قدمت مصر هذا الشهر "عرضا" سياسيا مثيرا للتفاؤل، التفاؤل بامكان انبعاث "نموذج" مصري للتغيير، سلمي وديموقراطي... وحديث، من الصعب رؤيته بالصيغة نفسها في اي بلد عربي، على الاقل من بلدان المشرق. هذا "العرض" يستحق اهتماما، بل رصدا كبيرا في سياق الاهتمام الاشمل الذي من المرجح ان تفرضه علينا التطورات المصرية من الآن فصاعدا حتى... موعد انتخابات الرئاسة في الخريف المقبل، شارعا ودولة معا. وهو موعد لم يعد خافيا كثيرا انه يحظى بمتابعة دولية في مقدمها المتابعة الاميركية... من واشنطن، الى حد انه مرشح لكي يستأثر قريبا بكل الاضواء كما الكواليس الاميركية المعنية ب"الشرق الاوسط". فمصر "حبلى" من داخلها وفي "المستشفى الاصلاحي" الاميركي من خارجها. وعندما يبدأ "الطلق" (ولعله بدأ) فمن الصعب ان لا تصبح "الدولة العربية الكبرى" موضع الاستقطاب الاول... مقارنة بما يجري حولها (يجب أن لا ننسى انه حتى الآن لا زالت هناك "مدرسة" في المؤسسة الديبلوماسية الاميركية تعتبر ان التغيير المصري – لا العراقي – هو القادر على اطلاق التغيير الفعال في العالم العربي...). "العرض" الذي حدث في مصر هذا الشهر، والذي من الصعب بل من المستحيل ربما ان يحدث مثله في دول عربية مشرقية اخرى، هو ما حصل في "نادي قضاة مصر". لقد بدأ تحرك مئات القضاة المصريين من الاسكندرية، وانتقل الى القاهرة، ليعلن "نادي قضاة مصر" بعد اجتماعات نقاشية صاخبة احيانا قرار جمعيته العمومية الامتناع عن الاشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة في حالة عدم اصدار مشروع قانون كامل للسلطة القضائية الذي يدعو الى موازنة مستقلة للسلطة القضائية ونقل تبعية التفتيش القضائي في وزارة العدل الى مجلس القضاء الاعلى وصدور الضمانات الكفيلة بنزاهة العملية الانتخابية الرئاسية والتشريعية. هذا حدث استثنائي مقارنة ب"الموات" الحاصل في تقاليد جسد "الدولة الحديثة" العربية. بمعزل عن حدود التأثيرات السياسية داخل الجسم القضائي المصري، اعني نوع تأثيرات المعارضة وخصوصا حركة "الاخوان المسلمين" وبمعزل عما اذا كان "نادي القضاة" سيتمكن من تعميم مواقفه على كل الجسم القضائي المصري ام لا... الا ان تحركا من هذا النوع يضم آلاف القضاة يُظهر عدداً من الملامح "الجوهرية": "الدولة المصرية" رغم انها دولة غير ديموقراطية، بمعنى عدم وجود تناوب على السلطة فيها (مع وجود حرية تعبير نسبية في المجتمع) هي دولة تحتفظ – كما اظهر تحرك القضاة – بعناصر مؤسساتية رغم عهود طويلة من تطويع منهجي للمؤسسة القضائية وضرب عناصر استقلاليتها بشكل متدرج، او كما يقول القاضي المصري الكبير والكاتب السياسي المعروف طارق البشري في دراسة له ان المؤسسة القضائية المصرية وان كانت تتعرض في العهد الملكي لتدخلات القصر ومراكز السلطة، الا ان "تطويعها" الفعلي حصل بعد ثورة 1952. لقد ادت السيطرة البريطانية "المبكرة" على مصر في نهايات القرن التاسع عشر، كما على العراق لاحقا بعد انهيار الامبراطورية العثمانية الى "تأسيس" تقاليد حديثة للقضاء المصري، وهذا ما يوجب الاعتراف ايضا بان السيطرة الفرنسية على لبنان وسوريا قد قامت به من حيث تأسيس تقاليد "قضاء لبناني" و"قضاء سوري" حديثة، ثقافة ومؤسسات. في العراق، كما في