(1) أّصابتنى الدهشة لبيان رسمى صادر من وزارة الخارجية المصرية.. وكأنه إعلان حرب على رئيس وزراء تركيا "طيّب رجب أردوغان"- اندهشت كثيرا لما فيه من مبالغات.. ولما يحتوى عليه من ادعاءات غير صحيحة.. ولوصفه الأشياء على خلاف حقيقتها.. وسألت نفسى عن سر هذا الهجوم الأحمق الذى لا يتمتع بأي كياسة من الدبلوماسية المعهودة بين الدول المحترمة.. التى لا تندفع فى خصومات غير مبرّرة.. تجلب لها الأعداء وتهدم علاقاتها الخارجية دون مراعات لمصالحها التى تتعرّض للخطر جرّاء هذه المواقف المتشنّجة.. كان موضوع الهجوم تصريحات –غير مُمَحَّصة- نسبتها الصحف لرئيس الوزراء التركي تعليقًا على موقف شيخ الأزهر المؤيد للانقلاب العسكري فى مصر.. اعتبرتها الخارجيىة جريمة لا تُغتفر.. يقول البيان : " إن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان تطاول على قامة دينية وإسلامية كبرى ممثلة في فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الذي يمثل أكبر وأعرق مؤسسة وجامعة إسلامية في العالم أجمع″. ويهبط البيان بمبالغاته الصبيانية حيث يقول: "إن هذا يمثل تماديًا وتطاولًا ليس فقط في حق مصر، وإنما أيضًا في حق المسلمين في كافة بقاع الأرض، ويتجاوز كافة الحدود"..! ثم يضيف مؤكّدا على سوء النوايا والدوافع من الجانب التركيّ: "لعل هذا التطاول والتجاوز يثير الشكوك حول مغزى ودوافع هجوم المسؤولين الأتراك المستمر على مصر ورموزها عقب ثورة 30 يونيو2013″. ويمضى البيان يُوَلْوِلُ على المصيبة التى وقعت على مصر والعالم الإسلامي بسبب تصريحات رئيس وزراء تركيا.. ويستفز المسلمين فى العالم للنهوض فى وجه هذه الكارثة والتصدّى لها.. كأن أردوغان قد حوّل مجرى النيل عن أرض مصر..! صحِبتْ هذه الوَلْوَلَة أزمة مُفْتعلة من الجانب المصرى أدَّت إلى توتر فى العلاقات.. جرى فيها سحب سفيريْ البلدين .. وتفجرت –كالعادة- مهاترات صحفية وإعلامية.. انطلقت فيها زوبعة لا ضابط لها من الكتابات والتعليقات الجارحة ؛ شملت شخصية أردوغان وحزبه وبلاده.. ولم يسلم فى هذه الحملة الهوجاء شيء فى تركيا من التشويه والافتراءات.. حتى التاريخ العثمانى والمسلسلات التركية التى كان الإعلام المصري يدبّج فيها قصائد المدح فى أزمان سابقة.. لا بد أن نستبعد من حسابنا أولا فكرة أن نقد شيخ الأزهر في موقف معين هو إساءة إلى الأزهر كمؤسسة عالمية ولا هو إساءة إلى مصر فليس هناك تطابق على الإطلاق.. وافتراض التطابق عبث صبياني لا يليق بوزارة تمثل مصر فى الخارج.. كما أن فرض فكرة أن 30 يونية كان ثورة -على العالم- فيها تجاوز للحقيقة.. خصوصًا إذا ربطناها بالانقلاب العسكري الذى ترتّب عليها.. وعلى أحسن الافتراضات هى مسألة عليها جدل كبير.. وليس حولها إجماع لا فى مصر ولا خارج مصر.. ولكي نضع الأمور فى نصابها يجب أن نفهم أن سر الهجوم على أردوغان لا علاقة له مطلقًا بنقد أردوغان لشيخ الأزهر.. ولكن لأن أردوغان صرّح برفضه للانقلاب العسكري .. وسمَّاه باسمه الصحيح .. لم يعترف بالانقلاب على الرئاسة الشرعية المنتخبة وعلى الديمقراطية وعلى الدستور الذى استُفْتي عليه الشعب وأقرّه.. وهو بهذا لم يخرج عن الإطار العام لموقف دول الاتحاد الأوربي.. ولا دول الاتحاد الإفريقي التى أوقفت تعاونها مع مصر.. ولم تعترف بحكومة