"شُبِّيكْ لُبِّيكْ عبدك بين إيديكْ"عبارة من أشهر العبارات وأكثرها شيوعًا فى أدبيات القصص الشعبي وأشدّها رسوخًا فى العقل الجمعي فى مصر.. فإذا أُطلقت فى أي موقف أو مناسبة فمعناها من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى شرح أو بيان؛ يستوى فى هذا المتعلم والجاهل، القارئ والأمّي .. وسواء كان من العوامّ أو من النخبة المثقفة. سيعلم الكل أن قائلها يعلن موقف الإذعان المطلق والاستسلام التام - بلا مناقشة ولاتردد ولا منطق- لكلِّ مايريده السيد أو أي شخص يراه صاحب العبارة سيدًا عليه. وكل العبارات التى استُحدِثت فى زمننا المعاصر اشتقاقًا من العبارة الأم ليست أكثر من امتدادات أوتلوينات -على سبيل المبالغة- مثل قول البعض لرئيسه: "إشاراتك أوامر ياباشا" أو "رغباتك أوامر" .. بل تجاوزت المبالغة حد المعقول فى هذه العبارة: "أحلامك أوامر ياباشا".. سمعتها لأول مرة من ضباط يرددونها بشكل عفوي-كأنما قد اعتادوا عليها- للواء صديق فى الجيش استضافنا فى فلّته بمدينة فايد على شاطئ البحيرات المُرّة .. واستمتعنا بوجبة من الأسماك الفاخرة فى نادى الضباط القريب منها (كان هذا فى ثمانينات القرن الماضى).. لقد أصبحت عُملة مستخدمة؛ مقبولة ومستملحة من الجانبين: جانب الأسياد وجانب العبيد؛ فالأسياد يجدون فيها إطراءً يستهوى غرورهم وتنتفخ له ذواتهم .. وأما المرؤوسون العبيد فيرون فيها الطريقة المثُلى لتليين رؤسائهم.. والتقرّب منهم.. وتحقيق مطالبهم.. وتخطّى السّذج من زملائهم الذين لا يجيدون هذه المهارة السحرية؛ إذ يرون أنهم يسبقونهم فى كل أمر بلا حاجة إلى بذل جهد إضافي فى العمل سوى النفاق.. وهكذا تفسد المؤسسات وتنحط قيم العمل والكدح وتسود أخلاقيات وثقافة "السيد والعبيد" .. الفرد المستبد والأتباع.. فى مثل هذه المؤسسات تتوارى سلطة القانون وتنهار أسس القيادة والإدارة.. و يسهل فرز المجتهدين الملتزمين بالقانون والقواعد الأخلاقية و بشرف المهنة .. فيوصمون بالسذاجة أحيانًا وبالتمرّد والهرطقة فى أغلب الأحيان .. ومن ثم يوضعون فى قوائم المغضوب عليهم للتخلّص منهم فى أول فرصة سانحة.. وهذا ما حدث فى جميع مؤسساتنا على مدى ستين عاما وعلى الأخص خلال العقود الثلاثة العقيمة التى حكم فيها حسنى مبارك؛ أفسد فيها مؤسسات: الجيش والشرطة والقضاء والإعلام .. وانهارت على يديه منظومات التعليم والصحة والإدارة.. وتم إعادة هندسة المجتمع المصري وتركيبه: بتمكين اللصوص والأفاقين من السيطرة على الثروة والسلطة والمارقين من الدين والأخلاق فى إدارة ثقافة الأمة ومؤسساتها الدينية وقيادات المجتمع المدني.. ومن أبشع منجزاته التى نعانى منها الآن برمجة المجتمع وتشويه بنيته الشبابية؛ بضخ عشرات الألوف سنويا من العاطلين عن العمل وشيوع البطالة والبلطجة بين الشباب ليشكلوا جيشا احتياطيًّا ورديفًا لأجهزة المخابرات ومباحث أمن الدولة لتنفيذ العمليات القذرة بالأجر أو تحت سطوة الإرهاب الحكومي.. وليكون البلطجية ستارا جاهزا تتوارى خلفه بندقية الشرطي ومدرعات العسكري للتدخل عند اللزوم.. بحجة فض الاشتباك بين المعارضين وبين المواطنين الشرفاء (فهذا هو الإسم المشهور للبلطجية.. والمسجلين خطر من عتاة الإجرام فى مصر). ظاهرة الفساد المروّع التى تبدّت جليّة واضحة بعد الانقلاب العسكري قد أذهلت شرفاء هذه الأمة الذين كانوا يعلمون بوجود هذا الفساد المستشرى ولكنهم لم يكونوا يدركون عمق تغلغله ولا مداه ولا الأبعاد التى وصل إليها. هذا الفساد هو الذى مكَّن للثورة المضادة أن تنمو وتعمل فى عتمة كاملة لأنها كانت تتحرك فى قلب أجهزة السلطة وأروقتها السرية .. وهو الذى سهَل لها النجاح الساحق: فى تصوير مظاهرات 30 يونية على أنها ثورة تصحيحية ، و فى إفشال حكومة الثورة، و فى ضرب ثورة الشعب نفسها، وتقويض السلطة الشرعية المنتخبة . والآن تحاول الثورة المضادة -متمثلة فى قيادات الانقلاب العسكري- القضاء على أي أمل فى العودة إلى الشرعية أو استعادة المكتسبات