عام 1965 اعتقلت الشرطة العسكرية إخوان كرداسة.. وفى 2013 اعتقل الجيش والشرطة أهل كرادسة! بمناسبة الهجمة الأمنية الشرسة التى تتعرض لها قرية كرداسة بمحافظة الجيزة.. نعيد نشر هذا الفصل (مأساة كرداسة) من كتاب (مذابح الإخوان فى سجون ناصر) لمؤلفه جابر رزق، الذى نشره عام 1976 يؤرخ فيه لما تعرض له الإخوان المسلمون على يد جمال عبدالناصر. والفصل خاص بما تعرضت له قرية كرداسة على يد قوات أمن عبدالناصر: كيف بدأت المأساة؟! كانت الشرطة العسكرية قد أطلقت يدها فى الشعب المصرى وكان شمس بدران ورجاله يجمعون فى أيديهم كل السلطات طبعا فى ظل الطاغية الأكبر جمال عبد الناصر وبعلمه ورضاه بل وتوجيهاته، ولا يقبل عقل أى إنسان أن شمس بدران كان أقوى من جمال عبد الناصر.. شمس بدران كان أحد كلاب الحراسة المخلصين لجمال عبد الناصر.. وبدأ تنفيذ المؤامرة المبيتة لسحق الإخوان المسلمين، وكما قلت لما اكتشف تنظيم للإخوان المسلمين وكان ذلك بمثابة الضوء الأخضر للبدء فى المجزرة الهمجية البربرية التى أقيمت ليس فقط للإخوان بل لكل من يريد الطغاة أن يسحقوهم.. وكان السيد نزيلى أحد أبناء قريتى عضوا فى التنظيم وذهب رجال الشرطة العسكرية للقبض عليه.. وعندما وصلوا إلى منزل السيد نزيلى للقبض عليه فلم يجدوه.. ووجدوا أخاه عبد الحميد نزيلى وأتركه يروى ما حدث.. يقول عبد الحميد: "كان ذلك عند غروب الشمس يوم 21 أغسطس سنة 1965 وكنت واقفا أمام منزلنا.. وإذا بثمانية رجال مفتولى العضلات مفتوحى الصدور يلبسون قمصانا على اللحم!!.. وبنطلونات ضيقة دخلوا حارتنا ووقفوا أمامى وسألونى عن أخى السيد نزيلى الأخصائى الاجتماعى.. قلت لهم: "تفضلوا.. أنا أخوه" وفتحت لهم الباب وأجلستهم فى حجرة الضيوف وعملت لهم الشاى، ثم قلت لهم: "إن أخى فى القاهرة.. ولكنه لن يتأخر كثيرا وسوف يحضر بعد قليل". فجأة وجدت اثنين منهم وقفا على باب البيت واثنين آخرين اقتحما المنزل وصعدا إلى الدور الثانى حيث زوجة أخى "العروس"! التى لم يمض على زفافها إلا تسعة أيام.. فوقفت دهشا وقلقا وقلت لهم: - من أنتم؟ وماذا تريدون؟ _ فتقدم منى أحدهم شاهرا مسدسه ووضعه فى بطنى وهددنى قائلا: إذا تكلمت سأفرغ المسدس فى بطنك!! قلت لهم: "من حقى أن أعرف من أنتم؟!.. وماذا تريدون؟!". فجأة وجدت نفسى ملقى على الأرض.. وقفت بسرعة وجريت إلى صالة البيت.. فلحق بى اثنان منهم شلا حركتى وجرانى إلى الخارج فأخذت أصيح: "أنتم لصوص.. ماذا تريدون منى؟! وزاد صراخى.. فخرج الناس من البيوت يستطلعون الخبر.. ازدحم الناس من حولى يسألون فى دهشة ولا جواب إلا صراخى: حرامية حرامية! وبدءوا يسيرون فى شارع وسط البلد وتقدم بعض شباب القرية ليخلصونى من أيديهم فأخرج واحد من الرجال الثمانية مسدسه وأطلق الرصاص فى الهواء للإرهاب.. واستمروا يجروننى على الأرض والناس يخرجون من بيوتهم وطلقات الرصاص تتوالى.. وعلى بعد أمتار من ورائى كانت زوجة أخى "العروس" يجرونها هى أيضا وصرخات استغاثتها تتوالى.. لقد ظننت فى أول الأمر أنهم جاءوا لخطف زوجة أخى.. وحتى هذه اللحظة لا أعرف أنهم من رجال الشرطة العسكرية لأنهم كانوا يرتدون الملابس المدنية ولم يأت معهم خفير من عند العمدة ولا عسكرى بوليس من النقطة، كما أنهم لم يذهبوا بنا إلى دوار العمدة ولا إلى نقطة الشرطة وإنما اتجهوا بنا ناحية أخرى كانت تنتظر فيها السيارات". من هو السيد نزيلى الذى جاءت تقبض عليه الشرطة العسكرية ويحاولون أن يأخذوا أخاه وزوجته العروس رهينة حتى يقبضوا عليه؟!. السيد نزيلى هذا كان أحد "أشبال" دعوة