أجابت لجنة أمانة الفتوى بدار الافتاء المصرية، عن سؤال حول حكم الاحتفال بيوم الأم، بقولها: "الإنسان بنيان الرب، كرمه الله -تعالى- لآدميته؛ فصنعه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وطرد إبليس من رحمته لأنه استكبر عن طاعة أمر الله بالسجود له". ولذا كان احترام الآدمية صفة ملائكية قامت حضارة المسلمين عليها، وكانت إهانة الإنسان وإذلاله واحتقاره نزعة شيطانية إبليسية زلزلت كيان الحضارات التي بنيت عليها، "فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ"، "وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا". والنبي -صلى الله عليه وسلم- يجعل الأم أولى الناس بحسن الصحبة، بل ويجعلها مقدمة على الأب في ذلك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي! قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ! قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ! قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ! قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ"، متفق عليه، ويقرر الشرع الإسلامي أن العلاقة بين الولد وأمه علاقة عضوية طبعية، فلا تتوقف نسبته إليها على كونها أتت به من نكاح أو سفاح، بل هي أمه على كل حال، بخلاف الأبوة التي لا تثبت إلا من طريق شرعي. ومن مظاهر تكريم الأم الاحتفاء بها وحسن برها والإحسان إليها، وليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة لذلك يعبر فيها الأبناء عن برهم بأمهاتهم، فهذا أمر تنظيمي لا حرج فيه، ولا صلة له بمسألة البدعة التي يدندن حولها كثير من الناس، فإن البدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع، وقد أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم الوطنية وانتصاراتهم القومية التي كانوا يَتَغَنَّوْنَ فيها بمآثر قبائلهم وأيام انتصاراتهم. إن معنى الأمومة عند المسلمين هو معنًى رفيع، له دلالته الواضحة في تراثهم اللغوي، فالأم في اللغة العربية تُطلق على الأصل، وعلى المسكن، وعلى الرئيس، وعلى خادم القوم الذي يلي طعامهم وخدمتهم. وكما كان هذا المعنى واضحًا في أصل الوضع اللغوي والاشتقاق من جذر الكلمة في اللغة، فإن موروثنا الثقافي يزيده نصاعةً ووضوحًا وذلك في الاستعمال التركيبي "لصلة الرحم" حيث جُعِلَت هذه الصفة العضوية في الأم رمزًا للتواصل العائلي الذي كانت لَبِنَاتُه أساسًا للاجتماع البشري، إذ ليس أحدٌ أحق وأولى بهذه النسبة من الأم التي يستمر بها معنى الحياة وتتكون بها الأسرة وتتجلى فيها معاني الرحمة، ويبلغ الأمر تمامه وكماله بذلك المعنى الديني البديع الذي يصوره النبي المصطفى والحبيب المجتبى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ"، متفق عليه، وفي الحديث القدسي: "قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنَا اللَّهُ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ"، رواه أبو داود والترمذي وصححه. وبتجلي هذا المعنى الرفيع للأمومة عندنا مدلولًا لغويًّا وموروثًا ثقافيًّا ومكانةً دينية يمكننا أن ندرك مدى الهوة الواسعة والمفارقة البعيدة بيننا وبين الآخر الذي ذابت لديه قيمة الأسرة وتفككت في واقعه أوصالُها، فأصبح يلهث وراء هذه المناسبات ويتعطش إلى إقامتها ليستجدي بها شيئًا من هذه المعاني المفقودة لديه، وصارت مثل هذه الأيام أقرب عندهم إلى ما يمكن أن نسميه "بالتسول العاطفي" من الأبناء الذين يُنَبَّهون فيها إلى ضرورة تذكر أمهاتهم بشيء من الهدايا الرمزية أثناء لهاثهم في تيار الحياة الذي ينظر أمامه ولا ينظر خلفه. ومع هذا الاختلاف والتباين بيننا وبين ثقافة الآخر التي أفرز واقعها مثل هذه المناسبات إلا أن ذلك لا يشكل مانعًا شرعيًّا من الاحتفال بها، بل نرى في المشاركة فيها نشرًا لقيمة البر بالوالدين في عصر أصبح فيه العقوق ظاهرة تبعث على الأسى والأسف، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، إذ كان يحب محاسن الأخلاق ويمدحها من كل أحد حتى ولو كان على غير دينه، ف"لما أُتِيَ بسبايا طَيئ كانت ابنة حاتم الطائي في السبي، فقالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا محمد، إنْ رأيتَ أن تُخَلِّيَ عني ولا تُشْمِت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذِّمار، ويَفُكُّ العاني، ويُشبع الجائع، ويكسو العاري، ويَقري الضيف، ويطعم الطعام، ويُفشي السلام، ولم يَرُدّ طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طَيئ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: يَا جَارِيَةُ، هَذِهِ صِفَةُ المُؤْمِنِينَ حَقًّا، لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُؤْمِنًا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ، خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، وَالله -تَعَالَى- يُحِبُّ مَكَارِمَ الأخْلاقِ، فقام أبو بُردة ابن نِيار -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، واللهُ يحب مكارم الأخلاق! فقال -صلى الله عليه وسلم-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ إِلاَّ بِحُسْنِ الخُلُقِ"، أخرجه البيهقي. وعلي ذلك: فالاحتفال بيوم الأم أمر جائز شرعًا لا مانع منه ولا حرج فيه، والبدعة المردودة إنما هي ما أُحدث على خلاف الشرع، أما ما شهد الشرع لأصله فإنه لا يكون مردودًا ولا إثم على فاعله، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.