أخيراً تحقق حلم السفر إلي واحة "سيوة".. لم أتردد لحظة عندما عرضت علي شقيقتي مرافقتها.. بعد ربع ساعة كنت أمام مكتب التذاكر في ميدان التحرير أقطع تذكرة في نفس الاتوبيس الذي يتحرك في منتصف الليل.. وحتي أقطع الوقت ذهبت إلي السينما حتي يحين الوقت.. فلم أكن قد زرت "سيوة" من قبل شاهدتها في العديد من الأفلام الوثائقية فسكنت خيالي وباتت زيارتها حلم أتوق إلي تحقيقه. ساعات طويلة قطعها الاتوبيس ليلاً فلم أر الطريق إلا بعد طلوع النهار. ولم يكن في المشهد العام غير الصحراء الممدودة علي مرأي البصر ومقهي بدائي نتوقف أمامه لشرب الشاي أو قضاء الحاجة.. ثم وسط هذا المحيط الواسع من الرمال الصفراء والتلال والكثبان والجبال يطل فجأة اللون الأخضر لشواشي النخيل ومزارع الزيتون ويسود الهدوء الساحر الأسطوري الغارق في الغموض ولغة الصمت بديعة البيان. فعلاً يحق للأجنبيات أن يتركن حياتهن الاكثر انفتاحاً وحضارة وتأتين إلي هذا المكان الساحر بتاريخه السحيق ويبدأن حياة جد جديدة حيث يشعرن بالأمان في مكان جميل معزول صحي ويقطعن آلاف الأميال ليسكن في مدينة صنفت بأنها من الأماكن الأكثر عزلة في العالم بعضهن انتقل إلي هذا المكان منذ عشر سنوات. وغيرن أنماط حياتهن. فالطعام نظيف والجو خالِ تماماً من التلوث. يشاركن حياتهن مع أناس لديهم كل النوايا الطيبة. عشقن الناس والمكان البكر وبدأن في الامتزاج ثقافياً. المدهش أن معظم هؤلاء النساء جئن من لندن وكل واحدة منهن لها حكاية مع المكان بخصوصيته والطبيعة الفريدة وامتلكت بعضهن مزارع تزرعها بنفسها وأصبحن يكتفين بمنتجاتها ومنهن من أسس معهداً للتدريب وتعليم اللغة. وفي الفيلم الوثائق "سيوة" حكايات أجنبيات فضلن العيش في واحة الغروب والذي شارك في إعداده ثلاث مصريات هن غادة غالب وسحر عربي ومنة خلف.. نتعرف علي هذه النماذج من الغربيات ولكن علي أرض الواحة الفريدة التي تحتويك منذ الوهلة الأولي لن تجد فتيات سيويات في الشوارع إلا نادراً.. الصغيرات فقط من تلاميذ المدارس. ولكن المفاجأة التي لم أتوقعها أن الفتيات الصغيرات من سن السادسة عشرة وحتي العشرين علي أقصي تقدير يشكلن القوة الضاربة العاملة في مصانع البلح.. هناك تجدهن منتقبات أو محجبات في خط طويل داخل عنابر المصنع المختلفة والتي لا يدخلها رجل اللهم إلا صاحب المصنع نفسه الذي يعتبر بمثابة أب لهن. وحارس للتقاليد وراعي صالح لمصالحهن. يعرف قيمتهن ولا يتهاون في تشجيعهن مادياً وأدبياً والمشكلة التي يواجهها هي حين يتزوجن تباعاً خصوصاً أن الزواج يبدأ في سن مبكرة وأحياناً يتصادف زواج عشرة فتيات دفعة واحدة.. في واحة "سيوة" لا توجد بطالة علي العكس هناك احتياج دائم للأيادي العاملة والزواج بسيط لا يحتاج إلي تكلفة باهظة والحياة عموماً أبسط مما تتخيل. ولكن هناك قيود كثيرة يفرضها المجتمع والتقاليد علي نساء "سيوة" فالمرأة هنا تغطي وجهها بالكامل وترتدي زياً خاصاً متفرداً ومؤخراً عرفت قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة وهن معروفات بالاسم الطريق إلي