وكيل زراعة بني سويف يتفقد مطحن بوهلر لمتابعة أعمال توريد القمح    محافظ الغربية يتابع الأعمال الجارية بمشروع محطة إنتاج البيض    وزير الإسكان: استرداد مساحة 17990 مترًا بالسويس الجديدة..وقرار بإزالة مخالفات بناء ببني سويف    ننشر حركة تداول السفن والحاويات في ميناء دمياط    مباحثات قطرية تركية تتناول أوضاع غزة على وقع التطورات في رفح    مصادر: إخلاء معبر رفح الفلسطيني من الشاحنات    باحث فلسطيني: صواريخ حماس على كرم أبو سالم عجّلت بعملية رفح الفلسطينية    كالتشيو ميركاتو: لاعب روما مهدد بالإيقاف بسبب التقاط الكاميرات تلفظه بعبارات غير لائقة أمام يوفنتوس    سكاي: بايرن يدرس التعاقد مع تين هاج    غرق طفل في مياه النيل بأسوان    بدءا من الأربعاء.. 6 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بروض الفرج    ختام فعاليات المؤتمر الرابع لجراحة العظام بطب قنا    الدفاع الروسية: إسقاط مقاتلة سو-27 وتدمير 5 زوارق مسيرة تابعة للقوات الأوكرانية    حبس المتهمة بقتل زوجها بسبب إقامة والده معها في الإسكندرية    وزير الشباب يشهد "المعسكر المجمع" لأبناء المحافظات الحدودية بمطروح    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    «الصحة»: إجراء 4095 عملية رمد متنوعة ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    5 ملفات تصدرت زيارة وفد العاملين بالنيابات والمحاكم إلى أنقرة    زيادة قوائم المُحكمين.. تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    «التنمية المحلية»: مبادرة «صوتك مسموع» تلقت 798 ألف شكوى منذ انطلاقها    برلماني يطالب بزيادة مخصصات المشروعات و الإنشاءات في موازنة وزارة الصحة    استياء في الزمالك بعد المشاركة الأولى للصفقة الجديدة    طارق العشرى يُخطط لمفاجأة الأهلي في مواجهة الثلاثاء    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    "دور المرأة في بناء الوعي".. موعد ومحاور المؤتمر الدول الأول للواعظات    النادي الاجتماعي بالغردقة يستقبل 9 آلاف زائر خلال شم النسيم والاستعانة ب 25 منقذًا    على مائدة إفطار.. البابا تواضروس يلتقي أحبار الكنيسة في دير السريان (صور)    إيرادات علي ربيع تتراجع في دور العرض.. تعرف على إيرادات فيلم ع الماشي    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    في ذكرى ميلادها.. محطات فنية بحياة ماجدة الصباحي (فيديو)    لماذا يتناول المصريون السمك المملح والبصل في شم النسيم؟.. أسباب أحدها عقائدي    مفاجأة.. فيلم نادر للفنان عمر الشريف في مهرجان الغردقة لسينما الشباب    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    «يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    الرئيس الصيني: نعتبر أوروبا شريكًا وتمثل أولوية في سياستنا الخارجية    تضر بصحتك- أطعمة ومشروبات لا يجب تناولها مع الفسيخ    بالليمون والعيش المحمص.. طريقة عمل فتة الرنجة مع الشيف سارة سمير    7 نصائح مهمة عند تناول الفسيخ والرنجة.. وتحذير من المشروبات الغازية    الشرطة الأمريكية تقتل مريضًا نفسيًا بالرصاص    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    رئيس مدينة مطاي يتفقد سير العمل بمعدية الشيخ حسن    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    رئيس لجنة الدينية بمجلس النواب: طلب المدد من ال البيت أمر شرعي    الأوقاف تحدد رابط للإبلاغ عن مخالفات صناديق التبرعات في المساجد    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    بالصور.. الأمطار تتساقط على كفر الشيخ في ليلة شم النسيم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السد العالي.. إرادة شعب
نشر في المساء يوم 10 - 02 - 2018

لنصلي إلي الله سبحانه وتعالي وإليه الشكر كل الشكر علي نعمته التي أسبغها علي مصر في اطار نعمه الكثيرة.. حقا الشكر علي ما قدره لمصر وللمصريين بإنشاء واحد من أعظم وأضخم السدود المائية في العالم وأعظم المشروعات الهندسية في القران ال 20 وهو السد العالي الذي اقيم لحماية مصر من شر الجفاف عندما تقل مياه نهر النيل كما حدث في عام 1979 إلي عام 1987 وأن يمنع شر آخر عندما يزيد الفيضان علي الحدود المألوفة والتي كانت تعرض القري والأراضي الزراعية للغرق وذلك كما حدث عندما زاد ايراد النيل زيادة كبيرة عام 1975 ولولا السد العالي لحدثت مجاعات نتيجة الجفاف وقلة مياه النيل ولولاه أيضا لغرقت القري بمياه الفيضان الزائدة.
الخبراء يقررون ان العالم يمر بحالة جوع مائي نتيجة قلة الأمطار في بعض البلاد وتعرضها للتصحر وقلة المياه وربما ندرتها.. وقد أعلنت حكومة كيب تاون بجنوب افريقيا ان صنابير المياه في البيوت لن يوجد بها قطرة إلي أن ينتهي الخطر لأن البحيرات جفت والأراضي التي كانت مليئة بالمياه تصحرت.. وتقرر منع وصول المياه إلي البيوت بعد أسابيع قليلة كما أعلنت المنظمة الدولية للمياه بأن هناك عددا من البلاد معرضة لعدم وجود مياه خلال الفترات القادمة والحمد لله ان مصر لم تكن بين هذه البلاد وأشارت المنظمة إلي ضرورة النظر بعين الاعتبار إلي الحفاظ علي نقطة المياه في كل بلاد العالم خوفا من أي جفاف منتظر أو متوقع.
المهم ان السد العالي كان نعمة علي مصر بعكس ما ذكره بعض الجهلاء من انه لم يكن ضروريا أو كما ذكر وزير خارجية أمريكا مستر جون فوستر دالاس من ان مصر ستندم علي إنشاء السد العالي!!
