نقل مقرات النيابة ومحكمة الوادى الجديد الابتدائية إلى مجمع «الخارجة»    شركات الغزل والنسيج الوطنية تستهدف إنتاج 40 مليون قطعة ملانبس جاهزة سنوياً    وليد جاب الله: مصر تحقق أعلى نمو فصلي منذ 3 أعوام بفضل انطلاقة قوية للقطاع الخاص    مسؤول في الأونروا: التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية "لم نشهده من قبل"    وزير الخارجية السوري: لا اتفاق مع إسرائيل ما دامت تحتل أراضٍ سورية    إصابة الدباغ في مباراة فلسطين وسوريا بكأس العرب    تعليمات فنية خاصة للاعبي الزمالك استعدادا لكهرباء الإسماعيلية    خبر في الجول – مصطفى محمد يلحق بمنتخب مصر في مواجهة نيجيريا الودية    مصرع 4 قضاة في حادث مروع على الطريق الصحراوي بالمنيا    تفاصيل مقتل الفنان سعيد مختار على يد زوج طليقته بأكتوبر    تأجيل محاكمة 5 متهمين بخلية النزهة    إطلالة جذابة ل آية الجنايني في مهرجان البحر الأحمر السينمائي | صور    وزير الصحة ينفي شائعة انتشار فيروسات تنفسية ويؤكد مأمونية لقاح الأنفلونزا الموسمي    الصحة تعلن زيادة انتشار الأنفلونزا وتكشف حقيقة ظهور فيروسات جديدة    محافظ القاهرة: تبرع بقيمة 50 مليون جنيه لدعم إنشاء المجمع الطبي لجامعة العاصمة    الداخلية تكشف عن ملابسات فيديو يظهر خلاله شخص وهو يستعرض ب«مطواة»    الجامعة البريطانية بمصر تشارك في مؤتمر الطاقة الخضراء والاستدامة بأذربيجان    خالد الجندي: أعظم هدية قُدِّمت للمجتمع المصري برنامج دولة التلاوة    ميرفت القفاص: عمار الشريعي الغائب الحاضر.. وصندوق ألحانه ما زال يحمل كنوزا    تعليق صادم من الفنانة مي عمر عن آراء النقاد بها    بكين تعلن عن ثالث مناورة مشتركة مع موسكو في مجال الدفاع الصاروخي    مدبولي يتابع مشروعات تطوير قطاع الغزل والنسيج والاستغلال الأمثل لبعض الأصول    مصر تواصل دعم غزة.. دخول 9250 طنًا من المساعدات الإنسانية    طب الإسكندرية تُطلق قافلة طبية شاملة لخدمة مركز التأهيل المهني بالسيوف    كمال درويش: أرض أكتوبر المتنفس الحقيقي للزمالك.. والأمور أصبحت مستحيلة على مجلس الإدارة    صبغ الشعر باللون الأسود: حكم شرعي ورأي الفقهاء حول الاختضاب بالسواد    وزير الصحة: اللقاح الموسمي فعال وفيروس "ماربورج" غير موجود في مصر    مدبولي: مشروع إحياء حديقتي الحيوان والأورمان يقترب من الافتتاح بعد تقدم كبير في أعمال التطوير    جامعة أسيوط تُكثّف استعداداتها لانطلاق امتحانات الفصل الدراسي الأول    وزير الخارجية: إسرائيل عليها مسئولية بتشغيل كل المعابر الخمس التي تربطها بقطاع غزة    صحة الشيوخ تدعو خالد عبد الغفار لعرض رؤيته في البرامج الصحية    منافس بيراميدز المحتمل - وصول بعثة فلامنجو إلى قطر لمواجهة كروز أزول    مؤسستا ساويرس وعبلة للفنون تجددان شراكتهما لدعم المواهب المصرية الشابة    اختبار 87 متسابقًا بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن بحضور الطاروطي.. صور    هيئة الرقابة المالية تُلزم صناديق التأمين الحكومية بالاستثمار في الأسهم    المستشار الألماني: إمكانية زيارة نتنياهو إلى