الجامعة واحداهن التحقت بكلية الطب الأمر الذي يستدعي الدهشة ويحتاج إلي توثيق باعتباره حدثاً جللاً وتطوراً كبيراً وبالفعل قامت إحدي المخرجات في المركز القومي بعمل فيلم عن أول طبيبة امرأة في "سيوة". في "بيت الثقافة".. الذي حرصت علي زيارته. وجدت صالة عرض سينمائي مكشوفة لا يوجد بها كرسي واحد سليم يمكن الجلوس عليه وقيل أنها لا تعرض أفلاماً لأنه لا يوجد جمهور. ربما شهدت بعض الاحتفالات الخاصة بالمناسبات الوطنية. والمدهش أن "البيت" يضم مكتبة متنوعة من حيث الموضوعات "فلسفية. تاريخية. وكتب عن المرأة وتاريخ تطورها و ......." ولكن لا يتردد عليها قراء ولا يوجد وقت للقراءة وللمفارقة وجدت صالة لعرض الأشغال اليدوية والرسوم الخاصه بالأطفال وبعضها ينم عن موهبة وخيال واسع فكيف يغيب الخيال ولا ينطلق في مكان بمثابة جنة فريدة علي الأرض.. تابلوهات طبيعية رائعة من الجبال الشامخة وحدائق النخيل والزيتون وعيون الماء المنتشرة والملاحات وتلال الملح. الملح نفسه له حكاية غريبة. فهو إلي جانب أنه من أجود أنواع الملح ومنه كتله الصلبة تصنع التماثيل والتحف الفنية علي أيدي صنايعة مهرة وهو يستخدم كطاقة ايجابية تطرد الطاقة السلبية فالملح سر من أسرار الواحة وقد بدأ اكتشافه من خمس أو ست سنوات فقط ويتم تصديره للخارج. ويقبل عليه بعض الاطباء ينصحون به والملح يستخدم أيضا في صناعة طوب خاص "الكرشيف" وهو خليط من الطين وبلورات الملح وهناك في "سيوة" بناؤون متخصصون في العمارة "السيوية" ومن هذا الحجر تم بناء واحد من أغرب الفنادق في العالم ومن أندرها. أو ربما كان لا يوجد مثله في موقعه ومعماره واستغنائه عن كل مظاهر الحضارة الغربية وكل ما هو مألوف في الفنادق العالمية. في فندق "بارادايز" ومعناه "الجنة" الذي نزلنا فيه وهو فندق "بيئي" مثل جميع فنادق "سيوة" أي أنه يمثل جزءاً عضوياً في التكوين الطبيعي للبيئة الخاصة بالمكان. أنه عبارة عن عدة بنايات قصيرة متفرقة وسط حديقة واسعة من النخيل. ويقال إنه كان ملكاً لضابط شرطة جاء بزوجته الأجنبية عندما انتقل للعمل في هذا المكان منذ فترة. ولكنه مات وتولت الزوجة إدارته وهي حكاية قريبة تذكر برواية "واحة الغروب" للأديب "بهاء طاهر" والتي تحولت إلي مسلسل تليفزيوني تقوم بإخراجه حالياً المخرجة "كاملة أبوذكري" ومن انتاج شركة العدل جروب وبالمصادفة البحتة التقيت هنا بفريق العمل في موقع التصوير عندما لفت نظري حشد من الجمال والخيام ورتل من الاتوبيسات والسيارات الخاصة إلي جانب "جبل الموتي" وعرفت أنهم سيبقون هنا حتي تنتهي المشاهد الخاصة بالواحة. والمسلسل من النوع التاريخي يشارك في بطولته خالد النبوي ومنة شلبي ومحمد علي وأحمد كمال ورجاء حسين وسوف يعرض في رمضان القادم وتتناول أحداثه قصة ضابط بوليس مصري يتم نقله إلي واحة "سيوة" لاتهامه بتبني أفكار ثورية ترافقه زوجته الأجنبية المفتونة بالآثار. وتعتبر واحة "سيوة" "جنة مصرية في بحر الرمال" هكذا يصفها صناع الأفلام والبرامج والتحقيقات المصورة في قنوات التليفزيون وهي واحدة من أشهر