وقد أشارت الهيئة الدولية للسدود إلي أن السد العالي المصري هو أعظم مشروع هندسي شيد في القرن العشرين مقارنة بكافة المشروعات العملاقة الأخري واضافت الهيئة في تقريرها ان السد المصري تفوق علي 122 مشروعا عملاقا في العالم لما حققه ويحققه من فوائد عادت علي الجنس البشري بما يوفره من رصيد استراتيجي في المياه بعد ان كانت مياه النيل في الفيضانات تذهب سدي إلي البحر المتوسط.
47 عاما
وفي منتصف شهر يناير الماضي بلغ عمر السد 47 عاما فقد افتتحه يوم 15 يناير 1971 الرئيس الراحل أنور السادات ومعه رئيس الاتحاد السوفيتي مستر يودجورني وصار هذا التاريخ يوما قوميا بالنسبة لمحافظة أسوان وبالنسبة للمشروعات المائية بصفة عامة.
والحقيقة ان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان يحلم بيوم انتهاء هذا المشروع وبداية تشغيله ولكن القدر لم يمهله ومات قبل افتتاحه بثلاثة أشهر وبضعة أيام.
ولقد بذلت مصر جهودا جبارة لكي يتم بناء هذا السد العملاق وتعرض المسئولون المصريون لضغوط جبارة من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والبنك الدولي الذين فرضوا شروطا تمس استقلال البلاد الوطني بل وتعتبر تدخلا سافرا في شئون مصر الداخلية ومع الاصرار والتحدي تغلبت البلاد علي كل الضغوط ورفضت كل الشروط.. وكان السد العالي صاحب العمل الجبار والحكايات المثيرة.
إرادة المصريين
السد العالي هو من أكبر وأضخم وأهم المشاريع المائية علي الأنهار.. نفذته ثورة 23 يوليو 1952 وكان تنفيذه حكاية كبيرة اشتركت فيها دول كثيرة وترتب علي اقامة احداث جسام ولكن في جميع الأحوال هذا السد دليل علي قوة إرادة المصريين وتحملهم للتحديات والوقوف بصلابة أمام قوي غربية.. ولكن في النهاية كان السد العالي في أسوان.. كانت فكرته كما ذكرت كتب التاريخ وموسوعات تاريخ مصر.. تعود إلي المهندس والعالم الإسلامي الحسن بن الهيثم الذي حضر إلي مصر عام 1018 ميلادية بناء علي دعوة الحاكم بأمر الله الذي سمع عنه وعن عبقريته الرياضية وقد نقل عنه انه قال لو كنت في مصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص وبالفعل عرض مشروع يتلخص في اقامة سد ضخم عند أسوان لحجز مياه النيل الزائدة بدلا من تدفقها في البحر المتوسط ويعد إلقاء هذه المياه النيلية في البحر خسارة كبيرة.
ويقول أحمد حسين في كتابه موسوعة تاريخ مصر.. ان الحاكم بأمر الله خرج بنفسه للقائه خارج القاهرة وأعطاه الحاكم ما يلزمه من نفقة مالية وعمال ومساعدين وأوفدهم جميعا إلي أسوان ويروي ان ابن الهيثم توقف عند جندل أسوان ولكن لا يدري أحد لماذا عزف الحاكم عن الاستماع إليه وتركه وشأنه.. ويروي أيضا ان ابن الهيثم لم يقدم مشروعا يروق للخليفة أو ان ابن الهيثم عجز عن تحقيق ما كان ينشده الخليفة وهنا خاف ابن الهيثم من بطش الحاكم فآثر الاختفاء في منزل من المنازل وتظاهر بالجنون وظل علي ذلك متظاهرا بأنه فقد عقله إلي أن قتل الحاكم سنة 1020 فخرج من بيته وطبعا نام المشروع ولم يعد أحد يفكر في اقامة سد عال أو سد منخفض.
خزان أسوان
وظل الحال علي هذا المنوال بدون أي تفكير في إقامة مشروع مائي علي نهر النيل.. ولكن في 15 فبراير سنة 1899 وصل إلي مصر الدوق أوف كونوت نجل ملكة انجلترا حيث اتخذ طريقه إلي أسوان للاحتفال بوضع حجر أساس لإنشاء خزان في أسوان وكان خديو مصر في ذلك الوقت هو الخديو عباس حلمي الثاني عندما عرف بقدوم الدوق أوف كونوت لوضع حجر أساس للخزان اعتذر عن الاشتراك في الحفل حفاظا علي كرامته في وجود الدوق الانجليزي الذي كان سينفذه بحكم الاحتلال الانجليزي وبالفعل تولي الدوق وضع حجر الاساس وابرق إلي الخديو يقول له ان الاحتفال جري علي ما يرام واني اهنيء البلاد بإنشاء هذا الخزان الذي سيعود علي أهلها بالنفع الكبير.
وكان المعتمد البريطاني اللورد كرومر من أشد المتحمسين لإنشاء هذا الخزان لأنه كان يعتبر من أضخم مشروعات الري في العالم في ذلك الوقت.. وقد نجح ومعه مستشار وزارة الأشغال المستر جار نستون في تدبير الأموال اللازمة لتحقيق هذا المشروع دون ان يحملوا الخزانة المصرية - التي كانت خاوية - أي أعباء مالية حيث تم الاتفاق مع احدي الشركات البريطانية علي الانتهاء من بناء الخزان مقابل مبلغ مليونين من الجنيهات.. ويتم سدادها علي عامين وذلك من خلال حساب قام به الانجليز إذ أفرزت الدراسات انه سيترتب علي اتمام المشروع زيادة في ضريبة الأطيان الزراعية مقدارها 380 ألف جنيه سنويا وزيادة في الأراضي الزراعية الحالية تقدر منتجاتها بنحو مليون جنيه أما الزيادة في ثروة البلاد القومية فإن الدراسات اشارت إلي انها تقدر بنحو مليونين و600 ألف جنيه سنويا وكان هذا هو الحساب الذي يتيح سداد قيمة إنشاء الخزان دون ان تتحمل ميزانية الدولة أي مبالغ مالية.
وفي 10 ديسمبر 1902 تم افتتاح الخزان بحضور الدوقة اون كنوت والخديو عباس حلمي واللورد كرومر وممثلي الدول بخلاف 600 شخصية مصرية وأجنبية.. المهم انه تبع انشاء الخزان انشاء قناطر في أسيوط حيث سار العمل في القناطر مع الخزان وبلغت تكلفة المشروعين ثلاثة ملايين و500 ألف جنيه وقد تم تعلية خزان أسوان مرتين الأولي في سنة 1907 وانتهت الأعمال بعد خمس سنوات والمرة الثانية كانت في سنة 1929 وانتهي العمل فيها سنة 1933 وذلك كما جاء في موسوعة تاريخ مصر لأحمد حسين.
