مع مرور الأيام وتعاقب الزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته، حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية، رغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف احتج على صحة فتاويه باستناده إلى اختلاف الصحابة أنفسهم فى الفتوى بين بعضهم البعض
كان الإمام الليث بن سعد جم الأخلاق حتى فى اختلافه الفقهى وهو ما تبين من احترامه الجم للإمام مالك فقيه المدينة، فلقد كان بين الإمام مالك والإمام الليث رضى الله عنهما، مودة واحترام، بحل كل منهما الآخر، ويقدره تقديرا عظيما، على الرغم من اختلافهما فى بعض الأمور.
ولقد تبادل مالك والليث رسالتينحفظهما التاريخ، من أمتع الرسائل التى تبودلت بين كبار العلماء، فيهما تقدير متبادل، وحسن بيان الرأى مع الأدب فى التعبير، وحرص على وضوح الفكرة فى أسلوب موجز.
بدأ مالك التراسل فأرسل إلى الليث هذه الرسالة التى تبدأ بتحية الإسلام وحمدا الله تعالى والدعاء للمرسل والمرسل إليه، إنه يقول فى ذلك.
«من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد.
سلام عليكم، فإنى أحمد الله إليك الذى لا إله إلا هو.
أما بعد: عصمنا الله وإياك بطاعته فى السر و العلانية، وعافانا وإياكم من كل مكروه». ثم يبدأ الإمام مالك بذكر مقدمة للأساس الذى يراه مقياسا لصحيح الآراء، ولكنه فى هذه المقدمة لا ينسى الثناء على الليث، والاعتراف بمنزلته، ولا ينسى الموعظة الحسنة والتخويف من الله تعالى فيقول:
«واعلم رحمك الله أنه بلغنى أنك تفتى الناس بأشياء مختلفة مخالفة لما عليه الناس عندنا وببلدنا الذى نحن فيه.
وأنت فى أمانتك وفضلكومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك واعتمادهم على ما جاء منك، حقيق بأن تخاف الله على نفسك»
وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول فى كتابه:
(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى من تحتهاالأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم).
وقال تعالى:
(فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب).
ثم يبدأ الإمام مالك فى شرح وجهة نظره، ووجهة نظر الإمام مالك معروفة منذ عهده، وقد تحدث الأئمة عنها قديما وحديثا، ولا نجد خيرا من شرح الإمام مالك لها فى رسالته هذه إنه يقول بعد المقدمة التى ذكرناها:
(ج) «وبها كان الصحابة» إنه رسول الله صلى عليه وسلم بينأظهرهم:
يحضرون الوحى والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده، صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته.
(د) ثم قام من بعده اتبع الناس له من أمته ممن ولى الأمر من بعده بما نزل بهم: فما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوه عنه» ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا فى ذلك فى اجتهادهم، وحداثة عهدهم، وإن خالفهم مخالف، أو قال غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله، وعمل بغيره.
(ه) ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل، ويتبعون تلك السنن، أما النتيجة التى يصل إليها الإمام مالك من كل ما تقدم فهى:
فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه: للذى فى أيديهم من تلك الوراثة التى لا يجوز انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذى مضى عليه من مضى منا لم يكونوا فيه من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم منذلك الذى جاز لهم، والفكرة التى يدعو إليها الإمام مالك، التى يجعلها إحدى أسس مذهبه هى أن: عمل أهل المدينة حجة، وذلك للأسباب التى ذكرها، ولها شأنها الكبير ووجاهتها التى لا تنكر.
ومع ذلك فإن العلماء أخذوا يفصلونها تفصيلا يستغرق الاحتمالات العقلية، وأخذوا يقلبونها على مختلف وجوهها.
فيقولون مثلا: إن الإجماع الكامل لأهل المدينة حدث بالفعل فى أمور منها مثلا:
أوقات الصلاة وعدد الركعات فى الفروض، ولكن هل شمل الإجماع بقية المسائل؟
ألم يختلف أهل المدينة أنفسهم فى كثير من الأمور الفرعية التى تكون موضوع الفقه؟
ثم أمر آخر: هل يستوى إجماع أهل المدينة -إذا حدث- المستند إلى نقل مع إجماع أهل المدينة المستند إلى استنباط؟ ثم هل حدث إجماع حقيقى لأهل المدينة فيما عدا المسائل التى لم يختلف فيها أحد المسلمين؟
لقد دار حول ذلك وغيره مما يتعلق بعمل أهل المدينة وحجتهأبحاث مستفيضة فى كتب أصول الفقه.
وسنرى فيما بعد نظرة الإمام الليث للموضوع، فإن فيها بيانا ومنطقا لا يتأتى أن يفعله باحث اللهم إلا نادرا، ولكننا قبل أن نذكر رد الليث على هذه الرسالة نذكر الختام الذى ختم به الإمام مالك رسالته وهو فى غاية النفاسة، إنه يقول:
فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك لنفسك، وأعلم أنى أرجو ألا يكون قد دعانى إلى ما كتبت إليك إلا النصيحة لله وحده، والنظر لك والضن بك فأنزل كتابى منزلته فإنك إن فعلت تعلم أنى لم ألك نصحا وفقنا الله وإياك لطاعته، وطاعة رسوله فى كل أمر وعلى كل حال والسلام عليك ورحمة الله.
إنها رسالة تتسم بالأدب العالي، فهل رسالة الليث مثلها؟، إننا سنتبين ذلك من نصها وهو يبدأها بتحية الإسلام ثم بحمد الله تعالى ثم بالدعاء له ولمالك، وذلك بالضبط كما فعل مالك وكما كان يفعل سلفنا رضوان الله عليهم إنه يقول: «سلام عليكم».
