لو دققت النظر في المشهد المصري حاليا لوجدت أن البلد واقع تحت حكم القضاء بالمعني السياسي وليس بالمعني القانوني المعتاد.. وذلك بعد غياب واضح للسلطة التنفيذية القادرة علي اتخاذ القرارات الحاسمة وغياب التفاهم والتوافق بين القوي والأحزاب السياسية ودخولها في صدام ارادات جعل كل الطرق التي يمكن ان تسير عليها سفينة السياسة مستحيلة. المجلس العسكري منذ أن منح سلطات رئيس الجمهورية للدكتور كمال الجنزوري عند تعيينه رئيسا للوزراء قرر أن يتوقف عن اصدار القرارات التنفيذية.. والمجلس الاستشاري التابع للمجلس العسكري استسلم لغيبوبة طويلة بعد استقالة عناصره الفاعلة ولم يعد له صوت في التقلبات السياسية المتلاحقة.. وحكومة الجنزوري منذ أن دخلت في صدام علني مع البرلمان توقفت عن اصدار قرارات تنفيذية مؤثرة وابتعدت عن المسرح السياسي بالكامل.. ومجلس الشعب منذ أن تبني فكرة اسقاط الحكومة ووجد الطريق إلي ذلك مسدوداً في وجهه توقف عن المناطحة وأدرك أن المجلس العسكري لن يترك له الساحة ولن يتفاعل معه.. والنتيجة النهائية لكل هذا أنه لم يعد هناك من سلطة قادرة علي اعطاء قرار واضح وحاسم في أي ملف من الملفات الساخنة في البلد إلا السلطة القضائية التي يحمل السياسيون مشاكلهم إليها. ورغم استنكار العديد من المفكرين والسياسيين لظاهرة إقحام القضاء المصري في النزاعات السياسية إلا أن الواقع فرض نفسه.. ولم يعد القضاء مدعواً فقط للحكم في القضايا الجنائية مثل الفساد وتهريب الأموال وقتل المتظاهرين واستغلال النفوذ وبيع الغاز لاسرائيل باسعار متدنية وموقعه الجمل وانما صار مدعواً وبشدة لحسم القضايا السياسية الملتهبة التي فشلت أجهزة الدولة في حسمها مثل تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور واثبات عدم ازدواج جنسية والدة الشيخ حازم أبو إسماعيل واحقية مرشح الاخوان خيرت الشاطر في خوض انتخابات الرئاسة واستبعاد رموز النظام السابق في الترشح للانتخابات الرئاسية. بالمفهوم السياسي.. وطبقاً لما ذكره العديد من الخبراء.. فان هذه الظاهرة سلبية.. وما كان يجب إقحام القضاء في الخلافات السياسية.. ففي الدول المتقدمة ديمقراطياً عنا لا يخرج الصراع السياسي من الدائرة السياسية إلي الدائرة القضائية.. بمعني أن السياسية يجب أن تحسم قضاياها من خلال قرارات السلطة الادارية أو من خلال التوافق الوطني بين الأحزاب أو من خلال الحشد الجماهيري الذي يكشف عن اتجاه بوصلة الارادة الشعبية أمام صاحب القرار.. ويحدد الأوزان الحقيقية للتيارات المختلفة. ولكن لأن الدولة في مصر الآن ضعيفة.. وليس هناك- كما قلنا في البداية- الجهة القوية القادرة علي اتخاذ القرار.. والتي تتمتع بالشرعية الكاملة للقيام بهذا الدور فقد ذهبت السياسة إلي القضاء.. وأيضا لأن الاحزاب السياسية عندنا غير قادرة علي التفاهم والتوافق.. ومازالت تمارس اللعبة السياسية بمنطق الاستقطاب الحاد.. وبمنطق "أنا وحدي".. وأنا ومن بعدي الطوفان.. وأنا الأصلح دون الآخرين.. فقد ذهبت السياسية إلي القضاء. وبالمناسبة.. هناك أجيال من الشباب المصري الذي دخل إلي الدائرة السياسية بعد ثورة 25 يناير صار غاضباً من هذه الأساليب الاقصائية في الممارسة الحزبية.. وصار يعد الاخطاء التي يرتكبها السياسيون ويعتبرها نوعاً من المراهقة السياسية التي تسبق مرحلة النضج.. وهذا الشباب له رأي ورؤية مغايرة في كثير من الأحيان