بداية حكاية السد
نأتي إلي عام 1950 جاء إلي مصر خبير يوناني في المياه هو المهندس داتيوس الذي فكر في مشروع يمكن من خلاله حجز المياه الواردة في الفيضان بحيث لا تلقي بكميات هائلة من المياه إلي البحر المتوسط وأعد المهندس مشروعا بإنشاء سد ضخم عند مدينة أسوان بحيث يقوم بحجز المياه في بحيرة صناعية ومع تدفق المياه يمكن توليد الكهرباء.
ويقول حسن يوسف باشا وكيل الديوان الملكي في مذكراته "القصر" ان هذا المهندس اليوناني تقدم بمشروعه إلي الديوان لاتخاذ قرار فيه.. حيث أكد المهندس ان اقامة هذا السد سيمكن من خلاله تحويل الأراضي الزراعية التي تروي ريا موسميا ويعرف باسم "ري الحياض" إلي ري دائم وبذلك تزيد الرقعة الزراعية كما انه سيمكن قيام مشروعات صناعية تقوم علي كهربة هذا السد.
ولأهمية المشروع تم تحويله إلي المهندس عثمان محرم وزير الأشغال الذي شكل لجنة عكفت علي دراسة المشروع وانتهت إلي عدم الموافقة عليه اكتفاء بسدود صغيرة عند مروي واسنا ووادي الريان وهذه السدود تكفي لمنع القاء المياه الزائدة في البحر وذلك كما جاء في كتاب القصر لحسن باشا يوسف وكيل الديوان الملكي.
لجنة عالمية لدراسة المشروع
بعد قيام ثورة 23 يوليو تسلمت وزارة الري مشروع المهندس داتيوس ويقول أنور السادات في كتابه البحث عن الذات.. انه في بداية الثورة وبالتحديد في شهر أكتبور 1952 شرع مجلس قيادة الثورة ووضع الخطط اللازمة للتنمية الاقتصادية وكان من بين هذه الخطط اقتراح المهندس داتيوس وفي 8 أكتوبر 1952 صدر قرار مجلس قيادة الثورة بالبدء في دراسة المشروع.. وتم تأليف لجنة من الخبراء المصريين في شئون المياه وكبار المهندسين وانضم إليهم اربعة من أكبر خبراء العالم في اقامة السدود وأيضا اثنان من الأمريكيين وخبير فرنسي والرابع ألماني واستغرقت الدراسة التي قام بها هؤلاء العلماء 26 شهرا.
عام 1954
ما ان اقبل عام 1954 حتي كانت كل الدراسات الخاصة بالسد العالي جاهزة لاتخاذ قرار فيها.. في هذا العام كانت الأمور غير مستقرة بمصر نتيجة صراعات قادة الثورة ورغم ذلك أعلنت الحكومة المصرية عن عزمها تنفيذ مشروع ضخم لإنشاء سد علي نهر النيل عند أسوان وهنا ابدت بعض الشركات الألمانية اهتمامها بالمشاركة في انشائه.. وأوصحت الحكومة بأن يكون قرار هذه الشركات خلال ثلاثة أشهر ولكي يتضح موقفها النهائي من المشاركة ويبدو ان الحكومة لاحظت عدم جدية هذه الشركات فكلفت الدكتور عبدالجليل العمري وزير المالية في ذلك الوقت بالاتصال بالبنك الدولي لاستطلاع رأيه في تمويل المشروع وجاء رد سريع من البنك بأنه ليس في طاقة البنك الدولي أن يقوم منفردا بتمويل مشروع ضخم مثل السد العالي وانه سيلجأ إلي بعض الدول الكبري للمساهمة فيه.
في الوقت نفسه قام البنك بايفاد بعض الخبراء إلي مصر وإلي الموقع المقترح علي نيل أسوان لبحث جدوي المشروعات وامكانيات مصر الاقتصادية "في ذلك الوقت كانت قيمة الجنيه الاسترليني 97 قرشا مصريا والدولار الأمريكي قيمته 25 قرشا" وفي نفس الوقت استقدمت الحكومة المصرية عددا من الخبراء والفنيين لدراسة تفاصيل المشروع ومدي جدواه خاصة وانه داعب قادة الثورة علي أساس انه مشروع العمر بالنسبة لهم ولمصر وفي هذا يقول أنور السادات ان هناك مهند يوناني كان يحضر لهم بدون موعد سابق لا يتكلم إلا عبارة واحدة ان النيل عند اسوان يجب ان يغلق بسد عال.. وكان متمسكا بالفكرة مما دعا قادة الثورة بأن يكلف مستشار المجلس المرحوم المهندس محمود يونس بدراستها وقد عاد بعد فترة يقول انه بعد الدراسة والمعاينة يري انها فكرة رائعة إذ اثبتت الابحاث علي قاع النيل في تلك المنطقة صحتها وطلب لذلك الموافقة علي بدء الأبحاث مع بيوت الخبرة العالمية.
كان المفروض ان يبدأ التنفيذ في مراحله الأولي علي الأقل من التمويل في عام 1954 ولكن في هذا العام بالذات ظهرت منازعات بين قادة الثورة ومعني ذلك عدم الاستقرار في الأوضاع المصرية واضطرار مصر إلي اللجوء للاتحاد السوفيتي لشراء صفقة سلاح سوفيتية مما ترك جرحا في نفس الساسة الأمريكيين وعلي وجه الخصوص وزير الخارجية دون فورستر دالاس.
عام 1955
طوال عام 1955 كانت خطوات المشروع تسير في اتجاهات متضاربة نتيجة الاحداث السياسية خصوصا وان شاب العلاقات المصرية الأمريكية شوائب عديدة نتيجة انحيازها الكامل لإسرائيل واضطرار مصر إلي اللجوء للاتحاد السوفيتي لمدها بالسلام خصوصا وان الاعتداءات الاسرائيلية علي الحدود المصرية ظلت متزايدة خاصة بعد مذبحة غزة التي قامت بها إسرائيل في شهر فبراير 1955 تأكد الساسة الأمريكيون من تحول مصر من الكتلة الغربية إلي الكتلة الشرقية.. كانت هذه العوامل وغيرها هي السبب الرئيسي في تعثر تنفيذ المشروع.
