"أنا أفكر إذن فأنا موجود": فى الخمسينات من القرن العشرين كانت هذه من أشهر وأبرز العبارات الشائعة على ألسنة المثقفين؛ كأنها العلامة المميزة والفارقة بين المثقف وغير المثقف.. والله يعلم أن بعضهم كان يردِّدُها بلا فهم حقيقي لمغزاها.. أما نحن طلاب الدراسات الفلسفية بكلية الآداب جامعة القاهرة –فى ذلك الوقت- فكنا نقولها عن فهْم ( كما كنا نعتقد)؛ ذلك لأن فكر الفيلسوف الفرنسي " رينيه ديكارت" صاحب هذه العبارة كان جُزْءًا أساسيًّا من موضاعات دراستنا للفلسفة الأوربية ؛ فكنا نقولها بالعربية .. والفرنسية "je pense donc je suis" ونقولها باللاتينية أيضا: " Cogito ergo sum" –ربما والله أعلم- لنُشْعِر الآخرين أننا نحن الأصل وأن الآخرين مقلّدين.. ! كنا نفهم أيضا أن منهج رينيه ديكارت الفلسفى هو المنهج الذى ساد الفلسفة الأوربية فى (القرن السابع عشر الميلادى) والذى تمثل فى هذه العبارة، التى تؤكد أن "البرهان الوحيد على الوجود الإنساني هو التفكير".. ولكن أنضجتنا السنوات بخباراتها وتجاربها المريرة .. وكشفت لنا المعاناة الطويلة مع الواقع؛ حقائق جديدة اتضح لنا فيها أن التفكير وحده لا يدل على كل شيئ يتصل بالوجود الإنساني؛ ربما التفكير هو السِّمة الأبرز التى تحدد الشخصية الفردية وتميّزها عن الشخصيات الأخرى .. غير أنه قد تبيّن لنا أن الذى يستسلم للقهر والطغيان لا يعدم وجوده فحسب وإنما يعدم جدارته بالوجود.. وأن شعوبًا بأكملها اندثرت ومُسحت من على وجه الأرض تماما؛ لأنها استسلمت للإبادة الجماعية للمستعمر الاستيطاني فى أمريكا واستراليا .. ولكن بقيت الشعوب التى قاومت الاستيطان: كما فى الجزائر وجنوب أفريقيا والبوسنة وكوسوفا وفلسطين والجنوب الفلبيني المسلم والشيشان .. وهكذا تراجعت إلى الخلف فكرة "أنا أفكر وإذن فأنا موجود" لتحل مكانها فى الصدارة فكرة: "أنا أقاوم وإذن فأنا موجود"؛ فالمقاومة هي الفعل الفارق بين حياة المجتمع وموته.. وهي المعيار الذى تنحسم به معادلة: (السلطة الطاغية والشعب الرافض للطغيان) .. وهي الثقافة التى ينبغى أن تسود وتتجذّر فى البنية الفكرية والوجدانية وفى السلوك العملي.. لشعب حرٍّ يواجه طاغية أنانيٍّ مستبد.. يريد بانقلابه العسكري أن يحوِّل مجتمعًا حيًّا مُرِيدًا ثائرًا مقاوِمًا إلى قطعان من الغنم والأبقار.. إرادة المقاومة إذن هي الاختيار الوحيد أمام الشعب المصري؛ فإذا كان الطاغية يملك الرصاص فإن الشعب يملك المقاومة وهي أقوى من الرصاص.. لأن للرصاص حدود ونهاية محتومة.. أما إرادة المقاومة فينبوع متدفق كلما حفرت فيه زاد تدفقًا واندفاعًا.. [email protected]