بلادنا غير مطروحة حاليا    باحث يرصد 10 معلومات عن التنظيم الدولى للإخوان بعد إدراجه على قوائم الإرهاب    الأرصاد تكشف خرائط الأمطار اليوم وتحذر من انخفاض درجات الحرارة في عدد من المحافظات    وزارة التضامن: فريق التدخل السريع تعامل مع 519 بلاغا خلال شهر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 7-12-2025 في محافظة الأقصر    روجينا تعلن انطلاق تصوير مسلسل حد أقصى رمضان 2026 .. "بسم الله توكلنا على الله"    السيطرة على حريق مخزن سجاد وموكيت فى أوسيم    وزير الري: التحديات المائية لا يمكن التعامل معها عبر الإجراءات الأحادية    ثنائي الأهلي يدعم محمد صلاح ضد مدرب ليفربول: أسطورة كل العصور    «صحح مفاهيمك».. أوقاف الوادي الجديد تنظم ندوة بالمدارس حول احترام كبار السن    حزب العمال البريطانى يمنع المتحولات جنسيا من حضور مؤتمره النسائى فى 2026    البورصة تواصل ارتفاعها بمنتصف التعاملات مدفوعة بمشتريات عربية وأجنبية    نور الشربيني تتوج ببطولة هونج كونج للاسكواش بعد الفوز على لاعبة أمريكا    تقرير أردني: الخطيب يكلف عبد الحفيظ لبدء التفاوض مع يزن النعيمات    ضبط 69 مخالفة تموينية متنوعة فى حملة مكبرة بمحافظة الفيوم    وزير الصحة يستعرض تطوير محور التنمية البشرية ضمن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية    رئيس جامعة سوهاج يتحدث عن المبادرة الرئاسية "تمكين" لدعم الطلاب ذوي الهمم    وزير الاتصالات: إطلاق خدمة التحقق الإلكترونى من الهوية يناير المقبل    الشرع: إقامة إسرائيل منطقة عازلة تهديد للدولة السورية    قطاع الملابس والغزل يبحث مع رابطة مصنّعي الآلات الألمانية التعاون المشترك    محمد عشوب: نتمنى تنفيذ توجيهات الرئيس نحو دراما تُعبّر عن المواطن المصري    دعاء الفجر| اللهم ارزقنا نجاحًا في كل أمر    محمد صلاح يفتح النار على الجميع: أشعر بخيبة أمل وقدمت الكثير لليفربول.. أمى لم تكن تعلم أننى لن ألعب.. يريدون إلقائي تحت الحافلة ولا علاقة لي بالمدرب.. ويبدو أن النادي تخلى عنى.. ويعلق على انتقادات كاراجر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
فيلسوف السؤال

عاش التوحيدي في القرن الرابع الهجري، يفصلني عنه ألف عام، ورغم اتساع الهوة أشعر بالقرب كأنه أخي الذي لم تنجبه أمي..
السؤال أول الطريق إلي المعرفة، أول خطوة إلي أفق العلم بالشيء المسئول عنه خاصة، وبالإحاطة عامة، يرتبط السؤال بالتوق، بالشوق، بالرغبة في أن يلم الإنسان بما لا يعرفه، والسؤال لا يصدر إلا عن الإنسان، من بين جميع المخلوقات التي تسعي لا يتوجه السؤال إلا الإنسان، والسائل يكون في الأغلب الأعم جاهلاً بما يستفسر عنه، غير أن المُجيب لا يكون بالضرورة عالماً، بل أحياناً لا يتضمن السؤال إشراقات معرفية أكثر وأعمق مما تتضمنه الإجابة، وهنا يصبح السؤال مفجراً للمعرفة، محرضاً علي التماسها، الوصول إليها، يصبح السؤال في حد ذاته معرفة، وأحياناً يتضمن الجواب أيضاً إما بصيغة إشارة خفية إلي الإجابة، أو ينطق السؤال فيما يتعلق بالمحظور، المسكوت عنه، ما يصعب الاقتراب منه.