سوريا تجاوزت ازمة المؤسسة القضائية مجرد كونها ازمة "استقلالية قضاء" عبر التغييرات البنيوية التي احدثها "نظام الحزب الواحد" في كل من البلدين، فيما في لبنان، ومنذ نهاية عهد الانتداب اصبح تاريخ القضاء هو تاريخ الخضوع المتزايد لتأثير "السلطة السياسية" المتعددة النفوذ حتى اصبح القضاء عملياً جزءاً كامل الاندماج الشكلي والمضموني بالنظام الطائفي. وعلى الرغم من استمرار تقاليد "انتاج" قضاة يتمتعون بثقافة قانونية معاصرة وحديثة في لبنان، فانه لا تاريخ سياسي، اي لا تاريخ من الشجاعة السياسية للقضاة اللبنانيين، فاذا كان في سجل القضاة (والحقوقيين اللبنانيين عموماً من قضاة ومحامين) صفحات مهمة على مستوى الاجتهادات في القانونين المدني والجزائي، الا انه لا وجود مطلقاً لأي صفحة من المواجهة السياسية بين القضاء اللبناني والسلطات السياسية، ولا حتى لاية مواجهة بين قاض فرد ضد السلطة السياسية. الشجاعة، كما الكفاءة في القضاء اللبناني لا تزال غير سياسية ! لهذا يستمد تحرك القضاة المصريين أهميته، فهذا التحرك لا يمكن تصوره في سوريا (ولا سابقاً حتماً في عراق صدام حسين) ولا الآن حتماً في لبنان. تحرك القضاة المصريين يؤشر على تميز تركيب "الدولة المصرية" المستمر عن غيرها من دول المشرق العربي وقد يعيد الاعتبار (أو على الاقل الأمل) الى ان مصر كبلد ذي دولة ذات مؤسسات فعلية، حتى في ظل نظام حكم لا تناوب فيه على السلطة، تقدم نموذجاً ل"الاستبداد" مفتوحاً على احتمالات التغيير السلمي الديموقراطي من داخله، يختلف عن نمط "الاستبداد" في دول عربية أخرى، حيث لا تقاليد دولة فعلية، بل سلطة حزبية، طائفية او عشائرية، لها مجرد واجهة "دولتية" (من دولة). هذا التوصيف لا يجعل مصر خارج فكرة "الدولة الضعيفة" أو "الدولة الفاشلة" بمعايير التنمية والتحديث التي سادت في العقد الماضي في الرؤية الاميركية للعالم الثالث، ولكنه (أي هذا التوصيف) يجعلها مختلفة عن الدول المحيطة، من حيث ان في المحيط سلطات مسيطرة، لا دول راسخة كما هو وضع الدولة المصرية؟ ثم ان هذا التوصيف اي وجود سلطات في العالم العربي، أكثر مما هي دول، لا يتناقض مع ظاهرة "السلطة المركزية" القوية التي شهدتها دول مثل سوريا والعراق (سابقاً) وليبيا وغيرها. *** بعيداً عن المبالغة، أو سعياً الى "ضبط" التفاؤل الذي يثيره تحرك القضاة المصريين، بما هو أساساً مؤشر على تميز "النموذج المصري" للتغيير وامكان تحوله الى نموذج جذاب تحديثياً وثقافياً للتغيير السياسي مقارنة بما هو مطروح حوله، من ناحية خطر تلاشي "الدولة" كما حصل في العراق، او استيعاب "الطبقة السياسية" في النظام الطائفي للتغيير في لبنان، من حيث هو نظام سياسي لا دولة متماسكة... سعياً الى ذلك... ربما قد يكون بالامكان في "مصر الحبلى" التساؤل هل سيلعب "نادي القضاة المصريين" في سياق المخاض المصري الحالي الدور الرمزي والعملي الذي لعبه "نادي الضباط" المصريين عام 1951 – 1952 كونه شهد فوز لائحة ضباط لادارة النادي ضد اللائحة التي تؤيدها قيادة الجيش آنذاك. وهناك تسليم لدى المؤرخين المصريين بأهمية هذه الواقعة في تشجيع حركة الانقلاب التي قادها لاحقاً "تنظيم الضباط الاحرار" حتى ان بعضهم يعتبر ان اسم اول رئيس للجمهورية