بقلم: د. فيصل القاسم في كل مرة أشاهد صورة الرئيس الاندونيسي السابق سوهارتو على صفحات الجرائد أو شاشات التلفزيون وهو يصارع سكرات الموت أشعر بحرقة كبرى في قلبي، لكن ليس تعاطفاً مع وضعه الصحي المتدهور، بل حزناً وغضباً على تركه يموت موتة طبيعية بفعل التقدم في السن. لا أستطيع أن أفهم كيف يُسمح لهذا الطاغية الذي فاق في همجيته ودمويته أكثر الطغاة بشاعة وسفكاً للدماء أثناء ستينيات القرن الماضي عند انقلابه المدعوم أمريكياً على الزعيم الوطني سوكارنو، كيف يُسمح له أن يرحل عن هذا العالم بشكل طبيعي دون أن يحظى بالعقاب اللازم. لا أدري كيف تركه الشعب الاندونيسي يسرح ويمرح على هواه بعد خروجه من السلطة عام 1998؟ لا أدري كيف تركوه يأخذ معه بعد تخليه عن الحكم أكثر من خمسة عشر مليار دولار تعويضاً عن خدماته؟ يا للمهزلة!
لماذا لم نسمع تحقيقاً غربياً واحداً عن فظائعه الرهيبة التي يشيب لها الولدان على مدى عامي خمسة وستين وستة وستين من القرن المنصرم؟ لماذا هذا التعتيم العالمي على سجل سوهارتو الفظيع في القتل والقمع والتصفيات والمحارق البشرية الحقيقية؟ السبب بسيط جداً: صحيح أنه كان "جزاراً فاشياً" من الطراز الأول، كما وصفه صحفي استرالي، لكنه "كان الجزار بتاعنا"، كما قال أحد المسؤولين الأمريكيين ذات مرة.
لا بأس أن تسخّر وسائل الإعلام الغربية نفسها على مدى عقود لتبشيع صورة الطغاة الشيوعيين وتصويرهم في أسوأ تصوير بدعوى إبادتهم لمئات الألوف من الضحايا. لكن عندما يقوم طاغية مثل سوهارتو بنفس الفعل وأبشع يتم التعامي عن فظائعه، لا بل التستر عليها. كيف لا وضحايا المستبد الاندونيسي البشع كانوا من خصوم الغرب؟ لا مانع أبداً أن يجز سوهارتو رقاب أكثر من مليون شيوعي في بلاده، طالما أنه كان مرضياً عنه أمريكياً واسترالياً وبريطانياً، لا بل يُزود بأدوات تعذيب مصنوعة في لندن!
لماذا لا يذكّرنا الإعلام الغربي بأن الطاغية سوهارتو جاء إلى الحكم عام 1965 على شلالات من الدماء بحجة التصدي لانقلاب شيوعي؟ لماذا التعتيم على جرائم الديكتاتور الاندونيسي في تيمور الشرقية؟ ألم يقتل وقتها أكثر من مئتي ألف من سكان الإقليم، أي ثلث السكان في ذلك الوقت وسط صمت غربي بشع؟
لكن فظائع سوهارتو في تيمور الشرقية تبقى مجرد "لعب عيال" مقارنة بما فعله مع أعضاء الحزب الشيوعي الاندونيسي (PKI ) عند تسلمه الحكم في البلاد. يقول أحد الناجين من مقاصل سوهارتو البربرية إن "إندونيسيا هي الامة المنسية بالنسبة للعالم، فلو عرفت الشعوب الغربية حقيقة ما حدث في اندونيسيا لكان يمكن ان تفهم اين يتجه العالم اليوم". أي أن اندونيسيا أيام سوهارتو كانت منصة انطلاق العولمة وتسخير الكون للسيد الأوحد أمريكا، حتى لو كان ذلك على جماجم الملايين من الاندونيسيين الأبرياء.
يقول الكاتب الاسترالي الكبير جون بلجر في كتابه الرائع "حكام العالم الجدد" إن "لدى منظمة العفو الدولية غرفاً مملوءة بالشهادات والأدلة الدامغة على سجل سوهارتو البشع في القمع والقتل والتصفية والإبادة والتطهير". ويستشهد الكاتب بشهادة أحد الاندونيسيين الذين عاصروا سنوات "العيش بخطر" في ظل حكم سوهارتو قائلاً: "إن أنهار اندونيسيا كانت تغص بالجثث. لقد كانت أجساد الضحايا المتراكمة فوق بعضها البعض تبدو لنا في مياه الأنهار كما لو كانت جذوع أشجار. لقد كان منظراً جهنمياً رهيباً، فقد كان أزلام الطاغية يجمعون "الاساتذة والطلاب والموظفين والفلاحين من قرية إلى أخرى ثم يعدمونهم بطريقة همجية لا مثيل لها، ثم يرمونهم في الجداول والمستنقعات والأنهار حتى باتت المياه تنوء بحملهم".
إن جلادي نظام سوهارتو كانوا فناني تعذيب وإرهاب من الطراز الأول، فقد "كانوا يقطعون الأعضاء الذكرية لضحاياهم، ثم يصفونها في أرتال بطريقة منظمة ليكون المنظر الرهيب عبرة لمن يعتبر". والويل كل الويل لمن كان يحتج أو يبحث عن مفقود، فلم يتمكن أهالي الضحايا أن يزوروا حتى قبور القتلى أو يضعوا عليها شاهداً خوفاً من اللحاق بهم. وقد ظل الوضع في إندونيسيا على ذلك الحال حتى قبل خروج سوهارتو من السلطة بقليل.
وكي لا يظن البعض أن هذه الشهادات مجرد تلفيق من بعض اليساريين القدامى، فقد ذكرت إحصائيات وكالة الاستخبارات الامريكية نفسها "أن مجازر سوهارتو لا تقل فظاعة أبداً عن أبشع جرائم القرن العشرين من حيث عدد الضحايا". أما المؤرخ غابريال كولكو فيقول: "إن الحل النهائي الذي ارتآه سوهارتو لقضية الشيوعيين في اندونيسيا لا يختلف أبدا عن الحل الذي ارتآه النازيون لضحاياهم".
لماذا لم نسمع أياً من هذا الكلام عن تاريخ سوهارتو الأسود؟ الجواب سهل للغاية، لأن الديكتاتور الاندونيسي كان، حسب توصيف جون بلجر الرائع،"التلميذ المثالي للبنك الدولي".
لكن على أي حال لقد فات الأوان على الاقتصاص من الطاغية الاندونيسي الرهيب لأنه على حافة القبر، ولا شك أنه، كغيره من الطغاة القذرين، سيلقى عقابه عند ربه، حيث لن يشفع له عندئذ وساطة وكالة الاستخبارات الأمريكية (السي آي أي) أو صندوق النقد الدولي.
ومن سخرية القدر أن سوهارتو لم يجد أحداً يصلي من أجل شفائه غير العاهرات، فقد ذكرت إحدى الصحف في جاكرتا أن مئات المومسات في مدينة بولاية جاوة أقمن الصلاة لأجل الديكتاتور الإندونيسي السابق الذي يُعالج في أحد مستشفيات جاكرتا، وهو في وضع حرج. وقالت الصحيفة إن المومسات في مدينة ماديون (شرق جاوة) أكدن أن أمنهن وشروط عملهن كانت أفضل بكثير في ظل نظام سوهارتو 1966-1998) ) وسلامتكم!