تلك قيمة السؤال المعرفية، ومن هنا تأتي أيضاً قيمة الكتاب الفريد، النادر، الذي لا أعرف له مثيلاً في التراث العربي، كتاب «الهوامل والشوامل» والمتضمن أسئلة التوحيدي، وأجوبة الفيلسوف المتكلم مسكويه.

يقول المحققان الجليلان، أحمد أمين وأحمد صقر، في مقدمة الطبعة الوحيدة، للجزء الأول من الهوامل والشوامل، والتي صارت أنفسا من المخطوطات لندرتها، وفي معرض تفسيرهما لهذا العنوان، إن الهوامل مقصود بها الإبل الهائمة، الشاردة، أما الشوامل فهي الحيوانات التي تضبط الإبل الهوامل فتجمعها، غير أن الدكتور أحمد محمد الحوفي في كتابه عن التوحيدي يختلف في تأويل العنوان، فالهوامل في رأيه هي الإبل المهملة المسيبة التي لا راعي لها، وربما كانت جمعاً لكلمة هاملة أي من «هملت» السماء، أي دام مطرها في سكون، والمراد إذن الأسئلة المنطلقة المتوالية الموجهة إلي ابن مسكويه، كأنها المطر النازل المدرار، أما الشوامل فهي جمع لكلمة شامل أو شاملة، من شملهم الأمر إذا عمهم، والمراد إذن الأجوبة الشاملة المحيطة المستوعبة لما في نفس السائل، وربما كانت كلمة «شَومل» وهي اسم من أسماء ريح الشمال التي تهب علي بلاد العرب من ناحية الشام والمراد إذن الأجوبة المنعشة لشوق أبو حيان إلي العلم والمعرفة (فهي جمع شومل) كأنها نسمات الشمال الهابة علي بلاد العرب من ناحية الشام.
أياً كانت التفسيرات لعنوان الكتاب الذي أرجح أنه من وضع التوحيدي، فإنه دال بعمق ونفاذ علي مضمون الكتاب الذي تتدفق فيه الأسئلة كالإبل الهوامل في بيداء المعرفة، غير أن الحيوانات الشوامل لا تنجح أبداً في الإمساك بها وحصارها أو حتي تهدئتها.

عندما قرأت الهوامل والشوامل للمرة الأولي، قرأت الأسئلة والأجوبة معاً، وعندما قرأته للمرة الثانية توقفت أمام الأسئلة فقط، وعدت إليها مرات، والآن بعد حوالي ربع قرن من معايشة لهذا الكتاب الرائع لا أجد في ذهني ما علق منه إلا الأسئلة، فلكم تبدو أجوبة «مسكويه» متواضعة، محدودة في مواجهة شمولية الاستفهام واتساع أفقه، واستيعابه للتجربة الإنسانية.
لم يترك التوحيدي درباً إلا وسلكه عبر أسئلته، دروب فلسفية، علمية، اقتصادية، خلقية، اجتماعية، نفسية، تعكس بصيرة نفاذة، وروحاً قلقة يعذبها التوق إلي المعرفة، وهذا التوق كان التوحيدي يدرك جيداً أنه لن يجد مستقره عند مسكويه أو غيره، إنما أراد بتوجيه الأسئلة أن يعلنها، أن يجاهر بها، أن يطرحها علي العالمين، وما توجيهها إلي مسكويه إلا وسيلة، إلا حجة، بل إنه يورد في بعض الأسئلة تفاصيل دقيقة يبدو من خلالها أكثر علماً من مسكويه، لقد أدرك التوحيدي تلك الأسئلة الأبدية التي ستظل بلا إجابة فطرحها، لكن مجرد النطق بها يعني أنه ما من أفق يحول بين الإنسان والتوق إلي المعرفة، وتلك عظمة الإنسان ونُبل جوهره، أنه يسعي إلي إدراك ما لا يمكن إدراكه، لكن الوعي بذلك لا يحول بينه وبين شرف الطرح، شرف التساؤل رغم إدراكه أحياناً باستحالة الإجابة.
