لم تكن لدينا معلومات كاملة ومؤكدة وموثقة.. ولم يكن النظام يسمح - أساساً - بإتاحة مثل هذه المعلومات.. ورغم ذلك كانت صفقات الخصخصة تزكم الأنوف.. وتشي بأن الفساد ينتشر في مفاصل الدولة المصرية بشكل مقنن ومؤسسي. كانت الدولة تقول إنها تبيع الشركات الخاسرة لمستثمرين مصريين أو أجانب قادرين علي ضخ أموال جديدة فيها لتحديث المعدات والآلات وتطوير الإدارة وإعادة تدريب وتأهيل العمالة.. ثم نفاجأ بأن الدولة تبيع الشركات الرابحة ذات العمالة الكثيفة.. والتي تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي داخل المدن وليس في المناطق الصحراوية فقط. وكانت الدولة تمنح مكافآت مجزية جداً لرؤساء الشركات الذين يعرضون شركاتهم للخصخصة.. فرئيس الشركة الذي يسجل خسارة باهظة لا يعاقب ولا يساءل وإنما يكافأ بأن يرفع راتبه أضعافاً مضاعفة.. ويجري تصعيده إلي مناصب أعلي هنا وهناك لمجرد أنه أعد الشركة وقدمها قرباناً للخصخصة. وعلي هذا النحو حول النظام السابق الدولة إلي مهرجان كبير للبيع.. تعرض فيه المؤسسات والشركات الكبري والناجحة التي تمثل عموداً فقرياً للاقتصاد المصري.. وأهدرت بذلك كثيراً من موارد الدولة.. لأن هذه الشركات كانت تصب مباشرة في الميزانية العامة. وطالت برامج الخصخصة شركات استراتيجية مثل شركات للغزل وشركة قها والمراجل البخارية وفنادق كبري كانت تدر أرباحاً قياسية لمصر.. ومن هذه الشركات ما فشلت خصخصتها مثل "قها" و"عمر أفندي".. ومنها ما ذهب لمستثمر أجنبي أو مصري فباع أراضيها وأصولها وغير نشاطها وشرد عمالها ورفع أسعار منتجاتها أضعافاً مضاعفة. وإذا كانت الخصخصة في حد ذاتها أسلوباً مشروعاً في الفكر الاقتصادي الليبرالي لتحديث وسائل الإنتاج وتطوير البنية الأساسية للشركات والمؤسسات إلا أن الأساليب التي اتبعت في الخصخصة عندنا جعلت من هذه الكلمة مصطلحاً سييء السمعة. وهذا ما يفسر مظاهرات الفرحة الشعبية التي استقبل بها حكم القضاء الإداري ببطلان بيع شركات شبين للغزل والمراجل البخارية وطنطا للكتان.. والأمل الذي تولد في النفوس بأن يكون هذا الحكم بداية لإجراءات ثورية تعيد كل الحقوق التي كانت لهذه الشركات قبل بيعها بسنوات.. وتعيد العمال الذين تم تسريحهم من الشركات ويجلسون الآن علي المقاهي والطرقات. ونحن نعرف أن هذا الأمل يكاد يكون مستحيل التحقيق نظراً لعمليات النهب والتخريب المنظمة التي شهدتها الشركات المباعة.. ونظراً ايضا لكثرة وتشعب الحقوق المطلوب إعادتها لأصحابها.. وارتفاع كلفة هذه الحقوق في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.. ولكن هذا كله لا يمنع من دعوة شعبية واسعة إلي محاكمة صفقات الخصخصة في مناخ أكثر عدالة وثورية. هذه المحاكمة تعني بكل صراحة مراجعة الصفقات.. وتحديد من أخذ ومن أعطي.. ومن قدم معلومات مغلوطة.. ومن تستر علي الفساد وعلي الإعمال المتعمد.. ومن تربح وارتشي. ولابد أن تشمل المحاكمة رئيس النظام السابق ورؤساء الوزراء والوزراء ورؤساء الشركات وأعضاء لجان التقييم ولجان الحصر ولجان الموافقة.. حتي يدرك من يتورط في مثل هذه الأمور مستقبلاً أن جرائمه لن تسقط بالتقادم.. وأن شعب مصر قادر علي أن يسترد حقه ولو بعد عشرات السنين. يقول فخري عباس الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات في حوار مع جريدة "الشروق" نشرته أمس أنه أرسل تقريراً بالمخالفات المالية التي شابت صفقة خصخصة شركة النصر للمراجل البخارية إلي الرئيس السابق مبارك أثناء إتمام الصفقة عام 1994 لكنه لم يعقب ولم يتخذ قراراً بشأنها.. كما أن رئيس الوزراء الأسبق عاطف صدقي منع أعضاء الجهاز المركزي للمحاسبات من مراقبة عمليات خصخصة أكثر من 20 شركة كبري مملوكة للقطاع العام أبرزها المراجل البخارية وبيبسي كولا وكوكاكولا وفنادق ميريديان وشيراتون بالقاهرة الكبري والبحر الأحمر. ونستطيع - بهذه المناسبة - أن نحمل منطوق الحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري في بطلان بيع الشركات الثلاث - شبين للغزل والمراجل وطنطا للكتان - ليكون بلاغاً رسمياً للنائب العام لفتح تحقيق فوري في صفقات الخصخصة عموماً.. ما سقط منها وما ينتظر. وقد جاء في منطوق الحكم أن "ما حدث جريمة في حق المال العام وفساد إداري صارخ وفقاً للمادتين 25 و26 من قانون الإجراءات الجنائية". هذه فرصة أخري لفتح ملف الخصخصة وتطهير مصر من الفساد والروائح التي تزكم الأنوف.