إمام مجتهد, فقيه مقتصد, يعلم الأحكام مليا, ويبذل الأموال سخيا أبو الحارث الليث بن سعد رضي الله عنه من متقدمي المجتهدين, لم يركن إلي تقليد لتراث موروث يضفي عليه قداسة, بل أعمل عقله وفكره لإجلاء الأحكام دون إفراط ولا تفريط. تكشف رسالته ومناظرته للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن معالم تجديدية في الخطاب الديني يمكن إيجاز نقاطها: أولا: أدب الخلاف وأخلاقيات البحث العلمي, مثال لذلك قوله في رسالته للإمام مالك رضي الله عنه عافانا الله وإياك, وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة, قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني, فأدام الله ذلك, وأتمه بالعون علي شكره, والزيادة في إحسانه الخ ثانيا: البصر بالأحكام, والمعرفة بوجوه الاستنباط, والموازنة بين الأحكام فمن ذلك: رفض مارآه الإمام مالك من جعل( عمل أهل المدينة) دليلا وأصلا ومصدرا في التشريع الإسلامي علي إطلاقه, وأوضح في رسالته له أن الصحابة رضي الله عنهم تفرقوا في البلاد, ولم يجتمعوا ويداوموا سكني المدينة فتفرقوا في الكوفة والبصرة بالعراق, والشام, ومصر.. الخ ولم يسلم الليث بأن أهل المدينة كانوا مجمعين إجماعا تاما وتساءل عن حقيقة الإجماع, وهل يتساوي الإجماع المستند إلي النقل مع الإجماع المستند إلي الاستنباط؟ للإمام الليث رضي الله عنه منهاج في الاجتهاد, يوضحه فضيلة الدكتور عبدالحليم محمود رحمه الله تعالي قائلا: إنه منهج الاتباع والاستسلام لسيدنا رسول الله صل الله عليه وسلم في كل ما أمر به ودعا إليه, وفي مناقشته للقضايا التي أثارها مالك في رسالته رد عليه الإمام الليث بأقوال النبي صلي الله عليه وسلم وأفعال أصحابه رضي الله عنهم إن السنة هي الأساس بعد القرآن, والسنة نص, ولا اجتهاد مع النص, ولكنه اجتهاد في فهم النصوص ومايمكن أن يستفاد منها من أحكام, إن للنص إشعاعات متعددة والفقيه الأريب هوالذي يمكنه الاستفادة من هذه الإشعاعات. - من فتاوي الليث جواز تزوج رجل بمطلقة ثلاثا بقصد تحليلها لزوجها ودون اتفاق أوعلم, وقد اختلف الفقهاء في هذا فيري أبو حنيفة صحة هذا العقد علي الإطلاق لمصالح ومقاصد مع الكراهة واشترط كغيره من الفقهاء الدخول, وأفتي مالك بفساد العقد ومعاقبة الزوجين إذا كانا عالمين, وأفتي الشافعي بالصحة شرط عدم العلم والاتفاق من الأطراف وشرط الدخول, وأفتي أحمد ببطلان هذا العقد. - أفتي الليث بالصحة حتي ولو لم يدخل إذا كان الزوج المطلق مخدوعا أومجبرا واستند إلي قصة مشهورة ذكرها الحموي في( ثمرات الأوراق) والعقاد في( أبوالشهداء الحسين رضي الله عنه) من فعل الإمام الحسين رضي الله عنه مروءة مع عبدالله بن سلام الذي تم الاحتيال عليه من قبل يزيد بن معاوية لتطليق زوجته حسناء عصرها( رينب بنت إسحاق) ثلاثا ليتزوجها وتدخل احتسابا الإمام الحسين رضي الله عنهم فتزوجها لتحليلها لمطلقها المخدوع ليعطي المثل للنبل والمروءة, وكانت الواقعة محل احتجاج الإمام الليث. من خصائص وسمات وملامح التجديد لدي الإمام الليث رضي الله عنه توجيه الحركة الفقهية إلي الناحية الروحية( قرر ذلك الإمام الأكبر مصطفي عبد الرازق ود. عبدالحليم محمود رحمهما الله تعالي) يعد الليث راوية للحديث النبوي فقد روي عن عدة من التابعين فوق الخمسين رجلا وأدرك من تابعي التابعين مائة وخمسين رجلا, والمنهج( فقه الحديث) بمعني لاينتقل, من حديث إلي آخر إلا بعد الفهم العميق الدقيق. وتحفل المصنفات الحديثية المعتمدة كالبخاري وأحمد وغيرهما بسند الرواية عن الفقيه المصري الحجة الليث بن سعد رضي الله تعالي عنه وأرضاه