الإخوان المسلمين قبل سنة 1954 وكان سنه لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره إلا بقليل، وكبر السيد نزيلى وكبرت معه دعوته وتمكنت من نفسه.. لم ينسها لحظة بل حفظها بين جوانحه، وكان رغم الأجهزة البوليسية التى كانت تحمى نظام حكم عبد الناصر والتى كانت جماعة الإخوان المسلمين هدفا رئيسيا من أهدافها، كان رغم كل ذلك يعمل لدعوته، يقيم عليها نفسه، ويدعو إليها غيره، كانت الدعوة الإسلامية.. دعوة الإخوان المسلمين.. المحور الذى تدور حوله حياة السيد نزيلى، ويعمل على بقائها حية رغم ليل الإرهاب، وعندما أراد أن يتزوج السيد نزيلى اختار أختا مسلمة.. من الأخوات المسلمات، هى أخت عبد الحميد عبد السميع أحد قادة تنظيم سنة 1965 وأحد أبناء قرية كرداسة المقيمين. لقد ذهب رجال الشرطة العسكرية ليقبضوا على إخوان قرية كرداسة وكان السيد نزيلى من بينهم فبدأوا بالقبض عليه، فلما ذهبوا ولم يجدوه بالمنزل أخذوا أخاه وزوجته رهائن.. وكانت تلك بداية المأساة!! ويكمل عبد الحميد نزيلى قصة المأساة فيقول: "أيقن أهل القرية أننا مخطوفون أنا وعروسة أخى القاهرية.. فتقدم بعض شباب القرية ليخلصونا من أيديهم.. فحدث اشتباك مع الرجال الخاطفين.. فتكاثر الأهالى على الرجال الثمانية.. واشتركت النساء والأطفال بضربهم بالطوب والحجارة.. فهرب سبعة من الرجال الخاطفين وأصيب الثامن وأغمى عليه وتجمع الناس من حوله. تركت زوجة أخى تعود إلى المنزل وذهبت إلى نقطة شرطة القرية، وعملت محضرا قلت فيه: "إن ثمانية رجال هاجموا منزلنا وأرادوا خطف عروسة أخى وخطفى وأطلقوا النار للإرهاب، واستطاع الأهالى أن يخلصونا من أيديهم، وعندما سمع الشاويش النوبتجى منى هذا الكلام طلب من العساكر الإسراع للقبض على الخاطفين، فقلت له: إن واحدا منهم أصابته ضربة من أحد الأهالى ووقع على الأرض متأثرا بجراحه، أسرع الشاويش النوبتجى إلى المكان فوجد الرجل مغمى عليه والناس من حوله يتحدثون عن قصة الخطف، انحنى الشاويش على الرجل المصاب وفتش جيوبه فأخرج من أحدهما بطاقته الشخصية فقرأها وقال لأهالى القرية: _ خربت يا كرداسة.. مصيبة وحلت عليكم يا أهل كرداسة إن هؤلاء الرجال ليسوا لصوصا أنهم من رجال الشرطة العسكرية! وكان الشاويش عبد الحكيم يعرف جيدا أن الشرطة العسكرية هى صاحبة الحول واليد الطولى فى هذا الوقت بيدها مقاليد الحكم، وهى يد الحاكم الباطشة وسوطه الذى يلهب به ظهور أبناء الشعب.. لقد فقدت وزارة الداخلية كل صلاحيتها حتى أصبح رجال الشرطة (البوليس) وحتى رجال المباحث العامة سخرية الشرطة العسكرية وقتئذ!!. أسقط فى يد الشاويش عبد الحكيم.. ولكن الأهالى لم يستطيعوا أن يدركوا أبعاد ما قاله شاويش النقطة.. صرخ فيهم الشاويش، وأراد أن ينبههم إلى فداحة المصيبة وما يمكن أن يحل بهم ولكن الناس لم يغادروا المكان.. أرسل الشاويش أحد الجنود يطلب سيارة الإسعاف.. وجنديا آخر ليبلغ الحادث إلى مركز إمبابة وبقى هو ومن معه حول الرجل المصاب.. ولم تمض ساعة زمن حتى وصلت مجموعة من العربات المملوءة بالضباط والجنود أصحاب الباريهات الحمراء من رجال الشرطة العسكرية إلى مكان الحادث، وكان الأهالى لا يزالون، واقفين ولكن بعيدا عن الرجل المصاب.. نادى أحد الضباط على بعض الأهالى ليسمع منهم كيف وقع الحادث.. تشجع ثلاثة شبان من الأهالى وتقدموا إلى حيث الضباط بعد دقائق قليلة انهال الضباط على الشبان الثلاثة باللكمات، وكان ذلك بداية الإرهاب الذى وقع على أهالى قرية بأسرها، تفرق الناس، كل ذهب إلى منزله ولكنهم توجسوا خيفة مما يمكن