الواحات المصرية الموجودة في الصحراء الغربية واللافت أن الأهالي هناك يتحدثون اللغة الامازيغية ولذلك تم اختيارها ضيف شرف في مهرجان "تيزي أوزو" للسينما الامازيغية بالجزائر عام 2013 وذلم بسبب سلالة الامازيغ الذين نزحوا قبل ثلاثة آلاف سنة من شمال أفريقيا واختير فيلم بعنوان "امازيغ مصر" للمخرج داود حسن للمنافسة الرسمية في قسم الأفلام الوثائقية واختير نفس الفيلم للمشاركة في مهرجان "الفيلم الأمازيغي" في المغرب وبحضور وفد من واحة "سيوة". فكل من التقيت بهم سواء من المعارف أو في داخل المستشفي العام وهي بالمناسبة هو من أنظف المستشفيات في مصر ولكن يفتقد وفرة الأطباء في بعض التخصصات. وأيضا في داخل المحلات التراثية فكل الأهالي هنا يتحدثون اللغة الامازيغية بما ذلك الفتيات العاملات داخل المصانع.. وهم يعتزون جداً بأصولهم الأفريقية ولغتهم رغم أنهم مصريون حتي النخاع من حيث الانتماء اجتماعياً وسياسياً وتاريخياً. وفي الفيلم القصير عن واحة "سيوة" الذي شارك في مهرجان "شنيته" مؤخراً يتناول المخرج أشرف رمضان وهو صحفي ومعد برامج العادات والتقاليد وقصة "جبل الموتي" والمقابر في جوف الجبل وارتباط المكان بالحرب العالمية كما يتناول "قلعة شالي" في مدينة "سيوة" القديمة وواحد من معالمها الأساسية ثم عين "كليوباترا" المذهلة وعيون "سيوة" عموماً وشكل البيت السيوي والأزياء في "سيوة".. والمدرسة والمعلم. ومن أبدع المشاهد وأمتعها تلك المقاهي السيوية المقامة في قلب المشهد الطبيعي وإلي جوار "عين مائية" من العيون العديدة المنتشرة هناك ثم أطباق الطعام الشهية علي الطريقة السيوية.. فقد احتفظت "سيوة" بشخصيتها وبملامحها منذ الفراعنة حيث معبد "أمون" والبطالمة وزيارة الإسكندر الأكبر ولقائه مع الكهنة في "معبد التنبؤات" وكثير ممن تلتقي بهم يحدثونك عن ذلك التاريخ.. وعن عبقرية هذا المكان وعشقهم له. ومن حسن الحظ أن قوة الجذب الهائلة لهذه الواحة التي تحمل عبق التاريخ عبر ثلاث آلاف سنة وعبق تاريخها الخاص جداً وتكوينها الديموجرافي المتفرد. وقدرة قبائلها المتعددة علي الابقاء علي ثقافتها وتقاليدها رغم الامتزاج الذي جري مع قبائل "الامازيغ" في شمال أفريقيا "الجزائر والمغرب وموريتانيا" فالأطفال هنا يتحدثون الامازيغية حتي دخول المدارس حيث يبدأون الكلام بالعربية. إنها رحلة ممتعة جداً ومثقفة وبعد الانتهاء من إنشاء مطار "سيوة" ستكون أقل إرهاقاً بالتأكيد وقد كانت مثل هذه الرحلات مقررة عندما كنا طلبة في الثانوية العامة ولكن إلي أسوان والأقصر ولم تكن واحة "سيوة" علي الخريطة لبعدها وعزلتها. لقد التفت إليها منذ سنوات قلة الإعلاميون وصناع الأفلام والبرامج والباحثون.. صحيح أنها تأثرت سلباً بثورة 25 يناير حيث لم يعد هناك سياحة ولكن جاء اكتشاف الملح لكي يعوض بعضا من الدخل المادي المفقود. آلاف الاطنان من الملح ترقد علي بعد مسافة قليلة جداً من الأرض وآلاف يتم تصديرها.. فيارب احفظ لهذا المكان روحه وأصالته وبكارته وروعته وأحميه من فساد "المدنية" حتي نجد ملاذاً نحج إليه.