فإنى أحمد اللهإليك الذى لا إله إلا هو، أما بعد عافانا الله وإياك وأحسن لنا العاقبة فى الدنيا والآخرة ثم يبدأ الليث بذكر المراسلات بينه وبين الإمام مالك ويذكر أشياء لم تذكر فى رسالة الإمام مالك ويبدو أن المؤرخين الذين ذكروا رسالة الإمام مالك لم يذكروا فيها ما يستدل عليه من رسالة.. «الليث».
يقول الليث:
قد بلغنى كتباك تذكر فيه من صلاح حالكم الذى يسرنى فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه وذكرت نظرك فى الكتب التى بعثت بها إليك وإقامتك إياها وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيرا فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.
ويبدو من هذا أن كتبا نسبت إلى الإمام مالك قد وصلت الليث فأحب أن يتثبت من أنها حقيقة بقلم الإمام مالك فأرسلها إليه مستوثقا ونظر فيها الإمام مالك و«أقامها» ومعنى أنه أقامها أنه أصلح منها ما قد عساهأن يكون من أخطاء كتابية جاءت عن النساخ ثم ختمها الإمام مالك بختمه وذلك معناه: اعتمادها.
ثم يقول الإمام الليث: وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتانى عنك، إلى ابتدائى بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندى موضع، وإنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن رأيك فينا جميلا، وإلا لأنى لم أذاكرك مثل هذا.
وإنه بلغك أنى أفتى بأشياء. وقد أصبت بالذى كتبت به من ذلك، إن شاء الله تعالى، ووقع منى بالموقع الذى تحب، وما أجد أحدًا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ بفتياهم فيما اتفقوا عليه منى، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ونزول القرآن عليه، بين ظهرانى أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعًا لهم به، فكما ذكرت. فتاوى الصحابة
لقد وافق الليث الإمام فى أسلوب لطيف على ما ذكره من كل ذلك:
ثم بدأ يبين رأيه فى موضوع الفكرة الأساسية وهى «عمل أهل المدينة حجة» فقال: أما ما ذكرت «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، ذلك الفوز العظيم». فإن كثيرًا من أولئك السابقين خرجوا إلى الجهاد فى سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله، وسنة نبيه، ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان، الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين، ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون فى الأمر اليسير لإقامة الدين، والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه، فلم يتركوا أمرًا فسره القرآن أو عمل به النبى - صلى اللهعليه وسلم - ، أو ائتمروا فيه بعده إلا علمهموه، فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله بمصر والشام والعراق على عهد أبى بكر، وعمر وعثمان ولم يزالوا عليه حتى قبضوا، لم يأمروهم بغيره، فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمرًا، لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم.
لقد خرج الآلاف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مشارق الأرض ومغاربها فاتحين، وهؤلاء الآلاف عشروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذوا عنه، وأخذوا عنه، وأفتوا فى البقاع التى ذهبوا إليها بما سمعوا ووعوا، قد كانوا على صلة مستمرة بدار الهجرة وبالخلفاء الراشدين، أبى بكر وعمر وعثمان، وكان الخلفاء يعلمون ما عليه الناس من أمر دينهم، فإذا عمل الجنود شيئًا ومنهم الصحابة رضوان الله عليهم، ولم ينههم عنه الخلفاء الراشدون كان هذا الأمر سليمًا لا يجوز تغييره.
هذا هو الرد الأول على الإمام مالك.
ثم يقول الليث:
مع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعد الفتيا فى أشياء كثيرة، ولولا أنى قد عرفت أن قد علمتها لكتبت بها إليك.
وهذا هو الرد الثانى وهو متصل اتصالاً وثيقاً بالرد الأول.
أما الرد الثالث وهو أيضاً مرتبط ومشابه لما قبله فهو ما يتحدث به على النحو التالى: ثم اختلف التابعون فى أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف، ثم اختلف الذين كانوا من بعدهم فحضرتهم بالمدينة، ورأسهم يومئذ ابن شهاب، وربيعة بن أبى عبد الرحمن، وكان من خلاف ربيعى لبعض من قد مضى، ما قد عرفت وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوى الرأى من أهل المدينة يحيى به سعيد وعبيد الله بن عمر وكثير بن فرقد، وغير كثير ممن هو أحسن منه حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه، وذاكرتك أنت وعبد العزيز بعض ما تعيبعلى ربيعة من ذلك فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة فى الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمة الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله.
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه فى الشىء الواحد على فضله رأيه وعلمه بثلاثة أنواع، ينقض بعضها بعضا، ولا يشعر بالذى مضى من رأيه فى ذلك.
أما النتيجة لكل ذلك فهى ما عبر عنه الليث بقوله:
«فهذا الذى يدعونى إلى ترك ما أنكرت تركى إياه».
ثم يأخذ الليث فى ذكر بعض الجزئيات التى أنكرها عليه مالك، وأول مسألة ذكرها هى مسألة الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فى غير حالة السفر حينما يكون مطر، وقد ورد هذا حديث أورده الإمام مسلم هذا نصه:
«حدثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعاً عن زهيرقال ابن يونس حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جمعاً بالمدينة فى غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير فسألت سعيداً لم فعل ذلك؟ فقال سألت ابن عباس كما سألتنى فقال: أراد ألا يحرج أحداً من أمته».
وقد ذكره الإمام مسلم بروايات متعددة.
ويقول الإمام النووى:
وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع فى الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابى عن القفال والشاشى الكبير من أصحاب الشافعى عن أبى إسحاق المروزى عن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر، ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن ألا يحرج أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره.