فى عصر أول رئيس مصرى بعد ثورة 25 يناير يتكرر نفس السيناريو الذى كان أيام الثورة الأولى مع بدأ سقوط الشهداء. ورغم مرور عام فإن ذكرى محمد محمود بقيت حية تماما مثل دماء الشهداء والإعاقات التى سببتها الأعيرة الخرطوشية. وأبت ذكرى اليوم أن تمر دون أن تعيد إلى الشارع رائحة الغاز المسيل للدموع ومشاهد الشارع الملون بدخان يملؤه وتمتد رائحته حتى ميدان التحرير وأول شارع قصر العينى. وكل من يخرج من الشارع قبل أن يسقط من أثر الغاز المسيل للدموع يردد نفس الأعراض (قفشة فى الصدر وسعال مستمر قد تصحبه نقاط دم مع إحساس بدوخة وعدم اتزان وعدم القدرة على التحكم فى العضلات)، إنها أعراض جديدة لم يعهدها من شارك فى فاعليات الثورة منذ انطلاقها فى 25 يناير 2011 حتى يوم 19 نوفمبر، ذكرى محمد محمود الأولى. كان يوما عصيبا على النظام الإخوانى الذى يسعى أمام ضغط الشارع ليؤكد بلا مبالاته أنه متماسك البناء وغير آبه بالدعوات التى يراها «مغرضة» لتعطيل «عرس الديمقراطية» التى تشهدها مصر حاليا فى عهد الرئيس محمد مرسى راعى مشروع النهضة. ولكن يبقى السؤال الأهم فى هذه الذكرى: هل فعلا كان الإخوان ضد الاعتداء على الثوار فى شارع محمد محمود العام الماضى وهم ضد الاعتداء عليهم فى ذكراه الأولى؟ وحتى نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال دعونا نتساءل: ما الدافع لتأزم الوضع فى محمد محمود قبل عام ولاشتعاله مرة ثانية؟ والحقيقة أن جو العثرات المتتالية لمشروع النهضة الذى لم ينجح فى تحقق أى منجز ملموس ينعكس على حياة المواطن قدر نجاحه فى تحقيق خطوات ثابتة نحو تطبيق مشروع تمكين الإخوان من مفاصل الدولة هو ما أفقد الحالة الثورية زخمها وضيّع على الشهداء أهم حقوقهم فى قصاص عادل يشفى صدور الأهالى ورفقاء الميادين على امتداد الوطن، وهو ما جعل كل ذكرى لأى من أحداث العام الماضى فرصة لاستعادة ثورة تم الاستيلاء عليها لصالح تيارات الإسلام السياسى لتحل شعارات الخلافة والشريعة الإسلامية محل القصاص والعدالة الاجتماعية. وطلب مرسى القصاص سادت -ولا تزال- حالة من الصمت الإخوانى المطبق على الجميع فى ما يخص حقوق شهداء الثورة عموما واشتعال الموقف فى محمد محمود على مدار يومين سقط فيهما شهيد وعشرات الجرحى، والغريب أن مؤسسة الرئاسة لم تشعر أن غضبا يتصاعد على بعد أمتار من لجنتها التأسيسية ومقر رئيس وزرائها، وتعاملت إدارة مرسى بنفس أسلوب مبارك عندما كان الشارع يغضب فلا يعيره أى اهتمام. وقد يعتبر البعض أن حالة «الطناش» الرئاسى عن أحداث محمد محمود نابعة من أن مؤسسة الرئاسة أو شخص الرئيس أو حتى جماعته لا تزال فى سنة أولى رئاسة ومن ثَم فهى لا تعلم ما الذى يجب أن يتم! لكن التاريخ ينفى عن الرئيس مرسى جهله بمثل هذه الأحداث لأنه هو بنفسه من وضع مطالب الثورة على طاولة نظام حسنى مبارك عندما كان المقتول إخوانيا، ويمكن التأكد من ذلك بالعودة إلى سبع سنوات مضت، تحديدا يوم 7 مايو 2005، عندما أقامت جماعة الإخوان بالدقهلية عزاء الشهيد طارق الغنام الذى قتلته الداخلية فى مواجهات مع الإخوان بسبب مشاركته فى مظاهرات لرفض قانون الطوارئ، وفى أثناء ذلك قدم عضو مجلس شورى الجماعة الدكتور مسعد الزينى الدكتور محمد مرسى الذى كان وقتها رئيسا للكتلة البرلمانية للجماعة وعضوا بمكتب الإرشاد، ليقول كلمته . كانت الحادثة مشابهة لكل حوادث القتل التى راح