ماذا تعني القدس.. أو كم تساوي؟! حوار جاء بين الحداد "باليان" الغازي الصليبي الفرنسي الذي ذهب إلي القدس ضمن القوات المسيحية للسيطرة علي المدينة المقدسة وبين صلاح الدين الأيوبي ذلك البطل المسلم الذي حررها ابان الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر. الحروب التي استمرت قرنين من الزمان؟! "إنها لا شيء" ثم بعد وهلة خاطفة.. "إنها كل شيء" هكذا جاءت إجابة صلاح الدين في فيلم "مملكة الجنة" "KingdomOf Heaven" الذي أخرجه المخرج البريطاني الكبير ريدلي سكوت عام .2005 الفيلم حقق رواجاً كبيراً خصوصاً في بلادنا العربية وبالنسبة للمشاهد العربي المسلم الذي استقبل الفيلم باعتباره عملاً متوازناً يكسر السياق المعتاد للفيلم الأوروبي الغربي. والأمريكي بصفة خاصة حيث اعتادت السينما الغربية أن تكرس الصورة الشائهة للإنسان العربي وتصنع صورة ذهنية تختزله في مجموعة صفات سلبية. تجرده من تاريخه وإنسانيته ودوره في تطور الحضارة الإنسانية و"باليان" هذا الذي لعب دوره الممثل أورلاند بلوم يجسد شخصيته رجل عادي يعيش في قرية فرنسية ويعمل حداداً بها.. وهو في الحقيقة ابن غير شرعي لأحد الفرسان القواد في الحملة الصليبية الأولي ولكنه لا يعلم. وبعد وفاة ابنه تنتحر زوجته فيقوم قسيس القرية بذبحها وانتزاع الصليب الذي تعلقه في رقبتها باعتبارها "كافرة" ومن أهل جهنم. وبدوافع الانتقام يقوم "باليان" بقتل القسيس ويواجه تهمة عقابها الموت. ومن هنا تسهل غوايته للذهاب إلي "مملكة الله" القدس وطلب التوبة هناك والصلاة في مدينة الصلاة بهدف خلاص زوجته المنتحرة من آثامها. وفي هذه الأثناء تمر القوات في طريقها إلي القدس ويتم تدريب "باليان" سريعاً ويصحبه "والده" الفارس الذي لم يكن يعلم بحقيقة نسبه إليه. "باليان" رجل غريب مسيحي أوروبي وجد نفسه في معمعة حرب استمرت طويلاً. وعلي أرض غريبة ولكنها مقدسة يعيش فيها مسيحيون ومسلمون ويهود. ويحكمها ملك غريب أيضا مصاب بالجذام وعمره محدود. ولكن "باليان" فوق هذه الأرض يجد لطموحه الديني والدنيوي متسعاً. فقد أصبح "فارساً" ومكلفاً بحماية "القدس" ومحارباً يقابل قوي عاتية لتحقيق السلام!! وقد هلل عشاق السينما في بلاد الشرق المسلم لفيلم المخرج البريطاني الذي يحمل لقب "سير" لأنه جاء بالبطل العربي في صورة ايجابية وآمن ضمنيا من خلال رسالة الفيلم الأخيرة بامكاينة السلام بين أصحاب الديانات الثلاثة. وهو سلام مستحيل في الحقيقة حيث ينبئنا الفيلم ضمنياً بأن الحملة الصليبية مستمرة. وهللوا أيضا للدافع الإنساني الذي يغلف الفيلم وللشجاعة التي ميزت مخرج غربي يتناول الصراع الديني من منظور "سلمي" ويشير ضمنياً إلي أن امكانيات التعايش قائمة لولاً وجود المتطرفين علي كلا الجانبين "المسلم والمسيحي".. وأن الحروب الصليبية لم تكن مقدسة دينياً وإنما للسيطرة سياسياً من قبل الغرب المسيحي وذلك من خلال السيطرة علي مدينة "القدس" أي أن الهدف الديني ليس سوي ستار لأهداف سياسية فقد كانت أوروبا وفتئذ تسبح في ظلام دامس بينما الشرق المسلم ينعم بامكانيات الرخاء.. هل اختلفت الأمور؟؟! الأحداث تدور عام 1184 ومنذ ذلك الحين ومن قبل ذلك بقرون لم يتوقف الصراع حول أصغر مدينة وأقدم مدينة وأقدس مدينة في التاريخ البشري. مر عليها أجناس وأقوام وممالك حتي اغتصبها الصهاينة مؤخراً وقاموا باحتلالها وها هم يعلنونها عاصمة لإسرائيل مما يعني أن الصراع أكثر شراسة والذي ربما يطول لأجيال وأجيال.. صراع الغرب ضد الشرق وبذلك الصهيونية العالمية تحقق مآربها السياسية وتكسر أي منطق للتآلف الذي عرفته "القدس" بين الأديان الثلاثة في "مملكة الجنة" أو "مملكة السماء". يشير رايدلي سكوت إلي امكانيات التعايش بينما تصريح ترامب منذ أيام يعلن شرعية الزواج الصهيوني للمدينة المقدسة وتداعيات ذلك معروفة. ومنذ مؤتمر بازل "1897" الصهيوني واختيار فلسطين كوطن قومي لليهود. لم تكف السينما الأمريكية عن زيارة هذه البقعة من العالم وذلك بتحويلها إلي خلفية للملاحم الدينية المسيسة العديدة المقتبسة حبكاتها من الكتاب المقدس "العهد القديم والجديد" ومنذ البدايات الأولي لاختراع السينما والتمهيد لأرض الميعاد لم يتوقف!!! ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتحول "هوليوود" إلي امبراطورية ملكاً لليهود الصهاينة وللمسيحيين الصهاينة وآخرهم "ترامب". وقد اختارت الاستوديوهات الكبري في هوليوود أفضل نجومها وأكثرهم جاذبية ووسامة للقيام ببطولة هذه الملاحم والروائع السينمائية واستطاعت بفضل الميزانيات الضخمة أن تعيد خلق المدينة "القدس" لكي تمنح الأحداث مسحة واقعية وقدر من المصداقية تكرس مقولات صهيونية أصبحت كليشهات الآن مثل "أرض الميعاد" و"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وما يلفت النظر وجود أكاديميين ومؤسسات متخصصة من شأنها تعميق السيناريوهات الخاصة بالصراع الصهيوني العربي علي مستوي السياسة والدين والفكر وانعاش التيارات الايدولوجية وأيضا علي المستوي العسكري بطبيعة الحال. فرجود "القاعدة" و"داعش" و"الإخوان" الإرهابية والجماعات المشابهة التي تحمل مسميات مثل "القدس" وبيت "المقدس" هو في نهاية الأمر صناعة "صهيونية" مدعومة غربياً بغض النظر عن مدي ادراكهم ونشاطهم التخريبي لا شك مهد وقاد إلي ما بتنا فيه الآن. لقد سجلت "الشاشة السينمائية" عشرات بل مئات الأفلام منذ بدايات القرن الماضي التي تدعم المشروع الصهيوني. وتمهد لسطوة "إسرائيل" وعصاباتها واضعاف الإيمان بمقومات العرب ومحو تاريخهم ومصادر قوتهم. واختراق وحدة صفوفهم أو الحيلولة بكل الطرق دون قيام هذه الوحدة بخلق كيانات أخري ولتكن "عربية" لدعم الدور الصهيوني.. يقوي من هذا الاتجاه ضعف العرب أنفسهم وهرولتهم نحو الغرب. يوجد ضمن الأعمال السينمائية الكثيرة أفلام منصفة تسجيلية مهمة وجيدة قام بصناعتها فنانون غربيون كي تسلط الضوء علي مدينة "القدس" التي وصفها السينمائيون بأنها قلب العالم أو "إنها كل شيء" وتساوي بالنسبة للمسلمين والمسيحيين واليهود أشياء مقدسة تتجاوز المكان والزمان وتفرغ الصراع عليها من دوافعه المصطنعة إنها "زهرة المدائن" ليس فقط بالنسبة للعرب وإنما لأصحاب الأديان الثلاثة. ومن بين هذه الأعمال فيلم بعنوان "القدس" "Jerusaien" من انتاج 2013 للمخرج دانيل فرجسون ومدته 45 دقيقة ويستحق أن يشاهده الجمهور علي الشاشات فالتركيز علي مثل هذه الأعمال مطلوب لتعميق "ماذا تعني القدس" وما ثمن المدينة التي يتجاوز عمرها آلاف السنين وبنيت قبل نزول التوراة ب27 قرناً؟