رغم ذلك فإن دالاس وزير الخارجية كان مازال معتقدا انه يمكن احتواء مصر بتأييده مشروع السد العالي والمعاونة في انشائه فهو يري ان أي مساهمة في بناء السد العالي تعتبر خدمة إنسانية من أجل السلام والرخاء الاقتصادي علي عكس ما تحدثه صفقة الأسلحة من موت ودمار وحرب وتدمير وبالتالي فإن مساعدة مصر لبناء السد العالي سيفرض علي أمريكا التزامات كثيرة بحيث تكون صفقة الأسلحة السوفيتية هي الأولي والأخيرة وان الولايات المتحدة كانت راغبة في فرض الصلح بين مصر وإسرائيل في مقابل بناء السد العالي وهكذا رأي دالاس ان يجرب سياستها باسهام أمريكا في بناء السد العالي لعل وعسي أن يتغير موقف مصر بعدم اللجوء إلي السوفييت.
المهم عاد السفير المصري أحمد حسين باشا إلي مقر عمله بواشنطن واستقبله دالاس وأجري معه حديثا مستفيضا حيث اكد له حرص مصر علي مساهمة أمريكا في بناء السد العالي وذلك علي الرغم من العروض المغرية التي قدمها الاتحاد السوفيتي وان مصر لا تستطيع ارجاء التنفيذ إلي وقت أطول من هذا وإلا فقدت الحكومة ثقة الشعب في قدرتها علي تنفيذ مثل مثل هذه المشروعات العملاقة كما انه ليس من مصلحة البنك الدولي ان يرجيء جمال عبدالناصر قراره بتمويل المشروع إلي وقت أطول لأن ذلك يخلق ضغوطا علي مصر لقبول العرض السوفيتي ولكن دالاس ظل يستمع إلي السفير المصري بدون أن يبدي أي ملحوظة فقد كان في أشد حالات الغضب لحدوث تقارب بين جمال عبدالناصر والاتحاد السوفيتي.. بدا ذلك علي وجه دالاس وان كان الواقع كان حتي هذا الوقت يتوقع ان تتحسن علاقته مع مصر ومع ناصر.
محادثات القيسوني
وفي ظهر نوفمبر توجه عبدالمنعم القيسوني إلي بريطانيا وأمريكا لإجراء محادثات حول حكاية التمويل وفي واشنطن التقي مع دالاس ودار حوار بينهما وان كان دلااس أراد ان يبعث برسالة إلي جمال عبدالناصر وفوجيء القيسوني بأن الرسالة تتضمن ان مساعدات السوفييت لمصر خاصة بالسلاح وهذا يعني الموت والدمار بينما مساعدات أمريكا لمصر هي لبناء السد العالي وهذا يعني الحياة.
وقال دالاس ارجو من عبدالناصر ان يأخذ الأمر بعين الاعتبار وان يدرس الفارق بين المساعدتين وان يقرر بعد ذلك من هم اصدقاء مصر الحقيقيوون.
ورد القيسوني ان السلاح الأمريكي تحصل عليه إسرائيل لقتل الفلسطينيين ومن يجاورهم من العرب وبدون أي شروط أو قيود في حين ان أمريكا تفرض شروطا علي مصر في حين ان مصر ستستخدم السلاح للدفاع عن نفسها وان أمريكا تشترط علي مصر ضرورة الانضمام للأحلاف العسكرية.
أما السد العالي وتمويله وهو موضوع الزيارة فإن دالاس يري انه يهب الحياة لمصر لمجرد مساهمة بلاده في بناء السد العالي الذي قدرت تكاليف انشائه بنحو ألف مليون جنيه وليست أمريكا وحدها هي صاحبة المساهمة بكل التكاليف ولكن يشترك في التكاليف البنك الدولي وأمريكا وبريطانيا ومصر وبعد هذا اللقاء بعدة ايام واثناء انعقاد المؤتمر السنوي لحلف الاطلنطي أعلن دالاس موافقة أمريكا وبريطانيا علي الاشتراك في مساعدة مصر لبناء السد العالي بالاضافة إلي مشاركة البنك الدولي.
وتشير الوثائق الخاصة بمباحثات الأمريكيين مع المصريين حول تفاصيل تكاليف إنشاء السد ان التكلفة تصل إلي نحو 2.1 مليار دولار تستثمر علي مدي 15 سنة هي مرحلة البناء والمرحلة الأولي مدتها 4 سنوات وتتكلف نحو 70 مليون دولار وهذا المبلغ يقدم لمصر كقرض بواقع 56 مليون دولار من أمريكا و14 مليون دولار من بريطانيا والمرحلة الثانية تغطي أمريكا منها 130 مليون دولار وبريطانيا 70 مليون دولار تقدم كأقساط سنوية أما البنك الدولي فإن المبالغ التي يقدمها تقسط علي 40 سنة بفائدة 5.5%
تيتو ينصح عبدالناصر
المهم انه في شهر نوفمبر 1955 زار مصر جوزيب بروزتيتو زعيم يوغسلافيا التي هي من الكتلة الشرقية التي تضم الاتحاد السوفيتي أيضا وأثناء اجتماعه مع الرئيس عبدالناصر قدم له نصيحة بألا يقبل أي عرض من الاتحاد السوفيتي إنما في الامكان استخدام العرض لكي يحصل علي نصيب أكبر من أمريكا.
وقلب نهاية عام 1955 طلب السفير السوفيتي في القاهرة مقابلة عاجلة مع عبدالناصر حيث عرض ان الاتحاد السوفيتي مستعد للمشاركة في بناء السد العالي إلا إذا كانت مصر راغبة في التعامل مع الغرب فقط وحينما علمت أمريكا بمضمون الأحاديث التي جرت بين السفير السوفيتي وعبدالناصر اعلنت الخارجية الأمريكية استعداد الولايات المتحدة للمساهمة في بناء السد بشرط عدم اشتراك الاتحاد السوفيتي في هذا المشروع.