لماذا لا يعود الإنسان شاباً فطفلاً فجنيناً؟
ما ملتمس النفس في هذا العالم؟
ما سبب استشعار الخوف بلا مخيف؟
ما الزمان؟
ما المكان؟ وهل الوقت والزمان واحد؟
لماذا يحن الإنسان إلي مكان بعينه؟ أو إلي زمان بعينه؟
ما السبب، ما العلة؟ماملتمس النفس في هذا العالم؟
توقفت مطولاً أمام الأسئلة التي تتعلق بالإنسان، وقضاياه الخالدة، الباقية، وتجاوزت تلك الأسئلة التي طرحها التوحيدي منذ ألف عام والتي لم تكن معارف عصره قد توصلت إلي الإجابة عنها بعد، مثل تساؤله: ما البرق؟ ما الرعد؟ لِمَ كان صوت الرعد إلي آذاننا أبطأ وأبعد من رؤية البرق إلي أبصارنا؟
لقد أجاب العلم الحديث علي مثل هذه الأسئلة وإن كانت ملاحظة التوحيدي الدقيقة الثاقبة تظل موضع تقديرنا، ذلك أنه أدرك بثاقب بصره أن الضوء أسرع من الصوت في وقت لم يكن العلم قد اكتشف فيه ذلك، هكذا يكون السؤال حافزاً للمعرفة، وكاشفاً عن الحقيقة حتي مع العجز عن الوصول إلي الأسباب. لقد أعاد التوحيدي إلي السؤال قيمته، السؤال المقلق، المحرض، الدافع، أعاد إليه قيمته، وعلمنا جوهر فرادته، ويبدو ذلك رائعاً في ثقافة طابعها المحافظ أعم، وميلها إلي القائم أقوي، وأخذها بالمفروغ منه، بالنصوص المصاغة، المنقولة أكثر، من هنا قيمة التوحيدي في تراثنا العربي، القدرة علي طرح السؤال، وصياغته في أكثر من صورة، مرة مباشرة، ومرة بمراوغة، وبعد ألف عام من رحيله، نحن في أمس الحاجة إلي تعلم وإحياء هذه القيمة، قيمة السؤال، مرة ببراءة الأطفال، ومرة بدهاء المحنكين، المجرمين، الذين يعون الأخطار التي يمكن أن تلحق بهم، ولكن إخلاصهم للإنسانية، لا يمنعهم أو يحول بينهم وبين النطق بالسؤال!

إذا كان التوحيدي قد طرح الأسئلة في «الهوامل والشوامل» فإنه في المقابسات يحاول أن يدمج السؤال بالجواب، المؤكد أن «المقابسات» يلي «الهوامل والشوامل» إذ ترد إليه إشارة في المقابسات، إذ يقول:
(وهذه مسألة في الهوامل ولها جواب آخر في الشوامل..)
ويبدو أنه كتبه في مرحلة متقدمة من عمره، فلمّ في بعض أجزائه شجناً يكاد يقارب ما يحويه «الإشارات الإلهية» من شجن، إذ يقول:
«الدنيا في عيني مسودة، وأبواب الخير دوني منسدة، بثقل المؤونة، وقلة المعونة، وفقد المؤنس بعد المؤنس، وعثار القدم بعد القدم، وانتشاء الحال بعد الحال، هذا مع ضعف الركن، واشتعال الشيب، وخمود النار، وأفول شمس الحياة وسقوط نجم العمر، وقرب الرحيل وإلي الله التوجه».
أما الباعث علي تأليفه فهو حبه للفلسفة والفلاسفة، يقول:
«إنما يبعثني علي رواية كل ماسمعته من هؤلاء الجلة الأفاضل، عشقي لهم وحمدي لله تعالي علي ما أتاح منهم، فلا تقرأن هذا الفصل، ثم تقول، وما في هذا من الفائدة؟ فإن درجات الحكمة مختلفة، ولكل كلمة قائل، ولكل قول واع، ولكل عمل عامل، ولكل عامل راع، وهذا الشيخ ممن قد أعلي الله كعبه في علم الأوائل، ووفر حظه من الحكمة المبثوثة في هذا العالم، وفيما قال حث علي حسن معرفة فضل الحكمة، وفي معرفة فضل الانبعاث علي اكتسابه والاستكثار منه».