الانقلاب العسكري.. هذه الحكومة لم تحظَ حتى اللحظة الراهنة إلا باعتراف خمسة دول عربية.. ضالعةٍ فى التآمر على حكومة الرئيس مرسى.. ومسانِدَةٍ للانقلاب العسكري .. وذلك لأسباب ليست خافية على أحد؛ من أبرزها وقف زحف الربيع العربي نحو عروشها الاستبدادية.. أما قصة الغضب لشيخ الأزهر وكرامة الأزهر فهى خرافة مضحكة يتذرّع بها البعض لإخفاء عوراتهم .. ويتسلّى بها الحمقى فى نواديهم الصحفية والإعلامية التى أدمنت الكذب وتلفيق الاتهامات.. ولو كان الأمر جادًّا حقًّا ولا هزل فيه.. لطلبت مصر رسميا من الرئيس التركي موافاتها بحقيقة تصريحاته عن شيخ الأزهر.. ولتعاملت مع الموقف بحكمةٍ، ووفقًا للأصول الدبلماسية فى العلاقات الدولية.. وعادةً ما تنتهى الأزمة عند هذا الحد: إما باعتذار مقبول.. أو إلقاء اللوم على بعض أجهزة الإعلام التى حرّفت الكلام عن موضعه.. أو لم تحسن النقل والتفسير.. ولكن خارجية الانقلاب لم تفعل .. وإنما انتهزت الفرصة لتمضى فى عملية تصعيد مكشوفة.. فما حقيقة ما قاله اردوغان وفى أي سياق قيل..؟ : دُعِىَ أردوغان إلى الحديث فى أكاديمية تحمل اسمه فتحدث عن مسئولية العلماء وضرورة استقلالهم عن رجال السياسة.. ولكي يوضح الأمر تتطرّق إلى مثل واقعي حاضر فى الأذهان؛ فضرب المثل بما حدث فى مصر.. قال: "إنه أصيب بخيبة أمل حين وجد أن شيخ الأزهر قد ظهر إلى جوار قائد الانقلاب فى المؤتمر الذى أُعلن فيه عزل الدكتور مرسى.." وعلق على ذلك برأي سبق أن أعلنه من قبل [يعنى لا جديد فيه] حيث قال: "إن هذا ليس مكان أهل العلم ولا هو دورهم فى المجتمعات، واعتبر أن هذا موقف لن يغفره التاريخ.." أقصى ما يمكن به وصف هذا الكلام أنه نقد مشروع لموقف سياسى تورّط فيه شيخ الأزهر.. ما كان له أن يتورّط فيه؛ حفاظًا على كرامة منصبه ومسئوليته أمام جماهير المسلمين وأمام الله.. ووصْفُه بأنه تطاوُلٌ مبالغة مقصودة؛ للنيل من أوردوغان على موقفه من الانقلاب العسكري وعدم الاعتراف بالحكومة التى ترتبت عليه.. بل كان من الممكن -فى الظروف العادية- وصفه بأنه عتاب أو حتى خلاف فى الرأى يمكن تحمِّله أو التغاضى عنه.
لو تجاوزنا المبالغات فى تعظيم شيخ الأزهر -كما وردت فى بيان الخارجية المصرية- وتجاوزنا التهويل فيما لحق بمقامه السامى من إساءات.. فإننى أرفض كما يرفض كل ذى عقل محاولة التوحيد الساذجة بين الأزهر كمؤسسة وبين شخص شيخ الأزهر.. الذى مهما علا شأنه لا يعدو أن يكون فردًا مثل سائر البشر يخطئ ويصيب .. كلامه قابل للمناقشة والنقد.. يأتى ويذهب ليحل مكانه شخص آخر.. دون أن يؤثر هذا على قيمة المؤسسة وكيانها أو على مركزها التاريخي فى مصر والعالم..
لقد مرَّت بالأزهر محن وحيكت له المؤامرات.. وجرت عليه عمليات تشويه تحت شعار إصلاح الأزهر؛ من أبرزها قانون إصلاح الأزهر لسنة 1963م .. ولعبت السلطات الحاكمة فى بنيته الإدارية والتمويلية لتجريده من استقلاليته؛ فألغيت الأوقاف الخاصة به وجعلت منصب شيخ الأزهر بالتعيين.. لتخضعه للسلطة الحاكمة.. حتى ليعلن شيخ الأزهر السابق أنه مجرد موظف فى الدولة يتبع ما تمليه عليه سياسة الحكومة ويتبنى توجّهاتها.. وقد كانت دولة استبدادية ساد فيها النهب العلني واستشرى الفساد.. وهذا لعمرى أقصى ما أصاب منصب شيخ الأزهر من دركات الانحطاط فى تاريخه الطويل..
