يخطىء كثير من المصريين اليوم باستباق الأحداث، وعدم حسن قراءة الواقع، بل القفز عليه في تخيل لإمكانية تكرار لسيناريو سابق، دون كامل إدراك لطبيعته الأولى، أو نظر دقيق في موقف القوى التي تحسب أنها أسهمت في نجاحه، وتتخلى اليوم بل تتخذ الموقف المضاد، فمن شرفاء المصريين اليوم من ينتظر يوم 25 من يناير المقبل بفارغ الصبر، بل بدأت تظهر دعوات على صفحات التواصل الاجتماعي للانتصار لما يُسمى الثورة المصرية من جديد في يوم تاريخها الأول، دعوات سبق تكرارها في 6 من أكتوبر الماضي، وآمال عريضة علقها التحالف الوطني لدعم الشرعية على دحر الانقلاب في ذلك اليوم، ومحاولة دخول ميدان التحرير قادت إلى استشهاد عدد جديد من المصريين، رحمهم الله تعالى، واعتقال آخرين، وهكذا يحيي المصريون، من آسف، عادة التفاؤل بتواريخ للنجاح في محاولة دائبة لتحقيق نجاح جديد؛ سواء أكان في نفس مجال التوفيق الأول أو في مجال مغاير. لدينا تنامٍ متوقع للدعوة إلى خروج الملايين في 25 من يناير المقبل، أو في استلهام روح 6 من اكتوبر، والأمر ليس عجيباً على شعب ظهر فيه في الاتجاه المضاد مَنْ قاموا بإعادة بعض سياقات احداث يوم 25 من يناير 2011م في 30 من يونيو 2013م، الذكرى الأولى لتولي الرئيس المنتخب محمد مرسي السلطة، من تجمع بشري في ميدان التحرير، وبقية ميادين مصر، ثم تصويرهم والإعلان عن نجاح ثورة جديدة في 6 ساعات، بعد نجاح ثورة أخرى في 18 يوماً منذ أقل من عامين ونصف العام فقط، ولندع عشرات الأسئلة جانباً عن الثورة الحقيقية مقوماتها، وتداعياتها، وشروط اكتمالها لنتسأل فقط: كم ثورة في العام لدى هؤلاء؟ وكم عاماً في الثورة؟ يخطىء من الشرفاء كثير باستدعاء السياق نفسه، ولو كان خطؤه بدافع حسن النية، فخروج الملايين يوم 25 من يناير المقبل لن يعيد وحده الأمور إلى نصابها في مصر، ولو كان اليوم يوم إجازة تقر بها الدولة، ذلك لسبب بالغ الوضوح فما أمور الثورات الشعبية الحقيقية بالتي تقوم على القياسات بهذه الطريقة البدائية للأسف الشديد، وما اختمار النهج الثوري داخل النفوس، والمدد العملي لإنجاحها، بحساب بسيط كهذا، وإن قام الطرف المضاد، الجيش ومن والاه من علمانيين وليبراليين ويساريين بل إسلاميين، ومن شق شقهم وسار على دربهم، بإدعاء قيام ثورة على نفس النهج، فما أفلحوا إلا بقوة السلاح في النهاية، وما قاموا به إلا انقلاب على استحقاقات انتفاضة شعبية في 25 من يناير منذ ثلاث سنوات عجاف تقريباً، وبقية المعادلة معروفة للعيان من ضيق الجيش ذرعاً بوريث الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، والأمر لم يكن يخص ظلم سياسات، فما شعر الجيش بها، وما كان ليهمه هذا الأمر أصلاً، إن لم يكن قد أسهم فيه للأسف الشديد، ولكنه لم يكن يرى طريقاً قادماً سوى طريق جمال مبارك، ومن ثم سمح بوجود انتفاضة ضد أبيه، ولم يحمها لكن لم يتدخل لفضها، بل أسهم فيما قيل عنه هزيمة للداخلية في 28 من يناير، جمعة الغضب، والكلام في هذا السياق كثير وبالغ الوضوح، فالداخلية المصرية التي هزمت في ثلاثة أيام، وصدق المصريون، هذا ثابتة ثبات المخازي منذ زيادة على مائة وخمسين يوماً، والشواهد البسيطة على قطع الاتصالات يوم الجمعة السابق الذكر تقول أن وكيلاً للنيابة ذهب إلى مركز الاتصالات الرئيسي في المقطم لبحث السبب فقيل له إن ذلك عمل من أعمال الأمن القومي لا يجوز لمثله البحث عنه.. على أن الإيغال الذهني على هذا النحو لا يمكنه أن يغفل قيمة الحراك الشعبي الحالي بل الاسطوري في الشارع المصري، ومحاولته الدائبة المستميتة إنجاح روح 25 من يناير التي سمح بها الجيش وتمادى في خداع قوى ثورية وثقت للأسف فيه، ومنها الإخوان المسلمون، وأن الثورة ما هي إلا تراكم لأفعال الانتفاضات الشعبية وتكثيفها وتطويرها على نحو دائب دائم، وتقديم آلاف الشهداء، والمصابين والمعتقلين بجلد شديد لعشرات الأيام والليالي، وأن الحراك الدائب هذا قد يأذن له رب العزة بالتكليل والتوفيق بين عشية وضحاها، وقد يكون الأمر أقرب مما يتوقعون، ومع ترك باب الأمل مفتوحاً في نفوس الثوار فإن الارتكان إلى تاريخ معين، والإعداد اللاهث له يتسبب في حشد بشري ومعنوي ليوم قد لا تسفر الأحداث فيه إلا عن مزيد من الكفاح الثوري، ويتسبب الأمر عادة في إيهان الحراك الثوري في النفوس لبعض الوقت.. حتى تستفيق في انتظار تاريخ جديد.. بقي إيضاح بالغ الأهمية، فإن كان الجيش المصري بانحيازه إلى مصالحه الاقتصادية، وضيقه بتوريث السلطة في مصر لجمال مبارك قد أطاح بمبارك الأب، إلا أن الأمر لا يعدو إلا أن يكون الأول قد ابتدأ، من حيث لا يدري، سياق ثورة عظيمة ظن أنه قادر على استيعابها، وإطلاق اسم ثورة عليها، ثم الثورة (ثانية) عليها، فلا مجال إلى الظن بأن 25 يناير، أياً ما كان مسمى ما حدث في ذلك اليوم، قد حدث بفعل الجيش، بل إن فعلاً بدأ حدوثه في 25 من يناير 2011م بفعل الشعب المصري العظيم، استمر.. مر بمنعطفات بالغة الخطورة، علواً وهبوطاً، في 18 من نوفمبر 2011م، المعروفة بأحداث محمد محمود، و30 من يونيو، بالالتفاف عليه، و14 من أغسطس 2013م، بمجزرتي رابعة العدوية والنهضة، ولكن الفعل مستمر ما دامت في الثوار الحقيقيين عزيمة متوثبة، وما دام في الصدور إيمان بالقدرة على التغيير، وعند اكتمال الحدث الثوري العظيم، في آن قريب بإذن الله تعالى، سيكون هناك متسع هائل للتساؤول عن صحيح الأسماء والمسميات..