ما صلة التراث بالإصالة؟.. لماذا يتلازمان ليصبحا في تقدير البعض شيئا واحدا؟! إن الفنان يتمثل التراث. يحيله إلي ذاته. فيصنع منه شيئا جديدا. يقول زكريا إبراهيم: "إن العمل الأصيل يستبقي التراث. ويلغيه في آن واحد. أو أنه يحتفظ بهذا التراث بواسطة العمل علي تجاوزه". الأصالة لا تعني مجرد العودة إلي القديم. أو التراث. إنها ليست مجرد دعوة إلي احياء الماضي. أو كما يقول البعض "تأصيل الجديد في تربة القديم". لكنها تعني أن يكون الفنان اصيلا. أي يكون أصل نفسه. فهو لا يصدر إلا عنها في كل ما يعبر. بحيث تبدو الفروق الفردية بينه وبين الآخرين. بل إن أصالة كل فنان هي بمدي اختلافه عن سواه من المشتغلين بالابداع. بما يطلق عليه زكريا ابراهيم بحق "الحرية الإبداعية". الحرية تعني استخدام القدرة الإبداعية اطلاقا. تعني كما يقول أندريه جيد ان ما كان في استطاعة غيرك أن يفعله. فلا تفعله. وما كان في استطاعة غيرك أن يقوله. فلا تقله. وما كان في وسع غيرك أن يكتبه. فلا تكتبه. انما تعلق في ذاتك بذلك العنصر الفريق الذي لا يتوفر لدي أحد غيرك. واخلق من نفسك بصبر وأناة. وبتعجل ولهفة ذلك الموجود الوحيد الذي يصعب لأحد غيرك أن يقدم بديلا عنه. إن الأصالة لا تكمن في واقعة التمايز. أو الاختلاف. بقدر ما تكمن في عملية الاستقلال الذاتي. أو النشاط الإبداعي. الأصالة بمعني الإفادة من القديم. وتضفيره في أعمال فنية. تعبر عن الذات المبدعة هي السبيل الوحيد لتجاوز الأجيال السابقة. لا تعني الشذوذ. أو الإغراب. أو التفرد المطلق. لكنها تعني بأبسط عبارة الحرية الإبداعية التي تفيد من الآخرين. تضيف إلي ابداعاتهم. تهضمها. وتفرزها. بما يعبر عن ذات الفنان. وعن البيئة التي يصدر عنها. والعالم الذي ينتمي إليه. الفارق كبير بين الاستلهام. التوظيف. الاستخدام. وبين التقليد. نحن نحاول توظيف التراث. لكننا لا نحاكيه. اطلاقا. ولا نقلده. وعلي حد تعبير جوته. فإن ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا. لابد له من أن يعود فنكسبه من جديد. حتي يصبح ملكا خاصا لنا. بل إن الفنان عندما يأخذ عن القدامي "صورة" العمل الفني. فإن الشخصية الفنية للفنان تظل هي المسيطرة. هي المرتسمة في العمل الفني. تظل الشخصية الأوضح. لا تصبح ظلا لشخصيات القدامي. نحن نقرأ التراث لنستلهمه. لا لنعبده. الشعراء الأوروبيون يقرأون هوميروس. يستلهمون أعماله. يتمثلون فيها البراءة والصفا. وهذا هو الإطار الذي يتحدد فيه تعاملنا مع التراث. نحن لا نستلهم التاريخ ولا السير والقص الشعبي بصورة مباشرة. بل نفيد من أسلوب التشخيص التاريخي. أو الأسطوري. أو الملحمي. لا نلجأ إلي صيغ ثابتة. أو مكررة. مما ورد في أعمال سابقة. لكننا نستخدم لغتنا الخاصة ولنا تكنيكنا الخاص. بما يتواءم وطبيعة العصر الذي نحيا فيه. ونعبر عنه. أذكرك بما كتبه طه حسين ردا علي رسالة للرافعي: "أما أنا فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت مضطرا أن هذا الأسلوب الذي ربما راق أهل القرن الخامس والسادس للهجرة. لا يستطيع أن يروقنا في العصر الحديث". في تقديري. أن الأعمال التي توظف التراث. إنما تحاول علي نحو ما تحقيق التواصل بين التراث والمعاصرة. بين الماضي والحاضر. رؤية الواقع من خلال أحداث التاريخ. لأستاذنا نجيب محفوظ مقولة مهمة: "ما نريده للرواية العربية الآن. هو أن تكون لها شخصية مميزة أصيلة. أنا عربي لا لبس في ذلك. وأريد أن نصل إلي رواية ذات شخصية عربية مميزة. كل ما نستطيع أن نفعله الآن. هو اننا عندما نجد أن موضوعنا يحتاج إلي أسلوب استعمله كافكا مثلا. أن نستعمل هذا الأسلوب صدق. وأن ندخل عليه من ذاتيتنا. بحيث أن القارئ الذكي عندما يقرأه يقول: هذا كافكا صحيح. لكنه تطور ما نريده هو تطور كاسح في هذا المجال". أعيب تلك المحاولات التي استهدفت بعث القالب القصصي الروائي. لكنها عادت كما يقول محمد عابد الجابري "لتمتح من معين التراث لا لتطويره". في المقابل. فإني أعيب من يجعلون الحداثة الغربية وحدها هديا لهم. يتبعونها. يقلدونها. إنهم لا أكثر من نقلة. وأذكر أن محمود صبح وهو من علماء الأندلسيات ويشغل وظيفة استاذ الأدب العربي بجامعة مدريد المركزية روي أن طلبته اعجبتهم أبيات من الشعر العربي القديم. وإن غابت معانيها إلي حد ما عن أذهانهم. لأن ذلك الشعر هو الأكثر تعبيرا عن طبيعة العربي في محيطه. في حين أن هؤلاء الطلاب رفضوا معظم الشعر العربي الحديث المترجم للأسبانية. البياتي مثلا. قالوا إن ما يكتبه ليس شعرا عربيا. لكنه مزيج من ناظم حكمت ونيرودا ورفائيل البرتي. انه شعر غير أصيل! التراث هو حلقات أولي في السلسلة التي نمثل الآن حلقتها الأخيرة. لكننا بالقطع لسنا آخر حلقاتها.