ورغم ما يقوله التوحيدي نفسه عن مخالطته كبار علماء عصره، ونقله عن بعضهم، إلا أن «المقابسات» يعد امتداداً للهوامل، فالمسائل التي يدور حولها سبق وأن عبر عنها بالسؤال، خاصة ما يتعلق بالإنسان، وعلاقته بالزمان والمكان، وهذا ما توقفت أمامه.

نصل إلي الذروة، إلي إحدي قمم النثر العربي، إلي الإشارات الإلهية، والذي تخطي فيه التوحيدي أساليب التعبير المستقرة، المؤطرة، ليخلق أسلوبه الخاص، المتدفق، الذي يستوعب جميع تقاليد النثر العربي، لكنه يتجاوزها أيضاً، هذا كتاب لا أقرأ صفحاته إلا بصوت مرتفع، وإذا شرعت فلا أقدر إلا علي قراءة عدد محدود من الصفحات لا يتجاوز العشرين في الجلسة الواحدة، ذلك أن تدفقه، وما يفيض به من ثراء، يجعل استيعابه علي مهل ضرورياً، خاصة أنه جمع النثر والشعر معاً.
في النثر العربي اتجاهان رئيسيان، اتجاه مستقر، واضح، لا يخرج عن الأسس البلاغية التي وضعها علماء اللغة، وهذا الاتجاه يحاكي في تقديري المؤسسات الظاهرة، المسيطرة، التي تسعي إلي إقرار الثبات، والحد من المغامرة، فكرية كانت أو سياسية أو اجتماعية، إنه مواز أيضاً إلي ما يمكن اعتباره الظاهر.
وثمة اتجاه آخر، يعبر عما هو أعمق، عما لا يدرك في الظاهر، عن تقلبات الذات وأحوالها، عما لا يمكن أن تستوعبه العبارة، فاللفظ محدود بحروفه، لكن المعني شاسع، مراوغ، وجهاد المبدع الحقيقي في الإمساك به والتعبير عنه، هذا ما حاوله الصوفية الكبار، عندما أشاروا ولم يحددوا، وعندما رمزوا ولم يفسروا.
التوحيد وحد بين ظاهر النثر وباطنه، بين الأساليب التي تعارف عليها القوم، والمعاني التي لم يطرقها أحد، بالطريقة التي يألفها الجميع، نادرة تلك الكتابة الذاتية التي يتوحد فيه الكاتب بما يكتب، لا يخبر عن آخر، ولا ينقل عن أولين، إنما الكاتب والمكتوب عنه شيء واحد، نادرة تلك الكتابة في تراثنا القديم، أشير إلي رسائل بديع الزمان الهمذاني، وإلي «اعتبار» أسامة بن منقد، وسير بعض الدعاة الفاطميين مثل الأستاذ جوذر، والقاضي النعمان، وما بثه الصوفية من أشواق ومكابدات في ثنايا كتبهم. التوحيدي لم يكتف بالتعبير ظاهراً وباطناً، إنما طرق دروباً مؤدية إلي أغوار النفس لم يسلكها قبله أحد.
أقرأ «الإشارات الإلهية» فأجد نفسي في مواجهة نص حديث كأنه كُتب اليوم، وأظنه أصبح خارج التحديد لأنه صادق صدقاً موجعاً، يعبر عني وعن أي إنسان، في أي مكان وزمان، أكثر مما يعبر بعض المجاملين، المعاصرين.
