يبدو أنه ينبغى علينا وعلى طول المسير...أن نرجع ونعاود الرجوع إلى البوصلة لنحدد الإتجاة حتى لا نضل الطريق... وتتفرق الجهود...وهذا بديهى ومنطقى...وهذه البوصلة فيما أعنية اليوم هى...التاريخ...الماضى ... من تحكمنا حوادثه وتتحكم بمصائرنا مدخلاته...والسبب فى ذلك على الحقيقة عوامل كثيرة...منها أنه للآن لم يكتب التاريخ من قبل شعوبنا لأنه فى عرف الحرب والسياسة من يكتب التاريخ هو المنتصر, وعليه أمامنا كم رهيب من المغالطات...وقدر هائل من المخفيّات ...فيما يسمى بالتاريخ يتجرعه البعض ويتجرعه أبناءنا بغير وعى, فنفقد الرؤية الشاملة و القدرة على التحليل ومن ثم معرفة ما يدور وتضيع البوصلة...فتتداخل الإتجاهات... وتكثر التحديات ...ومن ثم كان العود للبوصلة أمراً حتمياً... لا يخفى على الكثير منّا جذور الصراع الغربى تجاه العالم الإسلامى ولن نبدأ به اليوم لكننا سنتقدم إلى مابعد الحروب الصليبية والتى إنتهت فى (1291) ونصل إلى مرحلة فى تاريخ الحروب البريطانية الفرنسية والتى إمتدت طويلاً وسنبدأ من نقطة محدده وهى حرب المائة عام الأولى (116 عام) والتى إمتدت من 1337 إلى1453 ثم حرب المائة عام الثانية (126 عام) والتى إمتدت من 1689 إلى 1815 ...غير كثير من الصراعات والحروب الأخرى القصيرة التى إستمرت قبل وبعد هذه الفترة...لكن هذا أيضاً ليس موضوعنا اليوم...فقط نلتقط منها طرف الخيط لننطلق إلى ما وصلت إليه تلك القوتين من نتائج... ففى سنة 1904 بدأت مفاوضات وتفاهمات بين بريطانياوفرنسا مفادها دراسة مستقبل الصراع بينهما وأثرة فى إضعاف قوتيهما المستقبلية وإمكانية تقسيم النفوذ فى المنطقة فيما بينهما وتفادى الصراع الداخلى بين البلدين...مما مهد الطريق للخطوة الأهم والمحورية والتى ستغير وجه التاريخ... فى 5 ديسمبر سنة 1905 وصل إلى مقعد رئاسة الوزراء فى بريطانيا السير هنرى كامبل بانرمان والذى كان مغرماً بفلسفة التاريخ ويعى ما قاله بن خلدون...أن الدول كالأفراد لها مراحل تبدأ من الضعف ثم القوة ثم الضعف والإنزواء... وعليه فقد أدرك الرجل أن بريطانيا سيأفل نجمها شاء أم أبى ...لكنه لم يستسلم وبدأ يفكر فى منع إمبراطوريته من السقوط أو تأخيره... فجمع الخبراء من جامعات بريطانياوفرنسا لدراسة الأمر وبعد بحث شاق وطويل توصلوا سنة 1907 فى مؤتمر كامبل بانرمان إلى دراسة القوى فى العالم عبر مسح جيوستراتيجى مفاده : أن العالم به ثلاث قوى... أولها : القوى الغربية والمقصود بها أوروبا وأمريكا وأستراليا وهى القوى التى تحمل وتنتهج مفاهيم ومقومات الحضارة الغربية ...وعليه يجب دعم هذه الدول حتى يتسنى نقل الحضارة لإحداها متى زالت عن بريطانيا...فيصير النفوذ فى الدائرة الغربية كما هو... القوى الثانية :هى الكتلة الصفراء والمقصود منها الصينواليابان وشعوب شرق آسيا وهذه قوى تحمل مقومات حضارية لكن قيمها...هشة ثم إنها لا تحمل مشروع عدائى للغرب... وعليه يمكن التعامل معها ودعمها فى إطار المصالح المشتركة... القوى الثالثة: هى القوى الخضراء ...