للمفاهيم القديمة والتقليدية التي يعتقدها السياسيون المحترفون.. لو أن هؤلاء السياسيين يفكرون بقدر أكبر من الانفتاح والتوافق لتوصلوا إلي طريقة مغايرة لتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور ترضي الجميع وتزيل التوتر ولما احتاج الأمر إلي الذهاب للمحكمة الادارية.. ولو أنهم وقفوا وقفة رجل واحد لما طمع رموز النظام السابق في العودة إلي المسرح السياسي ولما واتتهم الشجاعة لكي يترشحوا ويتعشموا في الفوز بالمقعد الرئاسي.. ولو أن هؤلاء السياسيين تخلصوا من ضغائن الماضي والتقسيمات التي اصطنعها نظام مبارك علي قاعدة "فرق تسد" لما احتاج الشيخ حازم أبو إسماعيل أن يذهب إلي المحكمة ليحصل علي براءة والدته من ازدواج الجنسية.. ولما احتاج أيمن نور وخيرت الشاطر إلي احكام قضائية ترفع عنهم الجور الذي لحقهم في ظل النظام السابق وأصبح اليوم سيفاً علي رقابهم ونحن نبني دولة القانون والكرامة الوطنية. الواضح الآن لكل من يتابع ما يجري علي الساحة المصرية أن الاحزاب والتيارات السياسية نقلت الصراع فيما بينها إلي ساحات القضاء بدلا من حسمه في الميدان أو البرلمان أو صناديق الانتخابات أو بالقرار الإداري التنظيمي.. وهذه واحدة من سلبيات المشهد المصري حاليا.. فقد أصبحت المحاكم متخمة بالملفات السياسية.. وأصبحت ساحاتها مجالاً للتظاهر والاعتصام والهتافات.. والخوف كل الخوف أن يقودنا ذلك كله إلي أن يصبح القاضي جزءاً أو طرفاً في اللعبة السياسية.. هذا خطر ما بعده خطر.. وومع ذلك فان مصيبتنا أرحم من مصيبة الآخرين.. فقد أبدت صحيفة "النهار" اللبنانية تقديرها الكبير للسلطة القضائية في مصر وقارنت بين مصر ولبنان مؤكدة أن مصر دولة قضاة مثلما لبنان دولة ميليشيات.. وأظهرت الاعجاب بتمسك النخب المصرية جميعا بالعودة في كل الصراعات السياسية إلي مرجعية القانون خلافا للنزوع إلي الحرب الأهلية في سوريا بين سلطة قمعية ومعارضة مسلحة. وقالت "النهار" انه يمكن القول ان مصر في المرحلة الراهنة تحت حكم القضاة بالمعني الحرفي للكلمة وآخر قراراتهم الكبيرة ابطال تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور. وما تعتبره "النهار" نقطة ايجابية لصالح مصر لا نعتبره نحن كذلك.. ربما لاننا لا نريد ان يكون القياس علي الأسوأ.. وأن يكون الاختيار بين دولة القضاة ودولة الميليشيات.. فمصر أكبر من ذلك.. ويجب أن تعود إلي ذاتها.. إلي روح التفاهم والتوافق والتعاون لما فيه الصالح العام. لا يجوز أن يهتف الميدان "إيد واحدة" بينما السياسيون يتسابقون إلي الطعن في كل خطوة يخطوها الشعب إلي الأمام لمجرد المكايدة والمعاندة وعرقلة المسيرة الديمقراطية. إشارات * أستاذنا الكبير د. حسن حنفي حذر في ندوة بهيئة الكتاب من احتمال وقوع انقلاب عسكري وشيك يطيح بالعملية الديمقراطية كلها.. يؤسفني أنني أيضا أتوقع هذا الانقلاب. * لو صدقت الادعاءات بأن توكيلات عمر سليمان مزورة وفيها اسماء لجنود في القوات المسلحة والشرطة ولموظفين في شركات قطاع عام أجبروا عليها فسوف يكون هذا طرف الخيط للكشف عن أكبر مؤامرة ضد الثورة. * أصدق كلام المشير طنطاوي عن حياد المجلس العسكري بين مرشحي الرئاسة.. لكنني لا أثق في الفلول. * د. رضوي سعيد رئيس الجمعية العالمية للطب النفسي طالبت بالكشف النفسي علي مرشحي الرئاسة.. ياريت وبسرعة حتي نتخلص من المغامرين والموهومين ومرضي جنون العظمة.