أقرأ «الإشارات الإلهية» فأتخيل لو أن النثر العربي انطلق من صفحات ذلك الكتاب وتطور، لكنني أعرف جيدا أن «لو» لا تجوز في التاريخ، لكن هذا لا يمنع من استخلاص العبر، لقد جري تعتيم مقصود علي التوحيدي، وكتبه، وحتي سنة 1929 عندما حققه حسن السندوبي في مصر، من خلال طبعه للمقابسات لم يكن يسمع به أحد، ولم يتوقف عنده أحد، وقبل السندوبي طبعت المقابسات في مكان نائي عن تلك الرقعة الجغرافية التي نعيش فيها ويتكلم أهلها العربية، طُبع في الهند طبعة محدودة جداً ولحسن الحظ أن نسخة منها وصلت إلي يدي حسن السندوبي، فقدمها، ونقحها، وطبعها من جديد، جزاه الله خيراً، ورحمه رحمة واسعة.
أقرأ «الإشارات الإلهية» فأدرك هذا الحس الإيماني العميق، وأذهل من جرأة بعض الفقهاء الذين رموا التوحيدي بالزندقة.
أقرأ «الإشارات الإلهية» فيدركني الإعجاب بهذا التعبير القوي علي الغربة، غربة الموهبة، عاقبة التفرد، غربة الذات التي تدرك قيمتها، تفشل في تحقيق الصلة بمن يحيطها، فتسعي إلي تحقيق الصلة بالمطلق، بالأبدي، بالأكوان كلها، فتتحقق صلة من نوع آخر، بقدر ما تحوي من تحقق، بقدر ما تحوي من غربة أبدية.
ولأن الكتاب كنز، ومن الصعب إشاعة هذا الكنز في حيز ضيق، وإطار محدد، آثرت الإشارة إلي الإشارات من خلال نموذجين متكاملين، الرسالة الأولي، والرسالة التي أطلقت عليها «رسالة الغربة»، للأسف وصلنا بعض من الكتاب، ومازال جزء منه مفقودا، بل إنني أتخيل تلك المخطوطات العتيقة في الهند وماليزيا وقري الصعيد ومساجد اليمن والمغرب وسائر أنحاء الدنيا، وآمل العثور يوماً علي مؤلفات التوحيدي المفقودة، نسخة كاملة من الإشارات الإلهية، أو نسخة كاملة من المحاضرات الذي أورد ياقوت الحموي أجزاء منه، وكتاب الزلفة، وكتاب رياض العارفين، ونصوص رسائله التي أتوقف أمام آخرها، تلك الرسالة المؤثرة التي يشرح فيها، لماذا أقدم علي حرق كتبه؟
هذا الموقف المأساوي الذي لا أقرأ عنه إلا وأرتعد، ولا أتخيله إلا وأفزع، ولا أسمع من يتحدث عنه إلا وينتابني كمد!

اعتدت معايشة من تعلقت بهم من أعاظم الأقدمين، ومع الوقت، مع القراءة لهم وعنهم، يصبحون جزءاً من صحبي، وعماداً في أسرتي، وأركانا لروحي.
الشيخ محمد أحمد بن إياس الحنفي المصري صاحب «بدائع الزهور في وقائع الدهور».
الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي، أرافقه دائماً، أسعي إليه عبر نصوصه، أستدل به وأهتدي إلي مجرات الروح الخفية.
أما علي بن محمد بن العباس التوحيدي، فأراه وأشعر به كأنه بمنزلة أخي، سبقني في الوفادة إلي الدنيا، لا أكف عن التعريف به وإحياء ذكراه وتعريف الناس بأعماله، ولعل المؤتمر الذي دعوت إليه عام 1995 عبر «أخبار الأدب» وأقامته وزارة الثقافة كان من أنجح وأنقي المؤتمرات الثقافية العربية وشهد حشداً غير مسبوق جاءوا من أنحاء العالم لإعادة الاعتبار إلي أديب عظيم نبذته الثقافة العربية لضيق الأفق وغمام العقول، وعندما قمت بإصدار كتابه العظيم الخالد «الإشارات الإلهية» شعرت أنني أديت بعضاً من واجب تجاه شيخ من شيوخي العظام لم ألتق به قط، لكنني أخذت عنه وتكونت منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.