكون حلمًا وإنما حقيقة واقعة. موقف نتنياهو يمكن فهمه في ضوء أيديولوجيته. هو يرى أن الدعم الإيراني للجماعات العربية التي تنتهج العنف كحماس وحزب الله ليس من شأنه فقط أن يشكل تهديدًا للوجود الإسرائيلي، وإنما يمنع الفلسطينيين كذلك من التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. من جانبه يرى أوباما في إيران تلك الدولة الخطيرة التي يمكن التعاطي مع طموحاتها بقدر من الضغط والمناورة الدبلوماسية. وفي الشأن الفلسطيني، يعتقد أوباما بأن أفضل الخيارات المتاحة لحل الخلافات مع إسرائيل هو تطوير اتفاق السلام الذي يعالج مظالم ومخاوف الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني المشروعة. هذا التوتر في وجهات النظر بين الرجلين أفضى إلى صراع بينهما. صراع يشمل اثنتين من أهم القضايا التي تواجه الولاياتالمتحدة وإسرائيل في السنوات الستة الماضية، إيران والسلام بين إسرائيل وفلسطين. عندما أراد أوباما أن يتحدث عن السلام، تمنى نتنياهو أن يجري توجيه الجهد نحو إيران. عندما أطلق أوباما حملته الدبلوماسية على إيران، أراد نتنياهو لهذه الحملة أن تكون أكثر ضراوة. عندما نعت أوباما نتنياهو بالكاذب في حديثه للرئيس الفرنسي، ألقى نتنياهو خطابًا أمام الكونجرس دون حضور الرئيس الأمريكي. كل هذا وغيره بعض من أعراض ذلك الصراع الأيديولوجي العميق. قد تعتقد بأن الحاجة الأساسية للحفاظ على العلاقات بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل من شأنه أن يعطي نتنياهو وقفة للحد من معاداته لأوباما. ولكن تذكر: في عقل نتنياهو، ترتبط هذه القضايا محل الخلاف مباشرة ببقاء إسرائيل كدولة قابلة للحياة. المصدر: ساسة بوست