ومن ثَمَّ شاهدنا المواقف المتقلّبة والمخزية لشيخ الأزهر التى اشتهرت فى عهد مبارك واستجْلَبت النقد والهجوم؛ حتى أصبح الشيخ مضغة فى فم رجل الشارع الذى أطلق عليه "شيخ الحلال"؛ لأنه كان يحلّل كل تجاوزات مبارك وانتهاكاته.. وارتباط شيخ الأزهر الحالي بالانقلاب العسكري بعد أن ذاق الناس ثمار الحرية الثورية والديمقراطية يعتبر رِدّة إلى عهد مبارك بل إلى ما هو أسوأ من عهد مبارك..
(2) هذه ملاحظة لفتت نظرى بشدة فى الآونة الأخيرة أردت أن أنبّه إليها -فى محاولةٍ لتجنّب أخطاء فكرية ومنهجية شائعة- فقد شعر البعض بنوع من اليأس والاحباط لفرط ما يسمعونه فى الإعلام وما يردده العوام من أناس يشيدون بالانقلاب العسكري، ويؤيدون خريطة الهوان، ويركعون تحت بيادات العسكر.. ويردّدون عبارات نمطية كالببغاوات.. فيستنتجون منها أن الشعب قد تحوّل عن مناصرة ثورته ومسيرته الديمقراطية.. ومن ثم تسمع أحكاما سيئة يعمّمونها على الشعب بأسره .. وهذا منتهى الظلم وأبعد ما يكون عن الحقيقة.
فستجد فى المقابل شعبَ مصر الحقيقى الذى تجرى فى عروقه دماء الحرية والإباء والثورة على الظلم .. وهذا هو سر إصراره على الخروج فى مظاهرات مليونية فى كل أنحاء البلاد .. رغم التهديد الأمنى والإرهاب اليومي.. ورغم استمرار الاعتقالات والأحكام السريعة الجاهزة بالسجن المؤبَّد.. ورغم إطلاق الشرطة بلطجيتها ومجرميها للاعتدء على المتظاهرين وقتلهم فى أكثر من مكان .. ورغم حظر التجوّل.. والانتهاكات الصريحة والفجة لحقوق الإنسان..
رغم كل هذا يخرج مئات الألوف من المصريين كل يوم؛ يعلنون رفضهم للانقلاب العسكري.. ويتصدّون له بصدور عارية وجسارة نادرة.. أردت فقط أن أنبِّه إلى أن وجود كثرة من الحثالات والنفايات الفكرية -التى تنتشر كطفح المجارى فى العشوائيات- لا ينبغى أن يجعلنا ننزلق إلى التعميم فى أحكامنا على هذا الشعب الذى يتم تزييف وعيه بشراسة منقطعة النظير.. فلا تزال كتلته الأساسية قوية قادرة على المقاومة وعلى تجاوز المحنة الضارية التى تمر بها مصر الآن..
ولابد أنه قد لفت نظرنا أنه مع مرور الوقت، ومواصلة الرفض والمقاومة السلمية.. ينكشف الوجه القبيح للانقلاب.. وتسقط الغشاوة عن أعين الناس؛ فيتخلّصون من آثار الكذب والتضليل الإعلاميين.. ولذلك تزداد المقاومة قوةً وتمتدّ لتشمل كل ألوان الطيف المصري بكل انتماءاته السياسية والأيديولوجية؛ فلم يعُد الأمر مقصورًا على التيارات الإسلامية التى أرادت سلطة الانقلاب التركيز عليها وتدميرها.. بحجة الحرب على الاٌرهاب.. بل رأينا فى المظاهرات مسيحيين ومسيحيات شاركوا فى الاحتجاج على الانقلاب العسكري.. كل هذا يبطل حجة الإنقلاب: أنه يحارب جماعة معينة يتهمها زورا بالعنف والإرهاب.. فعليه الآن أن يواجه شعبًا بكل فئاته وطوائفه خرج ليسقط الانقلاب العسكري ويردد فى هتافاته "الانقلاب هو الارهاب".. [email protected]