كل عام وأنتم بخير تعيش مصر والعالم الإسلامي هذه الأيام فرحة الاستعداد لشهر رمضان.. الجميع يعيش فرحة الاستعداد ويهييء نفسه للشهر الكريم إلا القليل من البشر الذين لا يهتمون عادة بأي شيء!! مصر زمان في رمضان كانت لها متعة رائعة وكان هذا الشهر بكل ما فيه من أنوار وتسامح وحب.. وكرم الضيافة.. من المسحراتي ومدفع الإفطار التي كانت تتحول إلي طبلة أيضاً في الإفطار علي المآذن بخلاف طبلة المسحراتي في الشوارع والحواري. غابت مظاهر كثيرة جميلة في رمضان.. وإن بقيت الحالة الإيمانية والروحية بنسبة عالية. أبرز ما غاب في رمضان هو الحوار الديني.. كان شهر رمضان ميداناً للحوار في قضايا دينية ودنيوية ولأنه شهر البركات فقد كان يفرض ضوابط وأسساً وآليات للحوار تتوافق مع هذا الشهر الكريم. الحوار بدوره غاب مما يجعلنا نتمني لو أننا نستغل فيض الكرم الرمضاني ليعود الحوار الذي غاب لأسباب كثيرة. الحوار في كل دول العالم وفي كل العصور يعتبر أسلوباً حضارياً وإنسانياً راقياً للتعامل وتأكيد العلاقات الإنسانية في المجتمع.. بل بين المجتمعات بعضها البعض أيضاً. الدولة تبذل جهداً رائعاً لتوفير أساسيات الحياة في رمضان وبأسعار أرخص من مثيلاتها في غيره من الشهور.. والتعاطف الإنساني يبدو أكثر روعة وتميزاً في هذا الشهر من خلال التكافل والتعاطف بكل صوره وألوانه. ولعل هذه الحالة الإنسانية تكون صورة من صور الحوار العائد لنحدد أسساً للعمل الخيري بحيث يكون بشكل مؤسس طوال العام وليس خلال رمضان حتي نضمن التكافل والتراحم وأن يصل الحق لصاحبه وليس لمن يسعي إليه فقط أو من يعرف طرق التسول وحدها وأنا لست ضد السؤال لأن الله أمرنا بأن نعطي السائل حقه بل وأمرنا بأن نعامله بلين ورحمة حتي لو لم نعطه وأمرنا بالمعروف حتي ولو بكلمة طيبة خير من صدقة يتبعها من أو أذي. الحوار الحقيقي في رمضان يكون عادة لصالح الإسلام والمسلمين.. إنه يلم الشمل ويوحد الرؤي والأفكار حيث يطرح كل إنسان رؤيته.. والقلوب قبل العقول تقبل الصحيح وتقتنع به.. وبالتالي فإن وحدة الرأي والفكر لا ترفض التعدد والآراء الأخري التي تتفق كلها في مبدأ واحد وأصول ثابتة.. وليست وسائل الإعلام خاصة المرئية والإلكترونية تهتم بالحوار لتكون بديلاً لوسائل التواصل المباشر في الزمن الجميل وبحيث تؤدي دورها بصدق في تحقيق التواصل الإنساني وليس التباعد والهجران. وسائل التواصل الاجتماعي إذا شاركت وساهمت في هذا الحوار ستخلق حراكاً مجتمعياً وفكرياً بين الناس مما يساهم في إثراء هذا الحوار بشرط ألا نبتعد فيه عن قيم وروحانيات الشهرالكريم وأن نلتزم فيه بضوابط الحوار الأساسية التي يؤكد عليها الإسلام كما يؤكد عليها كل شرع وقانون وعرف وفكر ورؤية حقيقية تسعي لخير البشر. الحوار الغائب إذا عاد في رمضان فيجب أن يتسم بالتسامح والوسطية والحب والرغبة في الوصول إلي رأي صائب ورؤية سليمة وفكر معتدل.. وألا يهدف إلي فرض رؤية محددة أو اتهام الآخر بالباطل أو الميل إلي الصوت العالي لفرض وجهة نظر ما. الحوار الغائب الذي أتمني عودته مع شهر رمضان يتسم بعفة اللسان وعدم التنابز بالألقاب أو الإساءة لأحد مهما كان خلافنا معه.. وألا يلجأ صاحب رأي للتحدي أو التعسف في حواره أو أن يكون هدفه إيصال الآخر إلي الحرج العلني وكأنهما في خصومة.. ومن يمتلك الحجة الواضحة والدليل الدامغ عليه أن يقدمه بحب وصدق وعفة لسان.. وعلي الآخر أن يقبل بالرأي السليم والحجة الصحيحة دون غضاضة.. فالكل في الساحة يحتاج إلي الصواب. الحوار الغائب الذي نتمني لو أنه عاد مع نفحات رمضان يحمل التقدير المتبادل والاحترام الصادق هنا وهناك وقبول النصح أو تصحيح المفاهيم والرؤي أو بعضها دون غضاضة لأنه لا يوجد من يحتكر الصواب علي طول الخط. كان الإمام مالك بن أنس وهو إمام المدينةالمنورة وأحد الأئمة الأربعة مختلفاً في بعض