العمل السياسي في جميع دول العالم وعبر جميع العصور هو المسئول الأول عن وضع وتفعيل التوجهات الاستراتيجية، وتنفيذ خطط الحاضر، وصياغة خطط المستقبل، وهو أيضًا الركن الأساس في تسيير شئون البلاد بالداخل والخارج. ولا يداني هذا العمل أي عمل آخر في أهميته وخطورته لقيادة الشعوب نحو تحقيق آمالها المنشودة، وصون ثرواتها والحفاظ على منجزاتها، وتحقيق المصالح العليا للوطن والمواطنين. والأنظمة السياسية الشائعة في دول العالم هي النظام الجمهوري، والنظام المَلَكي، والتي تجمع بين النظم المأمولة -مدنية الأصل-والنظم المفروضة -عسكرية الأصل- والفصل بين تلك النظم جدير بالحذر واجب الاهتمام. وتتفاوت الممارسات الديمقراطية بين تلك النظم بدرجات متباينة وأشكال متنوعة. وفي جميع الأحوال لايصح شغل المناصب القيادية العليا دون تحقق الضوابط اللازمة ، ولا يجوز ممارسة المهام السياسية الاستراتيجية دون توفر الحد الأدني من الشروط التي تضمن وضوح الرؤية، والمتطلبات التي تحقق استشراف المستقبل بفكر شمولي مستنير، وعقلية واعية، وخبرات علمية وعملية متميزة. والخيارات المتاحة لتلك القيادات تجمع بين الخبراء الأكاديميين العلميين، والتكنوقراط، والخبراء الوطنيين، والمجتهدين من المدنيين، والكتلة ذات الزخم الأكبر من العسكريين غير العلميين وغير الأكاديميين الذين يسعون بلا هوادة نحو العمل السياسي، وممارسة أعمال السلطة العليا لإدارة شئون البلاد، وذلك بتغيير مسارهم قسرًا من الحياة العسكرية الخالصة عديمة الديمقراطية، إلى الحياة السياسية المدنية ذات النظم الديمقراطية الكاملة. وذلك بدعوى قُدْرَتِهم على الضبط والربط، واعتمادًا على إلمامهم بالمعلومات والاستخبارات، واطلاعهم على عديدٍ من الثقافات والدراسات في أروقة وكليات إعداد القادة العسكريين. وإن صح هذا المفهوم، واستقام ذلك الموقف، فأين ممارسات العمل الميداني المدني؟ وأين خبرات وثقافات العمل الحزبي السياسي أو العمل السياسي المستقل؟ وما هي المؤهلات والمؤلفات؟ وما هي الإنجازات والإبداعات التي تؤهل القائد العسكري للتحول المفاجئ إلى قائد مدني سياسي بمفهوم علمي وواقعي شامل؟
ومن المعلوم في الحياة المدنية ضرورة المرور بفترات انتقالية متباعدة، واختبارات دورية متتالية، ودورات تدريبية متنوعة للانتقال من مجالٍ إلى مجال، ومن وظيفة إلى أخرى للمهنة الواحدة: كأعضاء هيئات التدريس بالجامعات ذوي المؤهلات والدراسات العليا، والأطباء والمهندسين بمختلف تخصصاتهم، ورجال النيابة والقضاء، والمحامين والصحفيين، وأصحاب الحرف بشتى أنواعها، وأصحاب المهن باختلاف أشكالها...وغيرها من المجالات. وقد اعتمدت كثير من بلدان العالم المتقدمة والناهضة على مدى عقود طويلة في إدارة شئونها على القيادات المدنية، والتكنوقراط والعلميين والأكاديميين، وذوي الخبرات المتنوعة في الحياة السياسية والمدنية. بينما كانت دول العالم الثالث النامية تعتمد في إدارة شئونها على قيادات المؤسسات العسكرية ممن تعلموا وتدربوا وعملوا بالأساليب العسكرية دون غيرها من الأساليب، ويحدث ذلك إما على أثر انقلاب عسكري بالبلاد، أو نظرًا لانتماءات الحاكم العسكري، حيث ينظر العسكريون على أنهم أهل ثقة وضبط وربط، يحسنون إدارة وتنظيم شئون البلاد -من وجهة نظرهم-، مما أدي -مع مرور الوقت- إلى عسكرة الحياة المدنية فى كثيرٍ من بلدان العالم النامي.
ويرصد لنا التاريخ عسكرة الحياة المدنية في مصر، الذي بدأ بتشكيل ما سمي بتنظيم شباب الضباط الأحرار، بقيادة جمال عبد الناصر، للإعداد لانقلاب عسكرى، لعديد من الأسباب، وفي حينها أعلن الجيش عن قيام ثورة الشعب والجيش فى 23 يوليو 1952 بقيادة اللواء محمد نجيب وهو أول رئيس جمهورية لمصر. تم الإعلان عن مجلس قيادة الثورة الذى تولى قيادة البلاد مستندًا الى الشرعية الثورية، والشروع فى تنفيذ الأجندة الثورية لبناء كيان سياسى جديد لمصر، وتحقيق مبادئ الثورة الستة التي أعلنها الرئيس محمد نجيب. استمرت الثورة فى سنواتها الأولى بقيادة اللواء محمد نجيب والتى أفضت إلى خلاف جذرى بين اللواء محمد نجيب الذى طالب بعودة الضباط الأحرار إلى ثكناتهم العسكرية، وتسليم السلطة إلى المدنيين، ودعم الحياة الديمقراطية، وبين مجلس قيادة الثورة الذى قرر بإجماع آراء أعضائه القيام بدور المستبد المستنير-وفي حقيقة الأمر أثبتت الأيام والأحداث أنه خلاف ذلك- واكتساب صلاحيات شاملة مما جعله وصيًا ومراقبًا على الشعب فى جميع مؤسسات الدولة. تم حسم الخلاف بين مجلس قيادة الثورة واللواء محمد نجيب بعزله من منصبه، وتحديد إقامته بالقاهرة لعشرات السنين، وكانت بداية المأساة الكبرى التى أدت إلى تحجيم الممارسات الديمقراطية والشروع فى عسكرة الحياة المدنية فى مصر.
وعلى ماسبق توالت ممارسات عسكرة الحياة المدينة بمصر، حيث انطلق الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة بقيادة رئيس الجمهورية الجديد جمال عبد الناصر بتبديل وإحلال معظم القيادات المدنية بالقيادات العسكرية الحربية غير الناضجة، وغير المؤهلة لممارسة العمل السياسى، وتسيير شئون البلاد بدعوى ترجيح المقربين من أهل الثقة والضبط والربط على المدنيين من أهل السياسة والخبرة، مما أحدث فجوة كبرى فى مسيرة مصر نحو الديمقراطية، وأعاق تشييد مصر العصرية على أسس علمية وتخطيط متكامل، وما ترتب على ذلك التبديل والإحلال من تراكم المشكلات، وتدهور جميع المجالات، وما نحن فيه خير دليل من غير تأويل. أقول قولي هذا ولن أزيد.. وإن غدًا لناظره قريب.. والله على ما أقول شهيد..