ذات يوم من السنوات الأولي لثورة 23 يوليو.. استدعي الرئيس الراحل جمال عبدالناصر المليونير المصري رجل الاقتصاد والصناعة أحمد عبود باشا.. لمقابلته في مجلس قيادة الثورة بالجزيرة.. وفرح عبود باشا بهذه الدعوة ظناً منه أن وراءها منصباً كبيراً أو أي أمر آخر مفيد له. وبمجرد أن رآه جمال عبدالناصر حتي بادره بالسؤال: "ماذا وجدت في والدي عبدالناصر حسين من عبقرية اقتصادية أو خبرة في شئون المال حتي تجعله عضو مجلس إدارة إحدي شركاتك" ثم فتح درج مكتبه وأخرج مظروفاً به الشيك الذي كتبه عبود باشا لصالح والده وقيمته ألف جنيه كأول مرتب له عن عضويته في مجلس الإدارة. وكأن "جردل مياه" انسكب فوق رأس عبود باشا بمجرد حدوث هذا التصرف.. ولم يسكت عبدالناصر ولكنه استرسل قائلاً: طبعاً لقد عينته عندما اكتشفت أن ابنه "يقصد جمال" أصبح يحكم مصر ولا شيء غير هذا.. وأضاف عبدالناصر بلهجة غاضبة "اسمع يا عبود".. إذا كنت تعتقد أنك تشتري جمال عبدالناصر بتعيين والده في إحدي شركاتك فأنت مخطيء فلا يوجد الآن ملك أو كريم ثابت يمكن شراؤه بملايينك. هذه الحكاية واحدة من الحكايات الكثيرة التي كتبها الباحث التاريخي أحمد الغريب في مؤلفه الرائع الذي ألفه عن أحمد عبود باشا رجل الاقتصاد والصناعة المصري والذي تدرج في وظائف بسيطة بعضها في مصر.. وبعضها في اسكتلندا وإنجلترا إلي أن أصبح من أكبر مليونيرات العالم.. وفيه أيضاً يتناول المؤلف حقبة مهمة في تاريخ مصر تعرض خلالها للاقتصاد المصري علي مدي أكثر من 50 عاماً.. ابتداء من عام 1905 عندما تخرَّج عبود باشا في مدرسة المهندسخانة.. وكيف استطاع أن يطوِّر نفسه وأن يحقق رحلة الصعود إلي القمة.. وفي رأيي الخاص أنه أمضي سنوات طويلة من العمل والجهد بالإضافة إلي مساعدات الإنجليز له سواء من خلال صداقته برجال الأعمال أو من الرسميين الإنجليز.. المهم في جميع الأحوال أنه خلال فترة زمنية لا تريد عن ثلاثين عاماً.. أصبح يمتلك أكبر عمارة في مصر وهي عمارة الإيموبيليا بشارع شريف. ويمضي أحمد الغريب في سرد حكايات أحمد عبود وآرائه في الفلوس وفي الاقتصاد وفي كيفية استغلال الأموال. وعن رأيه في الفلوس قال عبود باشا.. الفلوس تفتح النفس وتبعث النشاط في الإنسان .. وأنا شخصياً لا أحصل علي إجازة حتي في يوم الأحد وهو يوم الإجازة الأسبوعية لكل شركاتي اذهب إلي المكتب.. وأنجز أكثر من الأيام العادية. وسأله مرة أحد الصحفيين عن الغني الفاحش الذي يعيش فيه وماذا يفعل بكل هذه الملايين التي جمعها وسأله.. ألم يحن الوقت لكي تستريح وتنعم بعائد الملايين.. ويرد عبود باشا بشيء من الغرور أنا أعمل لمجرد العمل ولأرد الجميل لمصر.. التي من خلالها جمعت الملايين.. وأسعد لحظاتي عندما أقوم بتنفيذ مشروع ما أو مصنع أو شركة ومعني هذا أننا نوفر آلافاً من فرص العمل للشباب. هذا الكلام قاله عبود باشا في نهاية