1956
في شهر يناير عام 1956 وكانت هناك موافقات معلنة حول تمويل الغرب لبناء السد العالي.. جاء إلي القاهرة مستر يوجين بلاك رئيس البنك الدولي للتباحث مع عبدالناصر حول القواعد الخاصة بمنح القروض للدول التي تحتاج لقروض.. كان القرض الذي يقدمه البنك يوازي 70 مليون جنيه وربما أكثر من ذلك ونظرا لأن الاستثمار الكلي لبناء السد يصل إلي 3.1 مليار دولار تصرف خلال 15 سنة مدة البناء فإن البنك له شروط هي احقيته في مراقبة ميزانية الدولة وميزان المدفوعات لأن هناك ضرورة للاطمئنان علي استقرار الاقتصاد المصري وليطمئن علي حقوقه من القروض الممنوحة لمصر.. كذلك يشترط البنك ألا تحصل مصر علي أي قروض أخري من أي دولة إلا بعد الحصول علي موافقة البنك وحاول يوجين بلاك اقناع جمال عبدالناصر بأن هذه الشروط هي شروط عامة ضرورية ويضعها البنك مع كل الدول التي تطلب قروضا.
أمريكا متوترة
والواضح ان البنك الدولي كان مترددا في منح مصر هذا القرض نظرا لأنه كانت هناك أحداث مؤثرة خلال الأعوام 530 و1954 وكان هناك توتر أيضا في العلاقات المصرية الأمريكية وفوجيء عبدالناصر بهذه الشروط فقد رأي فيها اعتداء علي حريتها وتدخلا في الشئون الداخلية.. في الوقت نفسه إلي أن الولايات المتحدة مصممة علي الا تترك المجال فسيحا أمام الاتحاد السوفيتي.. كذلك كان يوجين بلاك يفاوض مصر لقبولها شروط البنك وكانت نقاط الخلاف فإن البنك أراد بسبب ضخامة المبلغ الذي سيمنح كقروض للمشروع لذلك رأي من حقه الاشراف علي ديون مصر الخارجية وهذا ما ترفضه مصر واعتبرت ان سعر الفائدة التي يطلبها البنك وهي 5.5% مرتفعة وكان البنك يريد ارسال اعلان نوايا إلي مصر بأنه يلتزم بتمويل المشروع.
وكانت وجهة نظر بالنسبة لاعلان النوايا انها تريد كتابا يتضمن الالتزام المهم أكدت أمريكا اشتراكها وبريطانيا في تمويل مشروع السد العالي ولكن عبدالناصر لم يكن مستريحا لهذه الموافقة باعتبار ان المشروع يستغرق تنفيذه أكثر من عشر سنوات ولكن المساهمة من الغرب كان لمدة سنة واحدة وبالتالي داعبت الهواجس عبدالناصر إذ ماذا يحدث لو حدث تغير في السياسة بعد عام واحد.
شكوك عبدالناصر
وبالتالي ستبحث مصر عن حل.. وقد أكد شكوك عبدالناصر في موقف الولايات المتحدة اصرار دالاس علي انه لا يستطيع أن يطلب من الكونجرس الموافقة علي التزام طويل الأمد فقد كانت الميزانية السنوية للمساعدات يلزم عرضها علي الكونجرس للتصويت علي استمرارها أو ايقافها بالاضافة إلي ذلك فإن الكونجرس سيتجدد ثلاث مرات خلال فترة بناء السد وليس في استطاعة أي مجلس برلماني ان يلتزم مقدما قبل حلول المجلس التالي وكان الموقف العام في ذلك الوقت بجانب شكوك عبدالناصر ظهرت مجموعة الأصوات العالية في الولايات المتحدة مشعلة حملة غريبة محاولة منها لبيان ان السد العالي ليس مهما بدرجة كبيرة بالنسبة للاقتصاد المصري.
واعتقدت أمريكا وبريطانيا ان الاقتصاد المصري مهدد بالانهيار نتيجة كثرة الواردات إليها وركزت الدولتان علي ان صفقة الأسلحة الروسية تزيد من ضعف الاقتصاد المصري ولهذا اصدرت وزارة الخارجية الأمريكية شروطا للتوقيع علي عقد القرض الخاص بالسد العالي من بينها احكام مصادر الدخل في مصر بقصد تجنب أي تضخم نقدي طوال الفترة التي تستخدم فيها مصر نصيبها من المصادر اللازمة لبناء السد وأضاف البنك الدولي شرطا آخر هو مراجعة برامج الاستثمار المصرية ويقترح علي مصر وسائل تكييف أوجه انفاقها العام بما يتفق مع مصادرها المالية ويقول في هذا الدكتور عبدالرءوف عمر في كتابه العلاقات المصرية الأمريكية وقد أخذت اعلان أمريكا وبريطانيا عن موافقتهما للمساهمة في بناء السد العالي رد فعل قوي لدي دول حلف بغداد باعتبار ان مصر ليست عضوا في الحلف وتحصل علي ما تريد من الغرب!!
صلب مقابل قطن
وفي منتصف مارس 1956 اعلن عبدالناصر ان مصر تتجه إلي شراء كمية من الصلب مقابل صفقة من القطن المصري وذلك من الاتحاد السوفيتي وكان رد الفعل لدي دالاس شديدا وازداد غضبه من عبدالناصر وازدادت شكوكه في الرئيس المصري وفي نفس الوقت وازاء مواقف عبدالناصر من الولايات المتحدة ونقده المستمر لها وهجومه الشديد علي سياساتها. استقر رأي دالاس أيضا في شهر مارس 1956 مع سحب العرض الأمريكي بالمساهمة في بناء السد العالي.
كذلك قام مدير البنك الدولي بابحاث ودراسات عن المواقف المالية والاقتصادية المصرية وعند مغادرته القاهرة أعلن عبدالناصر أن أمريكا وانجلترا تعهدتا بمنح القرض المطلوب وانه - أي عبدالناصر - مازال يدرس احتمال دعوة الاتحاد السوفيتي للاسهام بقدر مماثل في تنفيذ هذا المشروع وأيضا أعلن عبدالناصر بأن السوفييت قدموا عرضا متميزا لبناء السد وفي نيته قبوله لو حدث أي تعثر في المفاوضات مع أمريكا.
اغراء سوفييتي
كان الاتحاد السوفيتي يراقب الأحداث التي تحدث في مصر ويتحين أي فرصة لكي يساهم في بناء السد العالي ولهذا حضر وزير خارجية الاتحاد السوفيتي إلي مصر في شهر يونيه 1956 واجري محادثات مع عبدالناصر وطارت اخبار بأن الاتحاد السوفيتي عرض أن يتحمل النفقات الكلية لبناء السد بفائدة صغيرة جدا مع تسديده علي اقساط طويلة الأجل وانتهز شوبيلوف وزير خارجية الاتحاد السوفيتي فرصة احتفالات مصر بجلاء الاحتلال البريطاني وشارك في الاحتفال الذي اقيم بهذه المناسبة.
