لم تختلف آراء الباحثين والدارسين في شخصية ما. مثلما اختلفت حول شخصية هذا الرجل: أبو حيان التوحيدي.. يصفه ياقوت في معجم الأدباء بأنه فيلسوف الأدباء. وأديب الفلاسفة. ومحقق المتكلمين. ومتكلم المحققين. وإمام البلغاء. واتهمه علماء ومؤرخون بسوء العقيدة والزندقة والانحلال. وتشككوا في قيمة علمه. استدلوا علي رأيهم بكتاب التوحيد "الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي". وهو الكتاب الذي تضمن آراء صوفية اعتبرها منتقدوه منافية لقواعد الإسلام. وفي رواية منسوبة للخوانساري إن المعتمد بن عباد بلغه ما أثير حول سوء عقيدة التوحيدي. وقلة ورعه. فطلبه ليقتله. وحين فطن أبو حيان إلي ما ينتظره عند المعتمد. هرب والتجأ إلي أعدائه. وقد استبعدت هذه الرواية لعدم وجود قرائن تشهد بفساد التوحيدي. واعتبرت مجرد وسيلة للنيل من الرجل. وتعريض سمعته وحياته للخطر! وقد اكتفي تاج الدين السبكي في تعريفه بالتوحيدي بالقول إنه كان صحيح العقيدة. يدافع أستاذنا زكريا إبراهيم عن التوحيدي بأنه عندما ثار علي كتبه. وأخرقها. فذلك حتي لا يحترق بها. أو كما قال الداراتي علي لسانه: والله ما أحرقتك حتي كدت أحترق بك!.. أحرق التوحيدي كتبه حتي لا يحرق نفسه. يضيف زكريا إبراهيم: لو كان التوحيدي رجلاً ملحداً. لا يؤمن بالميعاد. ولا باليوم الآخر. لما تردد في اختيار الوقت المناسب للرحيل. بصحبة إنتاجه الفكري. صديق العمر الأوحد. لكن التوحيدي كان رجلاً صوفياً مؤمناً. يعلم أن الله تعالي "أملك لنواصينا. وأطلع علي أدانينا وأقاصينا. له الخلق والأمر. وبيده الكسر والجبر. وعلينا الصمت والصبر. إلي أن يوارينا اللحد والقبر". وعلي الرغم من تباين الآراء إلي حد التضاد. فالثابت أن التوحيدي أمضي شيخوخته ونهايات عمره في التعبد والتنسك والاستغفار. ومصادقة الصوفية. حتي توفي بشيراز. ودفن فيها. ويروي فارس الشيرازي وكان من خواصه القريبين لحظات مغادرة التوحيدي للدنيا. قال الملتفون حوله: أذكر الله. فإن هذا مقام خوف. وكل يسعي لهذه الساعة. وراحوا يذكرونه ويعظونه. فرفع أبو حيان رأسه متأثراً. وقال: كأني أقدم علي جندي أو شرطي. إنما أقدم علي رب غفور. وقضي. عناوين مؤلفاته تهبنا مشهداً بانورامياً لعالمه الفكري: الهفوات لابن الصابي. الصداقة والصديق. الإمتاع والمؤانسة. رياض العارفين. الإشارات الإلهية. الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي. الرسالة في صلات الفقهاء في المناظرة. المقابسات. الرسالة البغدادية. الرسالة في أخبار الصوفية. الرسالة الصوفية. الرسالة في الحنين إلي الأوطان. البصائر والذخائر. الهوامل والشوامل. المحاضرات والمناظرات. النوادر. أخبار القدماء وذخائر الحكماء. رسالة الحياة. رسالة الإمامة. وغيرها. ويقول ابن النجار "له المصنفات الحسنة. كالبصائر وغيرها. وكان فقيراً. صابراً. متديناً. صحيح العقيدة" ويتحدث أحد علماء عصره عن كتاب "الإشارات الإلهية" الذي ألفه أبو حيان في حوالي السبعين من عمره. بأنه يتوجه فيه إلي الله توجهاً خالصاً. ويرجوه التبرئة الكاملة من الذنوب. بما يحض النظرة المنصفة. إلي تراث الرجل