لا يمكن أبداً أن يغفل الكتاب عن سحر محافظة البحيرة العريقة ذلك الصوت العذب النابع من قلب الطبيعة الهادئة ليترامى لآذان كل من يمر عليها فيزيدها سحراً وعبقاً بعد إمتزاج لون الخضرة الخلابة وسكينة المكان بأجمل الأصوات الشادية بأحلى الألحان الأوبرالية الرائعة لتعيد للأذهان ذكرى الزمن الجميل و الفن الأصيل , إنها أوبرا دمنهور . وتأتى عظمة هذا المبنى التاريخى لكونه يقع بقلب مدينة دمنهور العريقة , فدمنهور هى أحد أقدم المدن الفرعونية المصرية , حيث كانت تسمى " دمن حور " , وكان بها معابدً خاصة بالآلهه الفرعونية " حور " و " هرمس " , كما كان لها دور عظيم فى تحطيم دولة الروم في الإسكندرية عند الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص , فيما حفرت اسمها بأحرف من ذهب فى كتب التاريخ لنضالها ضد الإحتلال الفرنسى . ويرجع فكرة إنشاء هذا المبنى العريق بدمنهور إلى الملك فؤاد الأول الذي أمر كبير مهندسيه الإيطالي أرنستو فيروتشي (1874 - 1947) فى الثامن من شهر نوفمبرعام 1930بإنشاء هذا المبنى الذى أعتبر واحداً من التحف المعمارية التى تتجسد فيها خصائص العمارة المصرية في بداية العقد الرابع من القرن الماضي , وينفرد مسرح الأوبرا باستخدام عناصر معمارية وزخرفية إسلامية الطراز , فقد نجح " فيروتشي " نجاحاً تاماً في المزج بين التخطيط الأوروبي الوافد الذي يتناسب مع الوظيفة ، وبين العناصر المعمارية الإسلامية التي كانت مستخدمة منذ العصر الفاطمي وما تلاه من عصور ومنها العقود المنكسرة . وسجل الإفتتاح على " لوحة تسجيلية " بجوار الباب الشرقي الرئيسى للمبنى ، كتب عليها بالحبر الأسود خمسة أسطر بخط الثلث على النحو التالي : " هذا الحجر وضعه حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فؤاد الأول ملك مصر أطال الله أيام ملكه السعيد ، دمنهور في يوم السبت 17 جمادى الثاني سنة 1349 ه الموافق 8 نوفمبر سنة 1930 م " . ولم يعرف مبنى " دار أوبرا دمنهور" العريق بهذا الإسم إلا من قريب حيث عرف فى أول الأمر بإسم " سينما وتياترو فاروق " ثم تغير بعد ذلك إلى " سينما البلدية " بقرار المجلس البلدي في السادس من ديسمبر لعام 1952 , ثم تغير فى عام 1977 إلى " سينما النصر الشتوى " حيث ظل يعرف بهذا الإسم إلى أن أطلق عليه إسم " دار أوبرا دمنهور " بعد تجديده و إعادة إفتتاحه فى السابع من مايو 2009 . ونظراً للقيمة الفنية والمعمارية للمسرح ، والتي تعبر بصدق عن عمارة المسارح المصرية في بدايات القرن الماضي فضلاً عن إبرازه للعناصر الفنية من زخارف نباتية وهندسية وعقود دائرية وأخرى على الطراز الأندلسي في مجموعة المداخل ، ونظراً لأن المسرح قد تم افتتاحه في الثلاثينيات من القرن الماضي وهو يعتبر مكملاً لمسرح سيد درويش بالإسكندرية والذي شيد في عهد الملك فؤاد ، فقد قام قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بالمجلس الأعلى لللآثار بتسجيله كأثر إسلامي بعد موافقة اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية في عام 1988م كما تم ضم المبنى إلى قوائم المباني ذات القيمة الفنية والتاريخية بمحافظة البحيرة . وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضى بدأت حالة المسرح فى التدهور خاصة من الناحية الإنشائية ، فقد أدى عدم إجراء أعمال الصيانة والترميم الدورية للمسرح مع سوء الاستخدام إلى ظهور العديد من المشكلات الإنشائية أهمها تدهور وتحلل الخرسانة المسلحة لأسقف المسرح ، وإنهيار جزء كبير من قبة صالة المسرح ، كما أن إرتفاع منسوب المياه الجوفية وتسرب المياة إلى ممرات المسرح قد أثر على حالة الأساسات بالكامل قبل أن يغلق المسرح وتتوقف جميع أنشطته التي كانت تمارس عليه وأصبح المسرح في حالة يرثى لها ، إلى أن قامت وزارة الثقافة مع بداية الألفية الجديدة بترميمه وتزويده بأحدث وسائل العرض والإضاءة ليواكب أحدث مسارح مصر والعالم . وأعيد ترميم الأوبرا فى دمنهور فعادت كمنارة فنية وثقافية لشعب البحيرة الذى يبلغ عدد سكانها قرابة الخمسة ملايين نسمة لتشهد الآن حفلات فنية عالمية و فعاليات ثقافية لا تنقطع .