الديمقراطية التى حققها الشعب فى ثورة 25 يناير 2011م .. أستطيع أن ألخِّص المشهد فى كلمات بسيطة: لقد كان أنصار الثورة والشرعية الديمقراطية يسيرون -تحت مطارق الإعلام ومؤامرات المؤسسات الرسمية المحيطة بهم- فى طريق يحجب الرؤية فيه الضباب والشكوك والتردّد، بينما كان قادة الثورة المضادة وأعوانهم فى المؤسسات الرسمية يسيرون فى ضوء كامل بخطوات ثابتة نحو تنفيذ مخططاتهم لاقتلاع ثورة الشعب، والعودة به إلى حظيرة الاستبداد والتبعية .. والعبودية التى اعتياد عليها عبر ستة عقود.. فى ضوء هذا الفهم للحقائق أعيد النظر فقط فى السناريو الذى تم أمام أعيننا منذ 30 يونية 2013 حتى الآن، ولم يفهم دلالته الحقيقية الكثير من الناس، وإن بدا أن البعض منهم قد بدأ يفيق من غفلته ويدرك حجم الخديعه التى وقع فيها: أولا: انطلاقا من الأوضاع النفسية والإعلامية التى صنعها المتآمرون خلال الثورة وما بعدها وفى غضون ما يقرب من العامين ونصف العام وبظهور السيسى كبديل محتمل عن الرئيس الذى صوره الإعلام بأنه ضعيف وفاشل كانت الأجواء مناسبة لدعوة الجماهير لثورة مضادة. لم تستطع إخفاء ملامحها الحقيقية؛ فقد كان يقودها رجال الحزب الوطني وأصحاب المصالح الرأسمالية الذين نهبوا الثروة والسلطة.. وبعض ضباط الشرطة والجيش فى ثياب مدنية.. ولكنها اجتذبت أيضًا عددا كبيرا من العبيد والمغيبين؛ دعاهم السيسى ليشاركوا فى مظاهرات التحرير فلبوا دعوته وقالوا له: " شبيك لبيك عبدك بين إيديك". وسميت هذه الواقعة ثورة 30 يونية 2013م ثانيا: فى شهر يولية تكررت دعوة السيسى لنفس المجموعات لتنفيذ المرحلة الثانية من خطة الثورة المضادة بفض اعتصامات المعارضة فى رابعة والنهضة وميدان رمسيس وغيرها.. فجاءوا إليه ليفوضوه فى عمل ما يلزم وهم يكررون نفس الموقف السابق "شبيك لبيك عبدك بين إيديك". واعتبرها السيسى تفويضا بلا حدود للقتل والحرق والتدمير وما تلا ذلك من أعمال وحشية يعلمها الجميع.. ثالثا: أراد الرجل بعض الفتاوى الدينية لتسويغ قتل المعارضين السلميين الأبرياء فجاءه من رجال الدين الأزهري وقيادات حزب النور وغيرهم؛ ممن نشأوا وتربّوا على موائد الحزب الوطني وفى أحضان مباحث أمن الدولة وتحت تهديد المخابرات التى تملك ضدهم وثائق وتسجيلات تفضحهم إذا تردّدوا؛ فجاءوا مذعنين وهم يرددون نفس العبارة: "شبيك لبيك عبدك بين إيديك". رابعًا: لتنفيذ المرحلة الأخيرة من خطة الثورة المضادة جاءه الرئيس الطرطور الذى صنعه هو ليقول له "شبيك لبيك عبدك بين إيديك". وكانت مهمته تقنين نهب ثروة الدولة وممتكاتها الحيوية بنقلها إلى الجيش أو بالأحرى للقيادات الرأسمالية التى تتحكم فى الجيش.. واستفتحها بقانون يمنع أي مؤسسة أو أي حكومة مستقبلية من الاعتراض أو إبطال أي عقود بيع توقعها الدولة مع أي جهة أو طرف آخر.. ثم جاءت بعد ذلك سلسلة عقود البيع والقرارات التى انتقلت بها ملكية أراضٍ حيوية واسعة للجيش كان آخرها ميناء العريش.. وعزز كل هذا بقوانين تعفى عصبة الجيش من أي ضرائب مستحقة للدولة سواء منها العقارية أو أي نشاط اقتصادي استثماري آخر؛ بحيث يحرم الدولة من عائداتها فتعجز أي حكومة مدنية من غير العسكرأن تقوم بتنفيذ أي برامج للتنمية أوالنهضة؛ مما يحلم به الشعب المصري.. وليبقى الجيش قابضًا على السلطة والثروة عقودًا لا سبيل إلى التنبؤ بها، مسيطرا على قوت الشعب؛ يعطى ويمنع حيث يشاء .. وتظل عبارة "شبيك لبيك عبدك بين إيديك". تتردد فى جنبات مصر للفرعون الجديد.. ألم يصرح الزعيم فى فلتة من فلتات لسانه -ولم نفهم يومها معنى تصريحه- عندما قال: " إذا الجيش نزل الشارع، خلاص.. لو حصل ده لن نتكلم عن تقدم مصر للأمام لمدة 30 أو 40 سنة..!" أما وقد نزل الجيش إلى الشارع وفعل ما فعل.. وهبطت أقدام الزعيم فى قصر الرئاسة فقد اكتملت القصة.. وتبينت أبعادها ولم يعد هنالك مكان للغموض أو التخمين. الشعب أصبح يرى الآن بوضوح إلى أي مستقبل تقودنا العصابات الانقلابية..؟! [email protected]