ضحيتها كل شهداء الثورة المصرية منذ بدايتها وحتى أحدثهم الشهيد جابر صلاح، وقبل أن يصبح مرسى رئيسا وقف يخطب فى عزاء الغنام مُلهِبا بخطبته مشاعر الحضور من الإخوان ومواجها بدم الشهيد نظام مبارك قائلا: «قتلوه قتلهم الله.. قتله جهاز أمن متضخم ولا يجد من يحاسبه.. مارسوا القرصنة والطغيان والسخافة بضرب المتظاهرين العزل.. وإننا نقول إن ملفات هؤلاء موجودة، ملفات الفساد ومن باع الأمة فى سوق النخاسة ومد يده للصهاينة». ثم حدد مرسى الإجراء الطبيعى الذى يجب على النظام فعله قائلا: «نريد أن نسمع ونرى ما الذى سيحدث لمن قتله، أين القاتل؟ ومن الجانى؟ ومن المسؤول؟ ومن الذى يجب أن يحاكَم؟ لقد قالوا مات مختنقا ومات من التدافع، وسيختلقون غير ذلك؟». وبعدها استشهد مرسى بأقرب الحوادث المشابهة: «فى قضية الأخ مسعد قطب الذى قُتل فى جابر ابن حيان مقر أمن الدولة بالجيزة، وقالوا بيننا وبينكم تقرير الطبيب الشرعى، وحتى الآن لم يظهر، وقتلوا الأخ أكرم الزهيرى وقالوا بسبب الإهمال الجسيم، ولم نعرف من قتله ولم تحدَّد مسؤولية جنائية». لكن مرسى عضو مكتب الإرشاد وقتها حدد المتهم الذى يجب توجيه الاتهام إليه صراحة: «نحن نتهم النظام اتهاما مباشرا بالمسؤولية عن قتل الأخ طارق ونوجه إليه اتهاما صريحا»، وكان النظام فى هذا التوقيت هو اللفظ المتاح من قبل الجماعة وقتها للتعبير عن الرئيس مبارك. وتساءل مرسى فى حينه أسئلة لم يكن يتخيل أنها ستكون مطروحة على واقعه هو يوما ما حيث قال: «هل يتصور أن يسكت الناس عن ذلك؟» ثم أجاب قائلا: «لا يمكن؟ إن هؤلاء الذين يسيرون فى غيهم ويتجاهلون إرادة الأمة ويصرون على مواقعهم وتصرفاتهم يضرون أنفسهم والأمة، والله لهم بالمرصاد، والشعب لن يسكت، ونحن لن نسكت». ثم دارت الأيام وصار النائب رئيسا ونسى أنه خاطب محذرا «لن يسكت الناس»، ونسى كل أسئلته المرتبطة بالشهيد طارق الغنام ومن قبله مسعد قطب وأكرم الزهيرى ومن بعده كل شهداء الثورة المصرية، فلم يُجِب مرسى عن أسئلته القديمة (نريد أن نسمع ونرى ما الذى سيحدث لمن قتله، أين القاتل؟ ومن الجانى؟ ومن المسؤول؟ومن الذى يجب أن يحاكَم؟». التجاهل والتسفيه. وبعيدا عن الموقف الرئاسى الذى قد يكون محاطا بقواعد أو قيود أو حتى أغراض فى نفس الرئيس فإن جماعته (الإخوان) منذ أحداث «محمد محمود» العام الماضى حتى هذا الأيام بذلت كل ما فى وسعها للتعامل مع مطالب الثوار باعتبارها خيانة للثورة رغم أن الجميع طالبوا بنفس مطالب مرسى القديمة فى جنازة الغنام، حتى إن أول بيان صدر عن مكتب الإرشاد حول أحداث محمد محمود الأولى وصفها بأنها «محاولات إجهاض الثورة وإعادة إنتاج النظام البائد مرة أخرى فى صورة جديدة»، وبعيدا عن الجرحى والشهداء الذين سقطوا فقد حذر البيان من أن الإخوان «لن يسمحوا بإلغاء أو تأجيل الانتخابات مهما كان الثمن، لأن ذلك يُعَدُّ انقلابا على الثورة والحرية والديمقراطية وإعادة للاستبداد والفساد والاستعباد الذى ضحَّى الشعب بدماء أبنائه وأرواحهم من أجل التخلص منه». وعندما حاول البيان مهاجمة المجلس العسكرى قال: «ونطالبكم بالخروج عن صمتكم، والحديث إلى الناس بما تنوونه بشأن تسليم السلطة، فذلك كفيل بطمأنة الناس». واعتبرت الجماعة كل من يشارك من شبابها فى أحداث «محمد محمود» خارجا عنها، وبعد أن زار الدكتور محمد البلتاجى شارع محمد محمود صدر تصريح رسمى يؤكد: «ليس للجماعة