نظل فى حاجة شديدة إلى فهم طبيعة ما جرى، على مدى سنوات مضت، فى مجال الاقتصاد، بشكل خاص، حتى لا نعود هذه الأيام، فنكرر ما كان من قبل، دون أن ندرى! وما حدث على مدى تلك السنوات كانت له صور كثيرة، وكانت حصيلته أن حق الدولة كان يضيع فى كل مرة، وكان الباعث على الحزن حقاً أن ذلك كان يجرى على الملأ، وليس فى السر! .. مثلاً، هناك أشخاص حققوا ثروات طائلة، عن طريق بيع الأسهم فى البورصة، وكانت المفارقة أن الشخص نفسه، إذا باع أسهمه، بهذه الطريقة، وحقق مئات الملايين، أو حتى تجاوز المليار فى الأرباح، فإن القانون لا يلزمه بدفع 20٪ مثلاً عن مجمل أرباحه للدولة، وإنما هو ملزم بدفع هذه النسبة إذا حقق أرباحاً تجارية فقط.. أما إذا كانت أرباحاً رأسمالية فى البورصة، أو فى غيرها مما يشبهها، فلا شىء عليه يدفعه، ولا قانون يلزمه بدفع جنيه واحد، ولا قانون يعاقبه إذا لم يدفع.. وهكذا.. وهكذا.. وهناك أسماء معينة ومعروفة جنت أرباحاً طائلة من هذا النوع، ثم وقف القانون يتفرج عليها، ويضرب لها «تعظيم سلام»! وفى أحيان أخرى، كان منتج بعينه يسيطر على إنتاج 67٪ من السلعة التى يعمل فيها، وكنا نصرخ ونقول بأن سيطرة رجل واحد على هذه النسبة لأى سلعة، فى أى سوق، يمكن أن تكون احتكاراً مباشراً وصريحاً، وكان فى البلد جهاز اسمه «حماية المنافسة ومنع الاحتكار»، وكنا نقول إن الناس فى الشارع لن تقرر هى ما إذا كان المنتج إياه محتكراً أو غير محتكر، وإنما الذى يقرر ذلك هو القانون، من خلال الجهاز المختص، وكان الجهاز يجتمع ويجتمع، ثم يخرج علينا ليقول بأن 67٪ من الأسواق لا تمثل احتكاراً، وكان الرجل بالتالى يعمل، وينتج، وربما يحتكر، علناً، ولم يكن القانون يكلمه، وإنما كان يتفرج عليه، كما فعل مع آخرين، من أصحاب الأرباح الرأسمالية، وكان يضرب لهم جميعاً: تعظيم سلام! وفى حالة ثالثة، كانت الدولة تمنح رجل أعمال مائة ألف فدان، وهى مساحة لم يزرع منها الرجل، كما قالت وزارة الزراعة نفسها، إلا عشرة آلاف فدان، ولم يكن العيب عند الرجل، لأن هذه هى كل طاقته على العمل، وهذه هى طاقة شركته، وإنما كان العيب عند الدولة، التى كان عليها أن تقسم المساحة منذ البداية، على عشرة رجال أعمال، ولم تفعل، وقد أسعفها القانون فى هذا الاتجاه، ولم يعترض، وإنما كان كما فى الحالتين السابقتين يتفرج ويضرب لصاحب المائة ألف فدان «تعظيم سلام»! هذه مجرد حالات ثلاث، من عشرات، بل مئات أخرى، وكان معناها كلها مع بعضها، ولايزال، أنك إذا أردت أن تحاكم الآن فيجب أن تحاكم غفلة القانون أولاً، وتساهله، وتهاونه وقلة حيلته قبل أن تحاكم الأفراد.. فالذين يحققون أرباحاً لن يذهبوا من تلقاء أنفسهم ليتطوعوا بأداء حق الدولة، وإنما سوف يفعلون ذلك عندما يلزمهم القانون، ويعاقب غير الملتزمين! حدث ذلك، ولايزال يحدث، لأننا خصخصنا شركاتنا، دون إقرار معايير الخصخصة المعترف بها فى العالم كله، ولأننا انتقلنا من دولة القطاع العام إلى دولة السوق المفتوحة دون أن ننقل معنا قوانين السوق وضوابطها.. فكان ما كان! نقلا عن صحيفة المصري اليوم