ويروي ان جمال عبدالناصر تحدث كثيرا إلي زملائه من قادة الثورة ومن رجال الحكومة عن عرض الاتحاد السوفيتي لبناء السد فإنه عرض مغر جدا وفيه الحل إذا تلاعب الغرب بوعودهم بالتمويل.. بل ان عبدالناصر صرح بمخاوفه من ان تكون خطط بريطانيا وأمريكا بمثابة تهديد لوقف الاقساط عنها في أي مرحلة من مراحل التنفيذ خصوصا وان البنك الدولي لم يكن يقدم إلا ربع التكاليف.
المهم كان الشك هو سمة جميع الأطراف واعتقد دالاس انه إذا امتنع البنك الدولي لسبب أو لآخر عن تلبية طلب مصر بالمساعدة في التمويل لبناء السد فإن الاتحاد السوفيتي سيضطر إلي التراجع أيضا.. وان العرض السوفيتي الذي يتحدث عنه عبدالناصر ما هو إلا مناورة لاجبار الولايات المتحدة علي التمسك والالتزام بما تقرر من قيامها بالتمويل ولا تتراجع وإذا حدث ذلك فسيكون المصريون في ورطة ويؤثر ذلك علي وضع عبدالناصر وبالتأكيد سيسقط ويترك الحكم ولم يكن دالاس قد درس حقيقة المصريين ووضع عبدالناصر الذي وصل إلي القمة بين الشعب وكانت ثقة الرأي العام المصري عالية جدا ومتمسكة به سواء كان علي حق أو خطأ.
الكونجرس يرفض
في واشنطن أخذت مسألة التمويل شكلا آخر.. حيث تعرض دالاس لضغوط شديدة من الكونجرس وكان هناك اجماع بعدم قيام أمريكا بتمويل مشروع السد المصري إلا إذا وافقت مصر علي أمرين هما ان تعلن مصر في بيان رسمي امتناعها عن عقد المزيد من صفقات السلاح مع الاتحاد السوفيتي حتي لا يتأثر الاقتصاد المصري وحتي تتمكن مصر من سداد ما عليها من اقساط القروض بدلا من رهن محصول القطن. ثانيا اجراء صلح بين العرب وإسرائيل وان يلتزم جمال عبدالناصر بهذا الصلح.
كان عبدالناصر علي يقين ان الحكومة الأمريكية سوف تتراجع عن وعودها كذلك بدأ دلاس يشك في حياد مصر حيث بدأ الخبراء السوفييت يتوافدون علي مصر في مختلف الفروع وهنا زادت حالات الانهيار في العلاقات والصدام بين عبدالناصر ودالاس بات محققا.
كان عبدالناصر متأكدا من تراجع أمريكا عن الوفاء بالوعد ورغم ذلك كلف السفير المصري في واشنطن بالتفويض للموافقة علي كل شروط أمريكا وان الحكومة المصرية وافقت علي الالتزام الأمريكي بالقروض وباقساط كل عام.
كان عبدالناصر يدرك تماما ان الغرب لن يفي بوعوده لتمويل السد ورغم ذلك أعلن عن موافقته علي شروط أمريكا وكلف السفير المصري بنقل هذه الموافقة وأحاط عبدالناصر العرض السوفيتي بسرية تامة بحيث لم يعلن عن أي تفاصيل حوله.
المهم سافر أحمد حسين سفير مصر في واشنطن عائدا إلي مقر عمله عن طريق لندن ومعه التفويض المذكور بالموافقة التامة علي شروط أمريكا.
وكانت لندن قد قررت سحب موافقتها ورفض الاشتراك في تمويل المشروع ولهذا سافر سلومين لوليد وزير خارجية بريطانيا إلي واشنطن لتبادل الرأي.. أما السفير المصري فقد صرح لدي وصوله لندن بأن مصر تقبل جميع الشروط الأمريكية والبريطانية وان مصر ترجو مساعدتها علي بناء السد.
في 17 يوليو 1956 وصل أحمد حسين إلي أمريكا وأدلي لدي وصوله بتصريح مماثل لما قاله في مطار لندن واضاف عليه سأجتمع بمستر دالاس لوضع التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع ونحن راغبون في الحصول علي جميع المعونات الاقتصادية الأخري وعلي هذا فقد اصبح الموقف في يد الولايات المتحدة وفي يد بريطانيا وقد شرعنا في مفاوضاتنا مع السودان لتحديد الحصص العادلة لتوزيع مياه النيل.
في جزيرة بريوني
كان عبدالناصر متواجدا في ذلك الوقت في جزيرة بريوني مع الزعيم تيتو ونهرو رئيس الهند وسمع من الراديو تصريحات السفير أحمد حسين وشعر بضيق شديد مما قاله السفير لأنه لم يكن مخولا بأن يدلي بأي تصريح صحفي وقال عبدالناصر لمرافقه ان مصر اهينت علي يد أحمد حسين.. وكان يجب عليه ان ينتظر مقابلة دالاس.. وقال عبدالناصر لقد قال تصريحات لا تليق بمصر وتعتبر نداء للاستجداء.
وقد تبين بعد ذلك كما قال الدكتور عبدالرءوف عمرو في كتاب العلاقات المصرية الأمريكية ان السفير المصري كان شديد التفاؤل في ان يصل مع الحكومة الأمريكية إلي اتفاق نهائي خصوصا وانه لا يعرف نية دالاس الذي حزم أمره وقرر سحب كل العروض التي عرضها ووافقت الحكومة الأمريكية وذلك قبل سفر السفير المصري إلي واشنطن في أوائل شهر يوليو.. ولم يكن يعرف أيضا ان عبدالناصر لديه عرضا من الاتحاد السوفيتي.
دالاس يهاجم مصر
وبدأ السفير الحديث قائلا لوزير الخارجية ان مصر قبلت كل شروط الحكومة الأمريكية.. ولكن الوزير قاطع السفير وبدأ يقرأ من أوراق كانت أمامه وقال ان ما تلقته مصر من أسلحة سوفيتية واستقبالها لعدد كبير من الخبراء السوفييت ونمو العلاقات الاقتصادية مع المعسكر الاشتراكي وعندئذ شعر أحمد حسين ان الحكومة الأمريكية بصدد اتخاذ قرار بسحب عرضها السابق قال في جيبه عرض سوفييتي.