اللون الذى يرمز للشر عند البريطانين وهى دول شمال أفريقيا وشرق البحر المتوسط (الدول العربية والإسلامية) وهذا هو الخطر الحقيقى والوريث المحتمل لحضارة الرجل الأبيض... حيث تاريخ الصراع الطويل معها و الذى لم ينتهى... فمنذ الحروب الصليبية وإقامة دولة الأندلس والدولة العثمانية فى قلب أوروبا وصولهما إلى فرنسا والنمسا وموسكو...ثم إنها تحمل مقومات حضارية معادية للغرب ...ذات لغة واحدة...هوية واحده... تاريخ واحد... هدف مشترك طموح... يقظة من خلال مواجهتها للإحتلال ومحاولاتها للخروج منه وعدم إستعدادها للذوبان فى حضارات وثقافات أخرى...وهذه القوة لابد من وضع خطة للبقاء عليها فى دائرة الضعف والتفكك وذلك من خلال تلك النقاط المحددة : 1- إبقاء هذه القوة ( الدولة) فى دائرة التخلف ...وحجب العلوم والتكنولوجيا عنها لتبقى بعيداً عن التقدم وضبطها في حدود معينة. 2- تقسيم هذه الدولة إلى دول ...مع ترك نقاط نزاع حدودية بين كل الدول لنستفيد منها حينما نريد... 3- شطر الجزء الأسيوى وفصلة عن الجزء الإفريقى عبر زرع كيان موالى لنا ليكون منطقة عازلة ( buffer state) ...(وكان هذا مقدمة لزرع الكيان الصهيونى بفلسطين.... بالرغم من انه كان هناك مشروع لتوطين اليهود بشبه جزيرة القرم ...وتم تهجير التتار المسلمين منها إلى سيبيريا عدة مرات بالرغم من أنهم كانوا يمثلون ما يقرب من ثلث عدد السكان تمهيداً لإقامة دولة يهودية بها...لكن هذه التوصيات غيرت الخطة وكانت مقدمة لوعد بلفور 1917...لتكون نقطة تدخل متقدمة فى القوة الخضراء...) 4 – تغزية النزاعات العرقية والطائفية وتشجيع الأقليات على الإنقصال داخل الدولة الواحدة وإقامة أقاليم تتمتع بالحكم الذاتى... لتمكننا من التدخل ...لمزيد من التقسيم وللتفتيت الداخلى عبر الحروب الأهلية والطائفية... سميت هذه الوثيقة وثيقة كامبل أو تقرير بانرمان(1907)...كانت هذه الوثيقة هى الخطة التى رسمت لتكون خارطة الطريق الاوروبية تجاة العالم العربى ولذلك فقد عقبها عدة مسائل فى منتهى الأهمية... ففى 4 أغسطس سنة 1914حاربت بريطانيا بجانب فرنسا فى الحرب العالمية الأولى... ومن نوفمبر 1915 إلى مايو 1916 تم التوصل لإتفاقية سايكس بيكو لتقسيم النفوذ فى الشرق الاوسط بين القوتين بريطانياوفرنسا... وفى 2 نوفمبرسنة 1917 كان وعد بلفور عبر رسالته إلى اللورد روتشيلد بوعده بإقامة وطن قومى لليهود بفلسطين... فى24 يوليو 1923 تمت معاهدة لوزان... والتى نصت على إلغاء الخلافة الإسلامية ...تحويل تركيا إلى جمهورية علمانية...فصل تركيا عن محيطها العربى...زرع الكيان الصهيونى( buffer state ) المنطقة العازلة... فى سبتمبر 1939 أعلنت بريطانياوفرنسا الحرب على ألمانيا لتضع حداً لطموحات هتلر والتى باتت تهدد مصائرهما ومصالحهما وخططهما السابقة فقررتا القضاء عليه...وهنا نلاحظ إعلان بريطانياوفرنسا الحرب هذه المرة فى حين ألمانيا هى من أعلنت الحرب العالمية الأولى...