أن يحدث.. وتتابعت سيارات الجيش المحملة بالضباط والجنود. ولم ينم الناس ليلتهم.. وكانوا يتسمّعون من خلف الأبواب المغلقة ويرون من على أسطح المنازل الدبابات.. والمصفحات وهى تزمجر فى شوارع القرية وحاراتها.. وحلقت الطائرات فى سماء القرية ووصل إلى القرية وزير الداخلية وقتئذ عبد العظيم فهمى.. والفريق على جمال الدين رئيس غرفة عمليات الجيش.. وشمس بدران ومحافظ الجيزة ومدير الأمن ومأمور المركز، جاءوا جميعا ليشرفوا على عملية "تأديب" القرية لأن أهلها المسلمين استجابوا لاستغاثة زوجة أحد أبنائهم الكرام الذين عرفوا بالخلق الكريم والسيرة الحسنة، فخلصوها من أيدى خاطفيها الذين لم يدخلوا من بابها فعمدة القرية لم يعلم بمجيئهم ولا شيخ البلد ولا أى خفير من الخفراء، كما أن ضباط النقطة لم يكن عندهم علم كذلك بطلب القبض على السيد نزيلى، بل لقد تبين للسيد نزيلى ومن معه أنه لم يكن هناك إذن بالقبض على أحد وقت القبض عليه!! وحوصرت القرية من جميع الجهات وانتشرت المصفحات والدبابات والسيارات فى شوارع القرية ودروبها، وبدأت الأوامر تذاع من خلال مكبرات الصوت بفرض حظر التجول وسمع الأهالى أصوات الوعيد والتهديد لكل من يخالف الأوامر.. وأحسوا بالهول وقبعوا خلف الأبواب المغلقة ينتظرون ماذا سيأتى به الصباح، وبدأت عمليات القبض على عمدة القرية ومشايخ القرية والخفراء وشيخ الخفراء وجميع عائلة العمدة وهى من أكبر عائلات القرية.. ربطوهم جميعا بحبال وساقوهم كالبهائم.. النساء فى قمصان النوم نصف عرايا يولولن والأطفال يصرخون والرجال فى ذهول يجللهم الذل والعار.. اتجهوا بالجميع إلى نقطة القرية وانهال الزبانية عليهم "بالكرابيج" والعصى بلا رحمة، وبلا اعتبار لأى قيمة إنسانية.. مزقوا ثياب الرجال وتركوهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم أمام الزوجات والأطفال!! وروى لى جزءا من المأساة يوسف أيوب المكاوى -ابن عمدة القرية السابق وأخو العمدة الحالى- قال: "سمعنا مكبرات الصوت تحذرنا من الخروج أو الدخول.. طلبوا ممن فى الداخل ألا يخرجوا ومن الذين فى الخارج ألا يدخلوا وألا يغادر أحد مكانه.. قبضوا على أخى العمدة على أيوب وابن عمى شيخ البلد العجوز السيد حمزة رحمة الله عليه.. وأخى محمود فهمى عضو مجلس النواب السابق وجميع رجال العائلة ونسائها وجميع الأطفال فوق سن 12 سنة.. ساقونا جميعا إلى المدرسة الإعدادية التى اتخذتها الشرطة العسكرية مقر قيادتها لأنها تقع فى وسط القرية وحولوها إلى ساحة تعذيب رهيبة.. ربطونا جميعا أسرة العمدة من أيدينا.. مزقوا ثيابنا ووقفنا عرايا.. بكيت حزنا عندما رأيت أخى العمدة وأخى محمود عريانين كما ولدتهم أمى.. تمزقت عندما رأيت ابن عمى الشيخ سيد حمزة نائب العمدة والبالغ من العمر أكثر من ستين عاما ليس عليه سروال ومنهكا من التعذيب!! لقد جردونى من ملابسى.. وطرحونى على الأرض ومزقوا جسدى بالسياط سلخونى سلخا.. ووضع الفريق على جمال الدين –الذى قيل إنه قتل بالسم– إصبعه فى عينى.. وبعد هذه الطريحة أوقفونا بعضنا أمام بعض وأمرونا أن يضرب أحدنا الآخر، والذى لا يضرب بقوة يمزق بالسياط ثم أمرونا أن يبصق كل منا على وجه الآخر...!! كان بعضنا يضرب البعض الآخر وكنا نبكى لأن ذلك كان أقسى على النفس من ضربات السياط.. ثم أنهكونا بالأمر بالقيام والجلوس وبعد ذلك أخذونا طابورا كطابور أسرى الحرب، وأركبونا عربات مكشوفة وطافوا بنا شوارع القرية الرئيسية وكانوا يضربون النساء والأطفال بالسياط حتى يعلو صراخهم فيكون ذلك أمعن فى الإرهاب لأهالى القرية!!