اختارت مصر أن تجري انتخاباتها بالنظام الفردي.. وهي تدرك جيداً أنه ليس النظام الأمثل.. وإن كان الأكثر تعبيراً عن حقيقة الواقع الذي تجري الانتخابات علي أرضيته.. حتي يأتي اليوم المأمول.. الذي ترتقي فيه الحياة السياسية وتتعمق.. ويقوي دور الأحزاب في المجتمع.. فتجري الانتخابات علي قاعدة سياسية. وهناك فارق كبير بلاشك بين الانتخابات الفردية والانتخابات السياسية.. حيث يكون التصويت في الأولي للشخص المرشح.. وفي الغالب الأعم لا يكون هذا التصويت علي أساس صلاحيته السياسية.. أو قدراته ومواهبه وأفكاره وطموحاته.. وإنما علي أساس علاقة الشخص المرشح بالآخرين.. الناخبين.. وهي علاقات غالباً ما تحكمها المصالح والمنافع والانتماءات العشائرية والقبلية.. والتحزبات العائلية.. أو الفئوية.. وكلها تحزبات غير موضوعية بالنسبة للدور المستقبلي المنوط بالمرشح عندما ينجح ويجلس علي المقعد الوثير تحت قبة البرلمان ويصبح مطالباً بممارسة دوره الدستوري في مراقبة الحكومة وسن القوانين. أما الانتخابات السياسية فيكون التصويت فيها علي أساس البرامج الانتخابية والانتماءات الحزبية والفكرية.. ولذلك غالباً ما تكون هذه الانتخابات السياسية بالقوائم الحزبية.. لأن الناخبين يختارون الحزب الذي يتجاوب مع تطلعاتهم وطموحاتهم.. الحزب الذي يعرض برنامجاً يتوافق مع أمنيات الشعب وانحيازاته.. ويحقق مطالبه ويلبي احتياجاته. وما حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية دفع بالعملية الانتخابية إلي تغييب البعد السياسي وتغليب النظام الفردي وتعميقه.. وإعلاء الاتجاه الخاص بشخصنة الانتخابات.. وتشجيع الناخبين علي النظر إلي المرشح "الشخصي" وتقييمه اعتماداً علي نفوذه وتربيطاته وخدماته وعزوته. العائلية والقبلية وربما الطائفية. وفي الدولة المدنية. التي تقوم علي أساس المواطنة والمساواة بين جميع أبنائها. يجب أن تدور المنافسة في الانتخابات علي المحاور السياسية لتحقق الهدف منها. وذلك من خلال طرح البرامج والرؤي والأفكار التي تبتغي مصالح الوطن وازدهاره في الحاضر والمستقبل.. ويكون الاختيار بين المرشحين علي أساس المفاضلة بين البرامج وليس بين الأشخاص.. وعلي أساس سياسي وليس علي أساس قبلي أو مذهبي أو طائفي. وقد عرض الرئيس مبارك يوم الأربعاء الماضي رؤية الحزب الوطني السياسية للسنوات الخمس القادمة وما سوف يتحقق فيها من آمال وطموحات.. وقدمت قيادات الحزب برنامجه الانتخابي الذي غطي 7 محاور أساسية وتضمن تعهدات محددة يلتزم بها الحزب وحكومته بما يضمن تحسين مستوي معيشة المواطنين.. وهذا تطور جيد وإيجابي يصب في تسييس العملية الانتخابية وترقيتها.. وردها إلي الأصل.. لكن علي الجانب الآخر فإن هذا التطور يتعارض في تصوري مع ما عمد إليه الحزب من تقديم أكثر من مرشح للمنافسة علي مقعد واحد في نفس الدائرة. ويقيناً.. فإن هذه الترشيحات المزدوجة.. الثلاثية أو الرباعية أحياناً.. قد حسبت بدقة بالغة.. واقتصرت علي الدوائر التي يغلب عليها الطابع القبلي أو الطابع الريفي.. والتي لا يخشي فيها من تفتيت الأصوات لصالح منافسين من خارج الحزب.. إلا أن الظاهرة في حد ذاتها تعيدنا خطوات في الطريق الذي نريد أن نغادره ونفلت منه.. وهو طريق النظام الفردي. وهناك أحزاب وتيارات أخري لجأت إلي التكتيك ذاته.. فقدمت مرشحين أساسيين ومرشحين احتياطيين علي مقعد واحد في نفس الدائرة.. اعتماداً علي أن الناخبين سوف يصوتون علي أساس عشائري لا حزبي.. والأمر في النهاية يرجع إلي قدرة المرشح علي جذب أكبر عدد ممكن من الأصوات بأي طريقة.. ومن ينجح في هذه المهمة فسيفوز بالمقعد ويفوز به الحزب. لا أدري بالطبع إلي أي مدي ستأخذنا ظاهرة الترشيحات المزدوجة.. لكنني