ورد دالاس قائلا طالما ان لديكم الأموال جاهزة معني ذلك انكم لا تريدون شيئا منا ولهذا قررنا سحب عرضنا لتمويل السد العالي وذكر الدكتور عبدالرءوف عمرو أن وزير الخارجية الأمريكية قام بعد هذا الحوار وسلم السفير المصري القرار الأمريكي الذي نص علي انه لم يكن ممكنا الاشتراك في مشروع السد العالي فقد تبدلت الأوضاع في غضون الأشهر السبعة الماضية وقد تبين ان مصر غير قادرة علي ضمان القرض.
ويروي محمد حسنين هيكل في كتابه نحن وامريكا ان دالاس قال للسفير احمد حسين في نهاية المقابلة ان مشروع السد العالي أكبر من طاقة مصر والتكاليف باهظة وسيشعر الشعب المصري بالمعاناة الشديدة لمشروع لا تستطيع أي دولة نامية مثل مصر أن تتحمله وأؤكد إذا كان عبدالناصر مصرا علي بنائه فإن الشعب المصري سوف يلعن اليوم الذي وافق فيه علي بنائه.
آثار النوبة
كان هذا الكلام في عام 1956 وبعدها بنحو ثلاث سنوات بدأت وزارة الثقافة بإجراء اتصالات مع هيئة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة وكتب الدكتور ثروت عكاشة وكان وزيرا للثقافة منذ عام 1958 في كتابه مذكراتي ان مدير عام اليونسكو ونائبه كانا علي وشك زيارة مصر للتشاور في بعض الأمور الخاصة بحملة انقاذ آثار النوبة.. إذ بالسيدة كريستيان ديروش تتصل به وتخطره بأن السفير الأمريكي في مصر مستر راينهارت أخذ يسخر من الجهد المبذول لانقاذ هذه الآثار من الغرق وقال لها ان مشروع السد العالي أكذوبة وقالت له هذا الكلام مما اثار استياءها خصوصا وانها مسئولة في اليونسكو وننتظر المدير العام ونائبه عند وصولهما للقاهرة ولو كان كلام السفير الأمريكي صحيحا فإن ما يجري يعد كارثة ولن يصدق أحد أي مشروع يقام في مصر ورد عليها الدكتور عكاشة ان مشروع السد العالي مرتبط بنظام الحكم الحالي ولابد من تنفيذه ولكن أي لبس حول هذا الموضوع ولكي تتأكدي أن بناء السد العالي أمر حتمي فهناك من يقول الحقيقة كاملة وهو المهندس الدكتور حسن زكي المشرف علي تنفيذ المشروع.
وهكذا كانت الولايات المتحدة تحلم بفشل مشروع اقامة السد العالي.. حلم بذلك مستر دالاس 1956 ثم تمني الفشل السفير الأمريكي بالقاهرة عام 1960 وفي 9 يناير من عام 1961 دق أول معول في أرض أسوان ايذانا ببدء العمل في بناء هذا الصرح العملاق علي نهر النيل.
العرض السوفيتي
كان عرض الاتحاد السوفيتي يتضمن بنودا مرنة ومشجعة حيث وافق علي تمويل مشروع السد بتقديم قرض قدره 1300 مليون دولار ويسدد هذا المبلغ علي 60 عاما وبفائدة 2% "كان البنك الدولي يريد فائدة 5.5%" كما وافق علي ان يدفع الاتحاد السوفيتي جميع النفقات دون ان تتحمل الميزانية المصرية شيئا ولم يقدم الاتحاد السوفيتي أي شروط مقرونة بهذا القرض وبنظرة سريعة بين العرضين السوفيتي والأمريكي نجد ان العرض السوفيتي كان مغريا ولا يمكن رفضه مقارنة بالعرض الأمريكي.
أولا الاتحاد السوفيتي سيتحمل التكاليف كلها وتقسط علي 60 عاما وبفائدة 2% أما الولايات المتحدة فإنها لم تقبل إلا منح مصر ربع التكاليف كل سنة وقيمته 35 مليون دولار ويسدد القرض علي 16 عاما بفائدة 5.5% ولم يضع الاتحاد السوفيتي أي شروط بينما الولايات المتحدة طالبت بقائمة من الشروط المجحفة التي تعتبر تدخلا سافرا في السيادة المصرية وتفرض الوصاية علي الاقتصاد المصري.. بينما الاتحاد السوفيتي لم يطالب بأي شرط من الشروط كان يريد أن يبني السد العالي فعلا بعد أن استمع عبدالناصر إلي القرارات الأمريكية والبريطانية والبنك الدولي بسحب عروض التمويل وكان أسلوب الرد يتم بمهانة شديدة قرر عبدالناصر أن يكون الرد في أقوي صورة ويهز كيان الحكومة البريطانية التي رأسها ابدن وايضا ان يعطي درسا لجون فوستر دالاس إلي الجبهات المعادية لمصر وكانوا يريدون اسقاط عبدالناصر.
المهم انه في يوم 26 يوليو 1956 ألقي عبدالناصر خطابا سياسيا هاما في ميدان المنشية بالاسكندرية اعلن فيه انه تقرر تأميم قناة السويس وكان هذا ابلغ رد من مصر تجاه دول الغرب وقال عبدالناصر أموالنا ردت إلينا وسنبني السد من ايرادت قناة السويس التي هي ملكنا وطبعا حدثت مشاكل عديدة بين مصر وانجلترا وفرنسا وبعض دول أوروبا كما تضايقت أمريكا من هذا القرار واغضب مستر دالاس وزير خارجية أمريكا وانتهت المشاكل بالاعتداء الثلاثي علي مصر والذي انتهي بقرار حاسم من ايزنهاور بضرورة التراجع فورا من الأراضي المصرية وفعلا رضخت إسرائيل وتركت سيناء كما انسحبت كل من فرنسا وانجلترا عن بورسعيد ومدن القناة وفي يوم 9 يناير 1960 ذهب جمال عبدالناصر والمستر خروشوف رئيس الاتحاد السوفيتي إلي أسوان حيث تم وضع حجر الأساس لبناء السد العالي.