علي ثبات حسن الظن به. وإنه كان موسوعي الثقافة. أدرك أبو حيان جيداً سمو متن التوحيد. أخلص في فهمه وتقديسه. رنا إليه في مكانته العالية. يري توحيد الخاصة أشد صفاء وعمقاً من توحيد العامة. فهو يناجي الله بقوله: أنت أنت لا شيء غيرك! الإشارة إليك باللسان نقص وعجز. والتوجه نحوك بالقلب فضل وعز". ويتجه إلي الإنسان بالقول: "إذا سما بك العز إلي علياء التوحيد. فتقدس قبل ذلك عن كل ما له رسم في الكون. وأثر في الحس. وبيان في العيان". ويلخص أبو حيان التوجيد بأنه "اعتراف النفس بالواحد لوجدانها إياه واحداً من حيث هو واحد. لا من حيث قيل إنه واحد. وهذا هو الحد بين توحيد الجمهور بالتقليد. وبين توحيد الخاصة بالتحقيق. فأما اعتراف اللسان فهو نائب عن اعتراف النفس. إذا كانت هذه النيابة علي حد الكمال. ولم تكن تلقينا من عامة الناس". ويري أن حب الحكمة لا يتم إلا بالجمع بين العلم بالحق. والعمل بالحق". وهو في كتاب "المقابسات" يضغط علي فكرة التبجيل. والإجلال للباري سبحانه. ويشير إليه بمسميات التعظيم والإكبار مثل "الحق الأول" و"الغاية القصوي" و"الرتبة الكبري" و"العلة الأولي" ويناجي الله بالقول: "اللهم طهر قلوبنا من ضروب الفساد. وحبب إلي أنفسنا طرائق الرشاد. وكن لنا دليلاً. وبنجاتنا كفيلاً.. لا فاتنا شيء من صنعك الجلي والخفي. يا من الكل به واحد. وهو في الكل موجود". وكان يقين التوحيدي أن الله تعالي "أملك لنواصينا. وأطلع علي أدانينا وأقاصينا. له الخلق والأمر. وبيده الكسر والجبر. وعلينا الصمت والصبر. إلي أن يوارينا الله اللحد والقبر". من هنا تأتي دلالة الكلمات "احرص أن تعلم جيداً. أو أن تكون خيراً. لا أن تحث علي الخير. واحرص أن تعمل ما يجب. ولا تدعي ما يجب". يرجع البعض إلي هذه العبارات الصوفية المستغلقة دعوي اتهام التوحيدي بالكفر والزندقة وسوء الاعتقاد. لكن الدارس لكتابات التوحيدي جيداً يتبين من خلالها أنه كان معنياً بالتأمل وإلقاء الأسئلة والبحث عن الأجوبة بأكثر من تقديمها. إن دوام التأمل. وتكرار الأسئلة يهبنا فكراً متفتحاً. ليس فيه علي حد تعبير زكريا إبراهيم حلول نهائية. ولا أجوبة حاسمة. وإنما أسئلة مستمرة. ومشكلات متوالية. يأخذ بعضها برقاب البعض الآخر. انطلاقاً من إيمان التوحيدي أنه ليس في العلم شيء. إلا إذا بديء بالكلام فيه. اتصل وتسلسل حتي لا يوجد له مقطع ولا منفذ. بل إن زكريا إبراهيم يجد في النبرة الصوفية التي غلقت آراء التوحيدي غلافاً خارجياً. أو قشرة سطحية لما كان يؤمن به من معتقدات وآراء. وقيمة تلك الكتابات إنها جاوزت نقل الأفكار والمساجلات التي دارت بين مثقفي العصر. إلي تنقيح علمي وأدبي. مما يجعل الكتاب في تقدير الكثير من الدارسين قيمة كبري في التأريخ للفكر الإسلامي في القرن الرابع الهجري. ولعل أبو حيان أراد بالرسو "علي شاطيء التصوُّف أن يخفف من حدة التشاؤم في داخله. ويبحث عن أجوبة للكثير من الأسئلة. ويفتح لنفسه آفاقاً لا نهائية من الأمل والرجاء في الله. لكن صرير قلمه يعلو بالثورة علي "الدار التي امتلأت بالذئاب". ويؤكد أن "العلم بلاء. والجهل عناء. والعمل رياء. والقول