اختاره الانقلابيون بعد اطاحة الملك فاروق وإلغاء الملكية وهو اللواء محمد نجيب جاء نتيجة بروز دوره كإسم يجتمع حوله الضباط المعارضون في نادي الضباط قبل "ثورة يوليو". فحركة الاعتراض المعلنة الوحيدة في تلك المرحلة كانت تجري في نادي الضباط الذي تحول الى مقياس لحجم الاستياء داخل الجيش من النظام. هذه المرة... التغيير ليس انقلابياً. انتهى ذلك الزمن. لكن اعتراض "نادي القضاة" يعبّر عن "ثقافة المرحلة". وقد يكون الضغط المتلازم من الاحزاب السياسية الى تحرك "القضاة المصريين" المستقل من حيث آليته وشعاراته عن تحرك الاحزاب انما يصب في التململ التغييري العام للنخبة المصرية. اعترض "نادي الضباط" عام 1951 – 1952 قبل الانقلاب العسكري على سلطة النظام الملكي. أما "نادي القضاة" المصريين فيعترض على نظام حكم صاحب النفوذ الاول فيه، المؤسسة العسكرية المصرية، بالمعنى ليس الضيق للكلمة ولكن بالمعنى الواسع، من حيث هي "البيئة" الاساسية ل"مجتمع" السلطة مستندة من جهة الى تقاليد ما بعد "ثورة يوليو" حتى في مجال الوظائف المدنية التي يأتي الى مواقع رئيسية فيها "ضباط سابقون". على المستوى السياسي الصرف، ورغم الانخراط المتزايد للأحزاب السياسية المصرية المعارضة، من "وفد" و"ناصريين" و"يساريين" ناهيك عن دور "حركة كفاية" في الدعوة للتغيير خصوصا مع اعلان الاحزاب الرسمية لهذه التيارات الثلاثة وقف "حوارها" مع "الحزب الوطني" الحاكم بعدصيغة تعديل المادة 76 من الدستور التي اعتبرتها هذه التيارات تعجيزية... رغم ذلك هناك من يعتقد ان المواجهة العريضة الفعلية الآن هي بين المؤسسة العسكرية وبين حركة "الاخوان المسلمين"... كقوة رئيسية في المجتمع المصري اتخذت قرارها على ما يبدو ب"النزول" الى الشارع... هذا يدخلنا الى بحث نوعية التبلور السياسي – الفكري ل"الاخوان المسلمين" نصف المدرّبين على الطريقة التركية للعمل السياسي. لأن حضورهم العلني منذ عهد الرئيس انور السادات لم يتحول الى حضور "شرعي" من حيث رفض السلطة وخصوصا الرئيس حسني مبارك للترخيص ل"حزب ديني". لكنهم بالنتيجة – وخلافا للحالة السورية – موجودون في العلن وعلى صلة مباشرة بالحياة السياسية اليومية المصرية، في ظل سياسة التراخي – التشدد التي تمارسها السلطة معهم. هذا حديث طويل... لكن ما يعنينا هنا، ان "حركة القضاة المصريين" (دون ان ننسى التقاليد الليبيرالية العريقة لنقابة المحامين المصريين) هي مؤشر ايجابي على امكان تبلور نموذج مصري سلمي ديموقراطي من داخل الدولة لا من خارجها. وهذا يعني اساسا، وهنا بيت القصيد، ان القوى الحزبية المتحركة ستتبلور ضمن تيارات سلمية ديموقراطية في جو كهذا... ... ولا زلنا بانتظار اكتمال "النموذج المصري"... مع انه علي ان أضيف هنا، الى ان تحرك "القضاة المصريين" هو ذو خصوصية مختلفة عن حركة "الأيدي النظيفة" التي قادها قضاة ايطاليون وأدت الى تغيير جدي في الطبقة السياسية الايطالية، ففي ايطاليا تحرك مدعون عامون بشجاعة ضد ارتباط "المافيا" برموز الطبقة السياسية. أما في مصر فالجسم "النقابي" (وأضع الكلمة بين هلالين لأن المقصود هو "النادي") هو الذي يطلق الاعتراض... اذن ايضا خصوصية مصرية غير مستوردة! تحية لقضاة مصر... وسؤال مع علامة تعجب لقضاة لبنان!