الثلاثينيات.. فقد كانت البطالة متفشية بين الشباب.. وكان كما يقول من المهتمين بالقضاء ولو علي نسبة صغيرة من البطالة. .. وسأله الصحفي مرة أخري كيف جمعت كل هذه الملايين. .. ويرد عبود.. هل تعتقد أنني وجدتها أو تسولتها لقد تم جمعها بالعرق والسهر والفكر الجيد والعمل المستمر. لقد جمعت المليون الأول بانفاق عشرين سنة من عمري أما باقي الملايين فإن جمعها كان سهلاً. وعموماً الفلوس قوة.. وهي التي تعطي القوة في اتخاذ القرار وفي التعامل مع الآخرين.. أما إذا أصبحت ملاليم ستشعر يقيناً بالضعف. ولكن يصبح الشباب مليونيراً فإن عبود باشا يقول لمن يريد أن يكون مليونيراً عليه أولاً أن يحترم العمل الذي يؤديه مهما كان صغيراً و تافهاً فهذه خطوة مهمة.. صحيح أن النجاح هو توفيق من عند الله فقد تجتمع في شخص ما كل مؤهلات النجاح ولكن سوء الطالع يلازمه فلا ينجح في أي عمل في حين ينجح فيه شخص آخر أقل كفاءة في الوقت نفسه فإن العمل له ساعات محددة يجب الالتزام بها بدون الانشغال في أمر آخر.. فالعامل الذي "يزوِّغ" من عمله لأي سبب من الأسباب لن يصل أبداً.. والذي يتكبر علي عمله لن يحقق نجاحاً فيه.. ودائماً يصل إلي الفشل.. فالنجاح يلزمه أن يتبعه مزيد من العمل حتي يتحقق ويبتعد عن الفشل. وهناك أمر آخر فإن الفرح الزائد بنجاح ما قد لا يستمر ولهذا يجب أخذ الأمور ببساطة وجدية.. وكم من الشباب الذين حققوا نجاحاً ثم انصرفوا لحياة اللهو.. فكانت النتيجة وبالاً عليهم.. كذلك من الأهمية ألا يتم الإنفاق إلا في موضعه ولا يتم التصرف في أي مستلزم من مستلزمات العمل لأنه قد يتم الاستغناء عن شيء ما اليوم ولكن تظهر الحاجة إليه في اليوم التالي. وهناك حقيقة مهمة إذا شعر العامل أن صاحب العمل يهتم به وبإنتاجه ويعبتره أحد الشركاء فإن إنتاجه سيكون ذلك أفضل كماً ونوعاً. وغير ذلك من النصائح التي أوردها أحمد الغريب في كتابه والتي سردها للشباب الذي يريد أن يكون مليونيراً. مع انني شخصياً أري أن الوصول إلي المليون أو المليار حالياً يلزمه حسن اختيار الوسيلة.. فالوظيفة لن تؤدي إلي المليونية.. ولكن العمل الخاص والمشروع الجيد هما الأساس للمليون فهناك أعمال المقاولات والتجارة في العقارات كانت بالنسبة لعبود باشا إحدي وسائل جمع الملايين.. ومازال حتي الآن العمل في المقاولات والتجارة في العقارات هما من الوسائل السريعة للوصول إلي الملايين. وبصفة عامة كان عبود باشا يهوي المشروعات وعضوية مجالس الإدارات.. حتي لقد بلغت عضويته لمجالس الإدارة في أكثر من عشرين شركة ومصنعاً.. وقد برع في إنشاء مشاريع حيوية تفيد البلاد فائدة حقيقية مثل مصانع السكن وغيرها كثير.. بالإضافة إلي رئاسته لمجلس إدارة النادي الأهلي. وعلي الرغم من السلبيات التي أحاطت به واستيلاء ثورة 23 يوليو علي أمواله وممتلكاته إلا أنه بحق يعتبر أسطورة الاقتصاد المصري.