إستمرت الحرب بإنتصارات ساحقة لألمانيا إكتسحت فيه أوروبا كلها ولم تستعصى عليها إلا بريطانيا فى أقصى غرب أوروبا... حتى حدثت الغلطة التاريخية بهجوم ألمانيا على روسيا فى أقصى الشرق فى الشتاء فحاصرهم الجليد وتشتت قواها بين غرب وشرق أوروبا وقضى على الألمان... ضربت الولاياتالمتحدةاليابان بالقنابل النووية (هيروشيما ونجازاكى) ...وفى مايو 1945 إستسلمت المانيا ...وبذلك إنتهت الحرب العالمية الثانية وبالرغم من إنتصار دول الحلفاء بريطانياوفرنساوأمريكاوروسيا...لكن أفلت نجم فرنسا والإمبراطورية البريطانية وبدأ بزوغ نجمين جديدين هما الولاياتالمتحدةوروسيا أو الإتحاد السوفيتى بمعنى أصح هذه المرة على حساب بريطانياوفرنسا ...وصدقت رؤية بن خلدون...وكذلك نجحت مجهودات كامبل ورؤيته الثاقبة والمستشرفة للمستقبل بوثيقته التاريخية...والتى قرأت المستقبل عبر فلسفة التاريخ وإستبقت الحضارة داخل إحدى دول المعسكر الغربى ومازالت تحت قيادة الرجل الأبيض ... وبالرغم من وراثة أمريكا للنفوذ البريطانى حتى بعد مرحلة القطب الأوحد ...إلا أن وثيقة كامبل تطبق بحذافيرها على عالمنا العربى...إنها خطة واعية صدرت عن دراسات وبفكر مؤسسى حقيقى وليست نزوة أو هفوة لمتهور أوطائش أونازى... وعبر إنسجام فريد...ورضاء تام... وتفهم عالى...تقوم أوروبا بدور الوصيف للإمبراطور الأمريكى ...أو سكرتارية لأمريكا...لا عجب ...فهكذا الدول... وهكذا الأفراد...وهكذا الأيام ... فى هذه المقالة حرصنا على إبراز الظروف التاريخية التى إستدعت وثيقة كامبل ...والأجواء التى عملت خلالها... ومضمونها... والنتائج المترتبة عليها حتى الآن... وذلك لأهميتها ولنقرأ الواقع من خلالها ...فى كل بقعة فى العالم العربى... فالتخلف والإستعمار والتقسيم وإثارة النزعات الطائفية والعرقية داخل دولنا العربية والإسلامية هى السمة السائدة... ودواعى التدخل بسبب النزاعات الحدودية بين الدول وبعضها البعض ...أوالنزاعات العرقية والطائفية داخل الدولة الواحدة... هو الداعى الأكبر لدوام السيطرة وبقاء النفوذ وبسط السيادة وبقاء التبعية...من هنا جاءت وثيقة كامبل...ومن هنا كانت ...ومن هنا ندرك أنها جاءت لتحكم و لتصبح عقيدة المعسكر الغربى أيّاً كان قائده... وتحدد إتجاهاته وتحسم مواقفه مسبقاً تجاه معسكر (الشر) العالم العربى ...وبهذا يسيطرون على العالم بفكر وإستراتيجيات وخطط واضحة...ولذلك لم يكن غريباً أن تصدر كتباً بعناوين (صدام الحضارات ... ومن نحن... لصمويل هنتنجتون...ونهاية التاريخ ...لفرانسيس فوكوياما) لتكرس وتجدد ماقاله السير هنرى كامبل بانرمان... ولما تمثله من أهمية فى واقعنا المعاصر حرصت على إلقاء الضوء عليها ولنعرف خطة السير التى ينتهجونها أمامنا...وحتى ندرك البوصلة ...فندرك الإتجاة الصحيح...والتى بدونها تضيع الجهود ...وتضل القافلة فى المسير...وتأتى الفرص فلا نراها حتى تضيع ...ونظل ما تبقى... نبكى أقدارنا...بكاءاً على اللبن المسكوب... حرصت على عدم الدخول فى تفصيلات ...لربما من الأنسب إفراد مقالات أخرى لتوضيحها إذا أراد الله...