وللتذكرة فإن السد العالي يبلغ طوله 3830 مترا وعرضه في القاع 980 مترا وفي القمة العرض يبلغ 40 مترا وتبلغ مساحة البحيرة الصناعية بحيرة ناصر أو بحيرة السد خمسة آلاف كيلو متر مربع.. طولها مبلغ 500 كم وعرضها 35 كم وعمل فيه 400 خبير سوفيتي بجانب الخبراء والمهندسين والفنيين والعمال المصريين ويبلغ ارتفاعه 111 مترا وسعة البحيرة التخزينية 162 مليار متر مكعب من المياه ويمكن ان تسع 185 مليار متر مكعب وقد تم البناء علي أساس ان السد جبل ركامي من الجرانيت مع الأسمنت والرمل ويبلغ حجم السد 17 مرة حجم الهرم الأكبر.
أمريكا تريد شراء المعابد
انتهت المشاكل التي احيطت بمشروع بناء السد العالي وبدأت إجراءات التنفيذ وذلك بأعمال الحفر لجسم السد وللبحيرة الضخمة التي تقام خلف السد والتي يصل مساحتها إلي نحو خمسة آلاف كيلو متر مربع.. ومعني هذا ان كل الآثار والمعابد المقامة في المنطقة التي سيكون فيها السد وبحيرته ستصبح كالعدم لأن المياه ستغرقها.
وكان وزير الثقافة المسئول عن هذه الآثار هو الدكتور ثروت عكاشة.. وقد سجل في كتابه ذكرياتي في السياسة والثقافة قصص السد وآثار النوبة.
ومن الحكايات التي رواها انه في شهر نوفمبر 1958 زاره في مكتبه السفير الأمريكي في القاهرة وبصحبته مستر روريجر مدير متحف المتروبوليتان بنيويورك الذي بادره قائلا جئت اشتري معابد النوبة أو علي الأقل معبد أو اثنين من هذه المعابد المحكوم عليها بالغرق بعد بناء السد العالي.. أثارت هذه الرغبة نفس الدكتور عكاشة.. فهو طلب غريب بالفعل وتساءل هل يمكن ان يكون تراث الاسلاف مما يباع ويشتري ورد بسرعة انه لجدير بمتحف المتروبوليتان ان يبادر بالعون العلمي لإنقاذ هذا التراث الإنساني بدلا من التفكير في شرائه.
كان هذا الطلب بمثابة بداية التفكير في إنقاذ هذه المعابد وقرر ان يقوم بزيارتها ومعه الدكتور احمد بدوي رئيس جامعة عين شمس ومجموعة من الأثريين الخبراء وقاموا برحلة بدأت من الحدود المصرية الجنوبية إلي شمال خزان أسوان ووقفوا علي أوضاع كل المعابد وتسجيلها وساد البعثة القلق من مصير هذه المعابد التي بلغ عددها 17 معبدا.. كلها ستبتلعها مياه بحيرة السد التي من الممكن ان ترتفع المياه فيها إلي 180 مترا فوق سطح البحر.
اليونسكو وإنقاذ الآثار
ويقول الدكتور عكاشة انه خلال عمله ملحقا عسكريا في فرنسا كان يتابع نشاط منظمة جديدة تسمي اليونسكو.. وتساءل بينه وبين نفسه هل يمكن لليونسكو ان يكون لها دور في إنقاذ هذه الآثار.. وبالفعل تم الاتصال بهم وحصل علي موافقتهم وصارت عملية الانقاذ وتمويلها قد أخذت شكلا عالميا ولكي يتم تشجيع الولايات المتحدة الأمريكية علي المساهمة وافقت مصر علي عرض مجموعة آثار توت عنخ آمون في الولايات المتحدة وحدث اعجاب متناهي بهذه الآثار وشجع هذا المعرض الذي أقيم اثناء ولاية جون كيندي قبل ان يغتال علي ان تساهم الولايات المتحدة بأكبر مساهمة في مشروع انقاذ الآثار كما ساهمت بريطانيا رغم معاناتها بأزمة مالية بأكثر من ربع مليون دولار.. ثم كان طابع انقاذ الآثار مبلغ 2 دولار يتم تحصيله من كل سائح وظل هذا الطابع معمولا به حتي وقت قريب وربما يكون معمولا به حتي الآن.
وكما واجه تمويل بناء السد العالي مشاكل عديدة في عملية التمويل من الجهات الغربية.. واجه انقاذ المعابد السبعة عشر مشاكل أخري في عملية التمويل ولكن امكن التغلب عليها واصبح العمل يتم في انقاذ هذه الآثار بسرعة وكفاءة عالية ولم يتوقف لحظة حتي أثناء محنة 1967 إلي ان كللت كل الجهود بنجاح كبير خاصة في نقل معبدي رمسيس الثاني وهي معابد أبوسمبل التي نقلت بمهارة فائقة تماما كما اقامها رمسيس الثاني نفسه وتم انقاذ هذين المعبدين قبل الموعد لهما بعامين.
17 معبدا
وأكد الدكتور عكاشة أنه تم انقاذ المعابد السبعة عشر كلها واعيدت اقامتها في مواقع متفرقة فأقيمت معابد قرطاسي وكلابشة وبيت الدالي قرب اسوان في مواجهة السد العالي ومعابد وادي السبوع والمحرقة والدكة في منطقة وادي السبوع ومعابد عمدا والدر ومقبرة بنوت في منطقة عمدا ومعبدا أبوسمبل في منطقة أبوسمبل بخلاف معابد أخري كمعبد دابور الذي اهدته مصر لحكومة وشعب اسبانيا ومعبد كافا الذي اهدي لحكومة هولندا ومنصورة الليسية واهدي لحكومة ايطاليا ومعبد دندور الذي اهدي لحكومة وشعب الولايات المتحدة الأمريكية وقد احتفلت الولايات المتحدة بهذا الاهداء وقدرته وقد تسابق للحصول عليه عدد كبير من الولايات الأمريكية إلي أن تم اتخاذ قرار بوضعه في نيويورك وقد حظي هذا المعبد باهتمام ضخم وتم وضعه بشكل ملفت للأنظار في موقع بين طريقي الخامس والسابع وقد احاطته فواخير ومنابيع المياه وسلطت عليه الأضواء بشكل بديع ويخيل للناظر إليه من الوهلة الأولي انه معبد مصري وسط النيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.