حين صدرت الأوامر الإلهية لأبي الأنبياء سيدنا إبراهيم صلي الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بالتوجه إلي أم القري لأداء الحج.. علي الفور سعد أبو الأنبياء جبل أبي قبيس أو الصفا ونادي بأعلي صوته قائلاً: أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوا إليه.. ويقال ان الجبال تواضعت حتي بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأصلاب والأرحام وقد أجابه كل شيء سمعه من حجر وشجر ومن كتب الله له ان يحج إلي يوم القيامة ذلك هو مضمون ما ورد من روايات عن ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير. منذ ذلك الحين ووفود الحجيج لم تنقطع علي بيت الله الحرام لكن قبل النداء سأل أبوالأنبياء ربه كيف يصل صوتي إلي هذا العالم المترامي الأطراف جاءه النداء الإلهي متضمناً ان عليك النداء وعلينا البلاغ. قدرة الله أوصلت النداء إلي كل ما أشرت إليه آنفاً. وهذا التوجه للبيت العتيق انما هو لحكمة اقتضاها رب العالمين توضح في مضمونها وحدة الهدف والرؤية والاتجاه. فالناس جميعاً لآدم وأبوالبشر من تراب "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" في رحاب البيت العتيق.. يستحضر الحجاج عظمة الله عز وجل في صحن البيت الحرام الذي تتوسطه الكعبة وهذه البقعة هي أشرف وأطهر بقعة في الأرض وساحة البيت لا تضيق بالحجاج من كل بلدان الدنيا. ولذلك شبهها العلماء برحم المرأة يضيق ويتسع. بمعني ان هذه المساحة تستوعب الطائفين والقائمين والركع السجود وذلك رغم ضيقها في نظر العباد ورحمات الله تظلل كل قاصدي هذا البيت. قصة بناء هذا البيت ترتبط بأبي الأنبياء فحين وضع سيدنا إبراهيم فلذة كبده اسماعيل نادي ربه في رجاء قائلاً "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" طهارة النداء ونبل القصد ورحمة من رب العالمين بأبي ا لأنبياء وابنه الرضيع اسماعيل قد جعل الله الماء ينبت من تحت قدميه في وقت كانت أمه تبحث عن قطرة ماء تروي بها رضيعها. تلك هي بركات البيت الحرام "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا" ومن رزقه الله نعمة الذهاب إلي بيت الله الحرام يشعر بلذة تتضاءل تدونها متع الحياة الدنيا مما يؤكد ان التمتع بالروحانية من أعظم النعم التي يسبغها الله علي أصحاب القلوب الطاهرة التي تجردت من لهو الدنيا وبريقها وجاءت إلي رحاب الله في بيته. هذا البلد الحرام يتمتع بحدود محرمة وضوابط لايجوز اختراقها لأي انسان يقصد البيت الحرام لأداء الحج فهناك مواقيت مكانية لا يجب تجاوزها دون ان يرتدي زيا خاصا هي ملابس الاحرام وهو عبارة عن قطعتين قطعة يستر بها النصف الأسفل من الجسم وقطعة أخري للجزء العلوي من الجسد وقبل ذلك يتطهر ويغتسل استعداداً للحج والعمرة كما ان من يصل إلي هذه الساحة المحرمة لا يحق له الصيد لأي حيوان أو طائر كل شيء في هذا البلد الحرام يعيش في أمان وطمأنينة حتي ان العلماء وأهل الفكر أكدوا ان من دخل البيت العتيق آمن حتي من عذاب الله وعلي قاصد لأداء الفريضة ان يعي جيداً هذه المعلومات حتي لا يقع في المحظور ويجب كذلك ان يسأل العلماء عن واجبات هذا البلد وان يدرك قول الله تعالي "أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون. جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا ان الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم" 96. 97 المائدة. هذه الرحلة التي يجري الاستعداد لها هذه الأيام علي قدم وساق لكل من شاء الله له ان يتوجه إلي البيت العتيق تحتاج إلي صبر وهدوء لكي يستطيع الحاج ان يؤدي المناسك علي أكمل وجه. لأن الرحلة جهاد وعمل دائم وتحتاج إلي قوة تحمل ولذلك قال الله "ولله علي الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا" وفي مقدمة هذه الاستطاعة. الاستطاعة الصحية وهي مقدمة علي الاستطاعة المالية فرغم ان الأخيرة تحتاج إلي سعي وعمل من أجل الكسب الحلال الذي من خلاله يستطيع تدبير النفقات لكن الاستطاعة هي الأساس فلا أنسي أنني مع حجاج بيت الله الحرام في العام الماضي عند النزول من عرفات إلي المزدلفة كانت الطرقات قد ازدحمت بالسيارات ولم نجد مكانا مما اضطرنا إلي قطع المسافة إلي مني حيث رمي جمرة العقبة الكبري سيراً وقد تكبدنا مشقة مضنية لأنه بعد قطع مسافة نحو ثلاثة كيلومترات أصيب الحجاج بتعب شديد وافترشوا الطرقات وتعذرت الحركة ولم يستطع أي حاج ان يغادر مكانه فجلست الاعداد الكبيرة في أماكن ضيقة جداً فلا ماء ولا أي شيء يستطيع الحجاج تناوله في هذا المكان وقد تعالت صرخات كبار السن والسيدات وكذلك الاطفال بصحبة ذويهم من المقيمين بأرض الحجاز. موقف صعب يحتاج إلي صحة وعافية لكي يتجاوز الحاج هذه المشاق. انها تضحية في سبيل الله لكن ماذا يحدث اذا أصاب الحاج تعب في هذه الأماكن ولذلك يجب ان تكون بصحبة الحاج بعض الأدوية في حقيبة صغيرة بالاضافة إلي بعض الأطعمة الخفيفة لكي يستطيع مواجهة أي طاريء أو عقبة في الطريق. الرحلة فيها تعب مشوب بلذة وطعم روحاني ودروس مستفادة. تعارف. ولقاءات مع أبناء العالم الاسلامي. لغة واحدة في التلبية والملابس واحدة والأماكن واحدة ومن يتأمل الحجاج ممن لا يجيدون اللغة العربية يشعر بمتعة فهؤلاء ينطقون كلمات التلبية بصورة محببة إلي النفوس وكذلك قد يعقد الحاج صفقات وصداقات في هذه الرحلة "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام" وهناك دروس متعددة في العادات والتقاليد واكتساب مهارات من الآخرين وبذلك يعود الحاج إلي بلاده وهو أكثر خبرة وأكثر رحمة ويتعود دائماً الصبر والشفقة بالآخرين ويحافظ علي ما اكتسبه من دروس وعبادة "ان في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد". دعاء "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين اماماً. ربنا أحسن خاتمتنا في كل الأمور وارحمنا من كيد الفجار وشر الأشرار".