داء. والسكوت هباء. والنظر عداء. وكل ذلك سواء. فأما بلاء العلم فلأنه يهوي بصاحبه إلي لجج الفكر. وأما عناء الجهل فلأنه يقحم صاحبه جميع الكد. وأما داء القول فلأنه يصب العجب علي أهله في كل قبول وود. وأما هباء السكوت فلأنه يعري صاحبه من كل فائدة. وأما عداء النظر فلأنه يعود علي صاحبه بكل آبدة. وأما سواء كله فلأنه علم لذوي النهي باحتمال كله. فهات الآن حالاً ليس للعلم فيها نسب. ولا للجهل فيها سبب. ولا للعمل فيها بقية. ولا للقول فيها خبية. ولا للسكوت معها علاوة. ولا للنظر عندها علاقة. ولا لكله فيها استواء. ولا لبعضه منها التواء. إلخ". في هذا الإطار يذهب أبو حيان في "الإمتاع والمؤانسة" إلي استحالة وصف الذات الإلهية. لأن "الله الذي لا سبيل للعقل أن يدركه. أو يحيط به. أو يجهد وجداناً. أولي وأخري أن يمسك عنه عجزاً واستخذاء. وتضاؤلاً واستعفاء.. فعلي هذا قد وضح أن الصمت في هذا المكان أعود علي صاحبه من النطق. لأن الصمت عن المجهول أنفع من الجهل المعلوم. التظاهر بالعجز في موضعه. كالاستطالة بالقدرة في موضعها. وليس للخلق من هذا الواحد الأحد إلا الآنية والهوية. فأما كيف ولم وما هو. فإنها طائرة في الرياح". وينأي أبو حيان بنفسه عن القضايا التي تطرحها المقولات الصوفية. مثل وحدة الوجود. وإن ذهب إلي أنها سهلة الفهم والرحاطة. ومن ثم فهو يوكل أمرها إلي من اختارها. ويعوذ بالله من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. نحن إذن أمام اعتراف قوامه الفهم والوعي بقصور العقل البشري عن الإحاطة بالذات الإلهية. وتنزيه الله في الوقت نفسه عن سائر الصفات البشرية. وكان للتوحيدي مفهومه للعلم في الإسلام. أو لصلة العلم بالدين الحنيف. فحياة الحي في حياته. والجهل موت الحي في حياته. وإذا كان العلم حياة الحي في حياته. فلا شك أنه يكون حياة له بعد وفاته. إن حب الحكمة لا يتم إلا بالجمع بين العلم بالحق. والعلم بحق. ويصف من افتقد العلم ولزم العلم بأنه مثل خابط عشواء. ما يفسده أكثر مما يصلحه. ومن لزم العلم وخلا من العمل. كان كلابس ثوبي زور.. والعمل مبلغ المرء إلي الغاية التي لا مطلوب وراءها والعمل مهيأ له نحو المسلك إلي سعادته. ويثور السؤال: هل أحرق أبو حيان كتبه خوفاً من زلل الاجتهاد الذي ربما يسيء إلي علاقته بربه. أو خشية هجوم علماء عصره. أو يأساً من عدم فهم الناس؟ قد نجد الإجابة في الرسالة التي تضمنت كلماته عن إحراق كتبه. يقول: "أسأل الله تعالي رب العالمين أن يجعل اعترافي بما أعرفه. موصولاً بنزوعي عما اقترفه. إنه قريب مجيد". لذلك فإن التوحيدي يظل في نظرة غالبية الدارسين للفكر الإسلامي مفكراً حراً. حاول أن يوفق بين العلم والدين علي بساط التصوُّف. وهو كذلك يمثل صورة متقدمة من الثقافة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. وتعبيراً عن حركة تنوير صادقة. وحقيقية. في التاريخ الإسلامي.. وفي إدارة لابن حجر العسقلاني إن لقب التوحيدي أطلق عليه لأن أباه كان تاجراً متنقلاً. يبيع نوعاً من التمر اسمه "التوحيد" ويضيف إشارة أخري إن معاصري التوحيدي أطلقوا عليه هذا اللقب نسبة إلي "التوحيد".