طالعتنا الأهرام فى صفحتها الأولى، يوم الخميس، الموافق 2 أكتوبر بخبر عن تقدم العمل فى مشروع قناة السويس الجديدة، وأن التفاصيل فى صفحتى 6 و 7 فى تقرير لبعثة الجريدة إلى موقع العمل.. أرجو أن يقدر القارئ معاناتى فى قراءة كل هذا الكم الكبير من الكلام الفارغ، فأنا أحاول منذ مدة – دون جدوى حتى الآن – معرفة كنة هذا المشروع السرى، الذى لم تنشر له حتى الآن دراسة واحدة واضحة.. الجملة الوحيدة المفيدة التى وجدتها فى التقرير، هى: أن المخطط العالم سينتهى بعد ستة أشهر، قيلت فى السياق دون أن يتوقف الكاتب عندها لثانيتين.. يا للهول.. نبدأ العمل فى مشروع تكلفته 60 مليار جنيه، وليس عندنا حتى مخطط عام!! (يبدأ أى مشروع تنموى بمخطط عام يرتب كل المطلوب عمله وأولوياته، وعلى أساسه يتم عمل دراسة الجدوى الاقتصادية، إذا ثبتت جدوى المشروع يتم عمل المخطط الهيكلى التفصيلى الذى يحدد العمليات المختلفة التى يشملها المشروع وقطع الأراضى التى ستخصص لكل عملية، وبعدها يتم عمل التصميمات التنفيذية والرسومات الهندسية التى بدونها لا يمكن التعاقد مع المقاولين، وطبعا لا يبدأ العمل إلا بعد التعاقد مع المقاولين..) هذا على أى حال يفسر لنا، لماذا لا توجد دراسة واحدة منشورة. طبعا.. دراسة عن ماذا والمخطط العام لم ينتهِ بعد؟!.. كما يفسر كل هذا الكلام الإنشائى العائم الذى لا تفهم منه أى تفاصيل محددة، مثل: "مصر ستتحول إلى مركز اقتصادى ولوجستى عالمى صناعى وتجارى، بعد إنشاء هذا المشروع العملاق، كما ستؤثر فى التجارة العالمية من خلال خلق كيانات صناعية ولوجستية جديدة بمنطقة المشروع ستعتمد على أنشطة القيمة المضافة، والصناعات التكميلية، وإعادة التصدير للداخل والخارج" .. أى والله هذا الكلام مكتوب فى الأهرام عن مشروع لم ينتهِ مخططه العام بعد، وبجوار الكلام صورة لخريطة المشروع.. طبعا وضعها المحرر؛ لتزيين الصفحة، ولم يتوقع أن متطفلا مثلى سيأتى بعدسة مكبرة؛ ليبحث فى هذه الخريطة عن المناطق التى يمكن أن تقام فيها تلك الأنشطة التى يتحدثون عنها.. لا يوجد فى هذه الخريطة إلا مناطق إسكان سياحى وموانئ لليخوت (مع أنه لا توجد دراسة واحدة عن السياحة فى مصر قالت: إن قناة السويس هى إحدى نقاط الجذب السياحى) ، ومنطقة صغيرة جدا كتب عليها: "خدمات لوجستية"، دون أن يشرح شيئا عن طبيعتها أو نوعها أو مشتملاتها، هذا يفترض تفسير من اثنين، الأول: هو أن الذى رسم الخريطة يعتبر أن كلمة "خدمات لوجستية" هى من الكلمات الدارجة فى كلام المصريين، والكل يعرف معناها، ولا تحتاج لمزيد بيان، أو الثانى: أنه هو شخصيا لا يعرف معنى خدمات لوجستية، لكنه سمعها أيام كان الحديث يدور حول مشروع الرئيس مرسى، ولا يعرف أن المنطقة الصغيرة الذى كتب عليها خدمات لوجستية، لا يمكنها أن تكون أكثر من مركز خدمة شاحنات ثقيلة على طريق نقل سريع، لا مركزا للخدمات اللوجستية العالمية، الذى كان يخطط له فريق الرئيس مرسى. على أى حال أصبح واضحا أن أى كلام قيل أو سيقال عن مكونات المشروع، هو مجرد هراء إعلامى، فالمخطط مازال أمامه ستة أشهر حتى ينتهى، وهذا المخطط هو أول تصور متكامل للمشروع، وأى كلام يقال قبل الانتهاء منه لا يعدو إلا أن يكون مواضيع إنشائية ضعيفة لا تعتمد على أى دراسة جادة. حسنا.. ذهبت البعثة لتتابع العمل على أرض الواقع لتثبت – حسب قول أعضائها – أن هناك إنجازا فعليا، وليس مجرد شو إعلامى .. ومع ذلك لم تقدم فى وسط سيل الصور التى عرضتها صورة واحدة من زاوية عريضة أو لقطة جوية من تلك التى تلتقطها طائرات القوات المسلحة يوميا للقناة.. هذا يجعل مائة فأر يلعبون فى عبك .. ولا صورة واحدة شاملة!! مجرد صورتين من زوايا ضيقة لبضعة سيارات نقل ولودر.. ثم يتساءلون لمَ نتشكك فى جدية العمل؟! ******** دعك من كل ما سبق، فقد اعتدنا هذه الثرثرة الفارغة؛ لملأ صفحات بلا مضمون عن كل ما يريدون تلميعه، ولكن المسخرة الحقيقية تجدها فى صورة الصفحة الأولى لشاب "يطرطش" بالمياه فى سعادة غامرة، كأنه يلهو على البحر، أو فى حمام سباحة؛ وتحتها عنوان "فرحة أحد العاملين بظهور المياه"، وكل هذا تحت مانشيت بالخط العريض "ظهور المياه بأرض المشروع يختصر زمن الحفر الجاف".. يا خبر أسود .. طيب العامل الغلبان جاهل ولا يعرف أبعاد هذه المشكلة، لكن هذا الكاتب الذى كتب العنوان والمانشيت بعد زيارة الموقع واللقاء بالمديرين والمهندسين والمقاولين واللواءات.. إلخ، لا يعرف أن ظهور المياه الجوفية أثناء الحفر، هو مشكلة كبيرة وربما كانت مصيبة حقيقية؟! كيف تظهر المياه الجوفية على عمق 9 أمتار (من 24 مترا مطلوب حفرهم) فجأة فى مشروع كان المفروض أنه حفر على الناشف؟. إن أى مهندس صغير يقوم بحفر بعمق 3 أمتار لأساسات لعمارة صغيرة يستحق عقابا شديدا إذا فوجئ بظهور المياه الجوفية على عمق 2.5 متر، فمنسوب المياه الجوفية مكتوب فى تقرير التربة، ولا بد أن يكون قد أدخلها فى حساباته لتكلفة الحفر، وتقدير قيمة العقد، وأعد العدة؛ للتعامل معها عندما يصل إليها. إن مجرد الحفر لعمق نصف متر فقط فى المياه الجوفية، هو مشكلة ترفع التكلفة ارتفاعا كبيرا، فما بالك بالحفر 15 مترا فى المياه الجوفية؟! .. هل بدأ العمل فى هذا المشروع العملاق بدون عمل جلسات لاختبار التربة، وتحليل العينات، وكتابة تقرير عن طبقات الأرض؟ يبدو فعلا أن هذا هو ما حدث.. لو فعلها مهندس شاب يبنى عمارة صغيرة لعوقب عقابا شديدا (خطأ مثل هذا أدى إلى فصل أحد زملائى من العمل منذ 30 عاما). ثم ما هذا العنوان شديد الغباء "ظهور المياه يختصر زمن الحفر الجاف"؟!.. ما هذا الهراء؟!.. تصور لو أننا فى رحلة بالسيارة لمسافة مائة كيلو، ثم فوجئنا بأن الطريق المرصوف ينتهى بعد 20 كيلو فقط، فبدلا من أن يستاء الركاب من طول المسافة التى سيقطعونها على الجزء غير المريح، ويتهمون السائق بتوريطهم فى الرحلة، يقول واحد من المسافرين بسعادة: "إن ظهور التراب يختصر زمن السير على الأسفلت".. الواقع أن ظهور المياه معناه أن الحفر طلع مش على الناشف، فماذا أنتم فاعلون؟ حتى يفهم القارئ غير المتخصص هذه المشكلة، نذكره بأن ثمن اللودر أو البلدوزر المستخدم فى الحفر الجاف يدور حول رقم المليون أو المليونى جنيه، حسب حجمه، وجهة إنتاجه؛ أما ثمن الكراكة التى يمكنها الحفر تحت الماء بكفاءة، فيبدأ ثمنها من حوالى 150 مليون وطالع (مائة وخمسون مليون جنيه)؛ لذلك لا تجد شركة مصرية واحدة تمتلك كراكة، وهئية قناة السويس نفسها تمتلك 12 كراكة تعمل كلها فى تطهير المجرى الملاحى طوال العام.. مجرد التطهير والصيانة يحتاج 12 كراكة.. كم نحتاج لحفر المجرى من البداية؟ ويفاقم من الوضع، أنك لا تجد كراكات جاهزة (بضاعة حاضرة) فى مخازن شركات التصنيع لتطلبها وتتسلمها فورا، فالتسليم يكون عادة بعد سنة أو 18 شهرا.. فى مشروع كهذا غير مسموح بأن تفاجئ بأنك لم تعد تحفر على الناشف، وأصبحت فجأة فى حاجة لكراكات، ليس هذا خبر مفرح بالمرة. وهل حسب أحد الزيادة فى التكلفة نتيجة ظهور المياه؟ ليس فقط بسبب أن الكراكات أغلى 150 مرة من اللودر؛ ولكن أيضا لأن نقل ناتج الحفر المبتل أصعب من نقل الرمال الجافة.. أستطيع أن أؤكد بالحس الهندسى – فليس عندى المعطيات لعمل الحسابات الدقيقة – أننى لو كنت أدير هذا المشروع لاستعوضت ربى فى تكلفة ما تم من حفر (ومن المؤكد أنه ليس كثيرا وإلا لتباهوا علينا بصورة)، ولعملت مسحا للتربة فى مناطق أبعد عن القناة، فواضح أن هذه المياه الجوفية هى رشح الممر القديم، ومن المؤكد أننا إذا أبعدنا الفرعة الجديدة لمسافة أكبر، فسنصل إلى منطقة يكون الحفر فيها كله "على الناشف"، أو على الأقل تكون كمية الحفر تحت المياه نادرة، وليس الثلثين كما هو واضح من مستوى الماء فى المجرى الحالى.. فالزيادة فى التكلفة نتيجة الحفر بالكراكات ستتجاوز أضعافا مضاعفة لتكلفة كل ما حفرناه حتى الآن.. يبدو هذا قرارا منطقيا لا مفر منه لأى مدير مشروع عاقل.. المشكلة أن هذا القرار يتطلب الاعتراف بأن المشروع بدأ بداية مرتجلة، وأن هذا الذى قال إنه مجرد حفر على الناشف كان يثرثر بما لا يعلم، فمن يستطيع أن ينظر للغول، ويقول له عينك حمراء؟! Anchor