عندما يطرح هذا الملتقي قضية القصة في أفق التلقي. فإن المعني الذي أراد المشاركون في المؤتمر الذي دعت إليه إدارة الثقافة بالشارقة هو مستقبل القصة القصيرة: هل تأثر بازدهار الرواية. أم أن القصة القصيرة فن متجدد. وله دوماً إبداعاته اللافتة؟ شارك في الملتقي عدد كبير من المبدعين والنقاد. ينتمون إلي العديد من الأقطار العربية. اختلفوا في التفاصيل. لكنهم أجمعوا علي أن القصة لم تمت كما ذهبت بعض الآراء. وأن تلك الآراء اكتفت برؤية نصف الفنجان الفارغ. أو أنها كررت حكاية الثعلب الذي لم يستطع أن يصل إلي العنب في كرمته. فأقنع نفسه بأنه حصرم. بداية يجد الناقد المغربي الكبير د. محمد برادة أن القصة القصيرة قد تعاني الإعراض نتيجة الاهتمام المتزايد بالرواية. وأيضاً بسبب تناقص القراء. وتراجع النص المغري بمتابعة اللحظات السردية التي يبدعها قاصون عرب في دأب واجتهاد. لكن هذا الإعراض قد يكون مؤقتاً مادام عشاق القصة ومبدعوها لا يزالون علي قيد الحياة. متشبثين بخصوصية جنس القصة. وتميزها الشكلي والدلالي. وكما هو معروف لا مناص من أن يخوض كل جنس تعبيري غمار التحولات. ويحاول التجدد. ويواجه تجربة التنافس مع أجناس تعبيرية أخري. يمكن القول إن الأدب العربي أصبح يتوفر علي قاصين يمتلكون صفة العالمية. ويتميزون بأسلوبهم وشكلهم القصصي. مثل يوسف إدريس وزكريا تامر وإدوار الخراط. والتراث القصصي المتراكم علي امتداد مائة سنة. هو ما يغري اليوم أجيالاً من الكتاب الشباب ليرتادوا مسالك هذا الجنس التعبيري الوعر. لالتقاط لحظات التحول السريع. والتمفصل المتعثر بين تمثل الماضي. والانخراط في المستقبل. قاصون شباب يتخذون من القصة وسيلة للتنفيس عن أزمة متعددة الوجوه تحاصرهم في علاقتهم بالمجتمع. وتخلخل كيانهم كلما تساءلوا عن حريتهم ومصيرهم داخل مجتمعات فاقدة البوصلة. أما الناقد الدكتور حسين حمودة فيري أن القصة القصيرة العربية. علي تاريخها المحدود. قفزت قفزات كبري عوضت بها غيابها القديم. مستعينة فيما هي مستعنية به بميراث حكائي وسردي عربي هائل يترامي في تاريخ ممتد. وهذا المعني نجده بوضوح في كل التجارب القصصية التي بدأت في بعض البلدان العربية. في فترة تاريخية متأخرة. واستطاعت في عقود قليلة أن تقدم منجزاً كبيراً. وهذا قائم في المغرب العربي وليبيا والسعودية وبعض بلدان الخليج العربي. وثمة إشارة يجب العودة إليها. تتمثل في تلك المفارقة الكبري التي حكمت. ولا تزال تحكم. وضع القصة القصيرة العربية: أن هذه القصة رغم إنجازها الإبداعي لا تزال تفتقر إلي مواكبة نقدية لائقة. فضلاً عن أنها لا تزال تفتقر إلي إمكانات أكبر علي مستوي النشر والتلقي. لكن هذه المفارقة علي أي حال لا تخص القصة القصيرة وحدها. وإنما تسري وتنحسب علي أنواع أدبية أخري. ويشير الأكاديمي السعودي د. معجب العدواني إلي دراسة في إحدي الدوريات الغربية. أكدت أن القصة القصيرة أصبحت فناً هامشياً في معظم الثقافات الغربية. رابطة ذلك بتطور البلدان العربية. إلا أنها في الدول النامية وشبه النامية مثل الهند وجنوب إفريقيا مازال لها حضورها وشعبيتها. ولازالت قابلة للجدل حولها كبلدان تظل في إطار التخلف. وربما كان لتنامي البيئات التي تهتم بالقصة القصيرة وتعددها. وتبني تلك البيئات لهذا المنجز الدور الأكبر في هذه التحولات الكبيرة. حيث شهدت فترة الثمانينيات والتسعينيات فضاءات عدة اهتمت بمتطلبات الإبداع القصصي. ومن تلك البيئات اعتماداً علي أولوية اهتمامها: الصحف والمجلات. ثم المؤسسات كالمنتديات والجامعات. وكان لهذه البيئات دورها الذي لا ينكره أحد في إيجاد هذا الناتج الكبير والهائل من الإبداع القصصي. لكن هذه البيئات الثلاث التي فتحت أبوابها أمام القصة القصيرة لم تنجح في جذب المتلقي المعتاد أولاً. ولم تنجح في إيجاد التأثيرات الموازية لهذه الكثرة العددية من الإنتاج. وهذا القدر الكبير من الاحتفال ثانياً. فضلاً عن غربلة هذا المنتج الهائل الذي يصدر بصورة شبه يومية. ويري الروائي البحريني عبدالقادر العقيل أن القصة القصيرة كانت الوسيلة الأفضل للتعبير عن تحولات القرن العشرين. بما تميز به هذا الفن من إيقاع سريع ومتجدد. وإمكانات لا محدودة في تفتيت الحدث. وتثوير اللغة. وتفكيك البناء القصصي. واختفاء الحكاية واقترابه من عوالم الشعر المدهشة. وتلاعبه بعنصر الزمن. وتسلسل الأحداث. وكسره كل المعايير الفاصلة بين الشكل والمضمون. وإفادته من تقنيات اللغة السينمائية والمسرح والفن التشكيلي. وقد شهدت بداية الألفية الجديدة ازدهاراً واضحاً في الكتابة الروائية علي حساب القصة القصيرة والشعر. ووصل الأمر إلي إطلاق التحذيرات علي مستوي العالم من أن فن القصة القصيرة في طريقه إلي الانقراض. والسؤال هو: هل سنشهد بداية نهاية الأجناس الأدبية التقليدية؟ هل ستصبح القصة القصيرة مثلها مثل المقامة والأساطير والحكايات الشعبية والملاحم شيئاً من الماضي؟ لا أستطيع أن أجزم بذلك. ولكنني أجزم أن هذا العالم لن يتوقف عن التغيير. والبحث عن الجديد.