أحد فى (محمد محمود)»، وبرر المرشد العام الدكتور محمد بديع فى حواره لبرنامج «90 دقيقة» عدم نزول الإخوان بسببين: الأول «مش كل ما حد ييجى يقول هنعمل مليونية هينزل الإخوان يشاركوا فيها»، أما الثانى فكان «تزايد أعداد الشهداء من الإخوان المسلمين.. فلو كان شهداء الإخوان 30 أو 40 وقت الثورة.. كانوا هيبقوا 400 فى أحداث محمد محمود»! وتبع ذلك تصريح للدكتور محمود غزلان المتحدث الرسمى باسم الجماعة أوضح فيه الهدف من عدم اشتراك الإخوان فى محمد محمود حيث قال نصا «تفويت الفرصة على من يريد إدخال مصر فى دوامة من العنف والأزمات، سواء كان هؤلاء من داخل السلطة أو خارجها، حتى يتم نقل السلطة إلى حكومة مدنية منتخَبة تستطيع أن تتعامل مع كل الظروف والمعطيات بما تقتضيه من عقل وحزم وحق، مدعومة بشعب اختارها من خلال انتخابات حرة ونزيهة». والمثير للدهشة أنه بعدما تمت الانتخابات كافة وفازت الجماعة فى جميعها بفضل التركيز الشديد والتنظيم المحكم والميزانيات المفتوحة، عادت من جديد ذكرى محمد محمود بنفس الإيقاع على مستوى الأحداث، ولكن دون أى بيان أو تصريح رسمى من أى قيادة بمكتب الإرشاد. لقد كانت قيادة الجماعة تسعى للعبور إلى قصر الرئاسة بأى ثمن، لهذا لم تلتفت إلى الدماء التى تسيل حول وزارة الداخلية ومجلس الوزراء، بل لقد اعتمد إعلام الجماعة خلال «محمد محمود» الأولى والثانية -و حاليا- على إغفال الحدث تماما، وبمجرد إطلالة على مواقع الإخوان وصفحاتهم الإلكترونية ستكتشف تركيزهم فى العام الماضى على قضية «الانتخابات أولا» حتى إن بيان الجماعة التالى للأحداث اعتبر الحكومة مسؤولة عن الدماء، لكنه علق إقالتها إلى ما بعد الانتخابات! ولا يختلف إعلام الجماعة حاليا عن العام الماضى فى التعامل مع «محمد محمود»، إلا من حيث تغير القضية المطروحة، حيث تحولت من الانتخابات إلى الدستور والحرب على غزة! . وظلت التعليمات التنظيمية للجان الإلكترونية تصدر صورا واحدة: «بيقولوا على نفسهم ثوار وهما شوية عيال سيس نُصُّهم بلطجى ونصهم مأجور نازلين يعطلوا الانتخابات – بيحاولوا يقتحموا الداخلية والداخلية بتتعامل معاهم، سيبوهم يخلصوا على بعض – ما يحدث فى محمد محمود فخ منصوب للإخوان نجّى الله منه الجماعة لرجاحتها ووقع فيه غيرهم لأنهم فرادى». ولا تزال حتى الآن القاعدة الملزمة لمواقع الإخوان الرسمية مركزيا وفى المحافظات «عدم نشر أى مواد تتعلق بأحداث محمد محمود لأنها فتنة والجماعة لن تقف فيها مع طرف ضد الآخر» . إذن.. طالَبَ الدكتور مرسى قبل الثورة بمطالب ما بعد الثورة ودعمته الجماعة، ثم نسى المطالب القديمة بعد أن وصل بالثورة إلى الحكم وصار هو المسؤول عن تحقيق المطالب القديمة وطوت الجماعة صفحة الدماء التى أريقت من الإخوان ومن غيرهم محتسبة إياها ثمنا للتمكين، فلماذا يثور ويتظاهر الشعب بعد أن وفق الله الإخوان ووصلوا إلى الحكم؟ ويعود السؤال الأهم طارحا نفسه: هل فعلا كان الإخوان ضد الاعتداء على الثوار فى شارع محمد محمود العام الماضى وهم ضد الاعتداء عليهم فى ذكراه الأولى؟ فى ضوء ما سبق فالإجابة بالتأكيد «لا»، ولكن الأهم هو أن الإخوان كتنظيم وجماعة ومؤسسة رئاسة وحزب تقر ردع الثوار فى محمد محمود وفى غيره من الأماكن... هذا ليس ادّعاءً ولكنها قرارات الجماعة وأدبياتها المستندة إلى اجتهاد تنظيمها، وهو ما تعرضه «التحرير» فى عدد غد إن شاء الله.