عاد المفكر الجزائري محمد أركون، لكي يتوسع فيما تعرض له سريعاً في السابق، حول نزعة الأنسنة في الفكر العربي، وفي الإسلام. وفي إصداره الجديد، يتمسك أركون بوجهة نظره التي ترى في أبي حيّان التوحيدي وفي صاحبه أبو علي بن مسكويه؛ رائدين عظيمين، لكل مفكري النزعة الانسانية والفلسفة العقلانية في أرض الإسلام، بل يرى أن هذين المفكرْين، هما اللذان وضعا البذور الواعدة لإنتاج إنسانية متفتحة ومؤمنة بالله، في السياق الإسلامي الورع. ولعل محمد أركون، تحسس تداعيات الغلظة مع الخصوم، في عمل الإسلام السياسي في غير مكان، فأراد أن يتعمق في البحث حول مضامين مغيبة في ديننا الحنيف، تفتح للمؤمنين آفاق الحب والمعرفة، وتعلمهم آداب القلق وطرح الأسئلة، ومساءلة البديهيات والمرجعيات، مطمئنين الى سماحة الدين، والى دماثة من يتخلق بالدين، والى استنارة النخب، الحاكمة أو الواعظة! ابو حيّان التوحيدي لمن لا يعرفه هو من أعظم مفكري الإسلام في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) عاش حياته فقيراً مطحوناً معذباً، يكسب لقمة خبزه من عمل عند أحد الوراقين، في نسخ الكتب بخط يده. وصفه المتأخرون بفيلسوف الادباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء. لكن العسف والظلم اللذيْن طالاه، جعلاه يتشاءم، حتى قام في خريف عمره بجمع النسخ المتوافرة مما كتب، فأحرقها، ظناً منه بأن الناس في زمنه السياسي ذاك، لم يكونوا مهيئين للتعرف على العمق الإنساني للدين. وقال فيما ألسنة اللهب تأكل كتبه: إنني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولمد الجاه عندهم، فحُرمت ذلك كله! أبو حيان، وصديقه أبو علي بن مسكويه، أصدرا في زمنهما كتاباً طريفاً، سمياه الهوامل والشوامل، هو عبارة عن 175 سؤالاً بعث بها الأول الى الثاني فأجاب الثاني عنها. وقد استعار الفيلسوفان المسلمان، هذا العنوان، من عالم الإبل في الصحراء، إذ كانت النياق الشاردة بليل، والهائمة السائمة، تسمى الهوامل، بينما الشوامل هي الحيوانات والإبل القوية الراسخة، التي تضبط النياق الشاردة. وكان الأعراب يقولون فيما هم يفتشون عن ناقة لهم شردت الى حلال غيرهم: لقد شملت إبلكم لنا بعيراً! ابو حيان كان متشائماً. شردت أسئلته كالهوامل التي هامت في بيداء القلق والغموض والاندثار، فرد عليه الصديق الوفي، بشوامل الأجوبة التي ضبطت هوامل أبي حيّان وهدأت روعه لفترة من الوقت. في كتابه الجديد، الصادر عن دار الطليعة في بيروت، بعنوان: "الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي" يلتقط محمد أركون عبارة خالدة لأبي حيان: الإنسان أشكل عليه الإنسان. فالبشر لم يعودوا قادرين على أن يفهموا أعماق بعضهم بعضاً. إن في هذه المقولة، ما يدعو الى ربط السلوك السياسي بالأخلاق الإنسانية، في سياق يذهب الى خلق مناخ مناسب، للتعميق الروحي عبر تجاوز وضعية التمذهب السطحي. ويستعرض الكاتب أركون، أحداث ما سماها "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلاميّة" ويختبر إمكان التواصل بين الجماعات الثقافية والطائفية، ويقول إن البروتستانتية المتصهينة واليهودية المتشددة لا يفهمان الإسلام إلا من منظار العنف. والإسلاموية بدورها تتجادل مع العالم من خلال الرؤى النمطية ذاتها. ويعتبر أركون أن البشرية، إذا ظلت ثنائية الخير والشر، فلن تفلح في تخطّي انقساماتها، وخصوصاً أن الجماعات البشرية في الشرق والغرب، تتعرّض حاليّاً لغزوة جديدة، هي عودة الديني بمعناه الأصولي! ما يهمنا الآن، هو التركيز على البعد الإنساني والأخلاقي لسياقات العمل السياسي المتلطي بالدين، لأن الغلظة تعزز جيش الهوامل، من حيث هي نياق شاردة أو بشر يفتشون عن خلاصهم الفردي فيخلعون من كل ما هو نضالات، غير مبالين بالمصير الجمعي لأممهم وشعوبهم فيتعاظم عدد الهوامل. فكلما كانت الاستنارة وكان التعقل، قويت الشوامل، من حيث هي بُنى وطنية وقومية، أو من حيث هي إبل قوية شملت نياقاً شاردة وضبطتها!