أدرك جيداً أنها ستساهم مرة أخري في تعميق الطابع الفردي. الشخصي. للانتخابات.. وتأكيد ثقافة الانتماء للعائلة أو للعشيرة أو للطائفة وليس للحزب السياسي.. وستعمل علي إطفاء جذوة المنافسة السياسية لصالح المنافسة الفردية بين الأشخاص.. فالتنظيم الحزبي لن يقدر علي دعم أكثر من متنافس علي مقعد واحد.. وسيترك الفرصة لكل مرشح أن "يشتغل بذراعه". وليس خافياً أن الانتخابات الفردية.. التي تعتمد علي العائلة والعزوة والقبيلة. قد أفرزت خلال السنوات الماضية ظواهر سلبية عديدة مثل البلطجة والعنف والتنابذ بالسلاح وشراء الأصوات والمزايدة الطائفية.. ولذلك كان الأمل يحدونا في أن نتخلص من هذه الظواهر المريرة.. وأن تعمل كل الأطراف. وكل الأحزاب. علي تغيير ثقافة الانتخابات الفردية.. أو علي الأقل التخفيف من غلوائها.. وأن تنتقل العملية الانتخابية برمتها من التركيز علي المرشح الذي يبني مجده علي عائلته أو ماله أو خدماته ووساطاته إلي التركيز علي المرشح الذي يستند إلي هوية سياسية وبرنامج انتخابي حتي يعرف الناس. والناخبون خصوصاً. أين سيكون موقعه علي الخريطة السياسية.. وعن أي سياسات سيدافع.. وإلي أي سياسات سوف ينحاز. إننا إن فعلنا ذلك. مثلما تفعل كل الشعوب الحية.. فسوف نحقق معاً انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة.. ونكسب معاً نواباً قادرين علي رفع لواء الحق والعدل.. وقادرين علي أن يقوموا بالدور الحقيقي للبرلمان في مراقبة الأداء الحكومي ووضع التشريعات والقوانين التي يتعلق بها مصير الوطن والمواطن.. وسوف تختفي من حياتنا ظاهرة النائب النائم.. أو النائب الغائب.. المغيب عن القضايا الكبري. إن هؤلاء النواب الذين ينتهي جهدهم عند الحصول علي تأشيرات الوزراء لطلبات شخصية لا حاجة للوطن بهم.. فالحكومة هي المسئولة أولاً وأخيراً عن حل مشاكل الجماهير بمقتضي الدستور.. وبمقتضي الضغط الرقابي الذي يمثله البرلمان.. وإذا كان هناك من دور خدمي لنائب المستقبل فيجب أن يكون من خلال العمل الأهلي التطوعي وليس الوساطة والجري وراء طلبات الاستثناء التي كانت سبباً في كثير من ظواهر الفساد مثل نواب العلاج علي نفقة الدولة ونواب الاستيلاء علي أراضي الدولة ونواب القروض... إلخ. دعونا نحلم بأن يكون التصويت في انتخاباتنا المقبلة بناء علي مبدأ الصلاحية السياسية.. وأن تختفي النزاعات القبلية والطائفية.. وأن يختفي التعصب.. فكلنا في المواطنة سواء.. ونحن نختار نوابنا لكي يمثلونا في أمر يتعلق بالوطن ككل.. ويتعلق بالشعب ككل.. سواء ما كان مختصاً بالتشريع أو بالرقابة.. وهذان أمران لا يفرقان بين الناس علي أساس الدين أو العرق أو الجنس أو اللون. كلنا مصريون.. والبرلمان للأصلح سياسياً. إشارات: * منظمة العفو الدولية تطالب بمحاكمة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن بعد اعترافه في مذكراته بموافقته علي تعذيب المعتقلين.. والكاتب اللبناني جهاد الخازن يقدم في عموده الثابت بصحيفة "الحياة" اللندنية وثائق تدين بوش وأركان إدارته ويطالب العرب بتحريك دعوي ضدهم بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية.. ولكن كالعادة لا حياة لمن تنادي. * بابا الفاتيكان وجه بياناً لزعماء دول العشرين. أغني دول العالم. خلال اجتماعهم الأخير طالبهم فيه باحترام الكرامة الإنسانية. كتر خيرك * جاءت تطلب وظيفة لأحد أبنائها الأربعة.. الولدين والبنتين.. فكلهم يحمل مؤهلاً عالياً ويجلس في البيت.. بعد أيام قلائل جاءني تليفون صديق يبحث عن سيدة فوق الستين لها خبرة في الإدارة لتدير داراً للأيتام ليلاً ونهاراً بمرتب مجز.. طلبتها فوراً للوظيفة فقبلت.. ثم قالت: وأولادي؟!.. قلت: خليهم بالبيت.