الآراء الفقهية مع الإمام الليث بن سعد وهو إمام مصر وأحد أهم أعلامها الفقهية آنذاك.. فأرسل مالك رسالة إلي الليث قال فيها "من مالك بن أنس إلي الليث بن سعد.. سلام عليك.. فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو.. أما بعد عصمنا الله وإياك بطاعة في السر والعلانية.. وعافانا وإياك من كل مكروه.. اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه.. وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك.. واعتمادهم علي ما جاءهم منك حقيقة بأن تخاف علي نفسك وتتبع ما ترجو النجاة بأتباعه فإن الله تعالي يقول في كتابه الكريم "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" ويقول سبحانه "فبشر عباد الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه". بعد ذلك بدأ الإمام مالك في شرح نقاط الخلاف مع الليث بن سعد والقواعد والأصول التي يتم بها الاستدلال محدداً نقاط الخلاف بينهما.. ثم يختم رسالته قائلاً: فأنظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك.. وأعلم أني أرجو ألا يكون دعائي إلي ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالي وحده والنظر لك والضن بك فأنزل كتابي منك منزلته فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحاً وفقنا الله وإياك لطاعته وطاعة رسوله في كل أمر وعلي كل حال والسلام عليك ورحمة الله". بهذا الأدب الجميل والخلق الرفيع كانت رسالة الإمام مالك وبنفس الأدب والخلق الرفيع كان رد الإمام الليث إلي الإمام مالك.. وكان هذا الرد أيضاً نموذجاً للحوار العلمي ذا الخلق والأدب الرفيع حيث أرسل رسالة علمية رائعة عرض فيها رأيه الفقهي في كثير من آراء الإمام مالك الفقهية ويخالفه فيها الليث بن سعد. وكان مما قاله في الرسالة "عافانا الله وإياك وأحسن لنا العافية في الدنيا والآخرة قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني فأدام الله ذلك لكم وأتمه بالعون علي شكره والزيادة من إحسانه".. و كان مما قاله "وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك.. مع استئناسي بمكانك وإن تأت الدار فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك فإني أسر بذلك كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به علينا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". بمثل هذا الأدب كان الحوار بين الكبار.. وبرغم اختلافهما في الرأي فكل منهما عبر عن حبه وتقديره للآخر وبمثل هذا الأدب يكون الحوار في رمضان..!! ولعل ما قاله شيخ الإسلام ابن تميمة نموذج آخر في الحوار المأمول حيث يقول "لا يجوز لنا إذا قال يهودي أو مسيحي فضلاً عن الرافض قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون مافيه من الحق" ويقول: "ليس من أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل أن تقابل الحجج القولية بالمعاندة والجحد.. بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء.. وأهل الإسلام والملك أحق بذلك ويقول الإمام الشافعي "ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ" ويقول "ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال أظهر الله الحق علي لساني أو لسانه". ولعل في قول معاذ بن جبل خلاصة الفكر في الحوار المأمول حيث كان يقول رضي الله عنه "أقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافراً وفي رواية فاجراً واحذروا زيغة الحكم فسئل: وكيف نعلم أن ما قاله الكافر هو كلمة الحق فقال: إن علي الحق نوراً. وإذا كان هذا هو قول البشر فما قولكم فيما قاله رب العالمين في القرآن الكريم عندما وجه رسوله الكريم في محاورته للمشركين حيث قال سبحانه "وإنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين".. وهو قمة البلاغة والخلق الرفيع في عدم التعصب لرأي في حوار.