ليس صحيحاً أبداً أن الإعلام والفن يقودان أو يصنعات الرأي العام.. بل ليس صحيحاً أبداً أن في مصر. وكل الدول العربية رأياً عاماً أو فكراً عاماً.. هناك انطباع عام. وهوي عام. وبطن عام. وفرج عام. لكن لا يوجد عقل جمعي عربي يمكن التعويل عليه أو قياس اتجاهاته.. وهذا الهوي والهوس العام أو الانفعال العام هو الذي يقود ويوجه الإعلام والفن بمنطق "الجمهور عايز كده".. ويمنطق المثل الشعبي المصري الشهير "طول عمرك يا ردة وانت كده".. و"الردة" هو الرديء. والإعلاميون ليسوا قادة رأي. كما توهمنا منذ درسنا الإعلام وبنينا صروح الأحلام في الجامعة.. فالإعلاميون طبقاً للإحصاءات الموثقة دولياً هم أقل فئات الشعب قراءة.. بل إن الكاتب ليس قارئاً علي الإطلاق.. وهناك عشرات الكُتَّاب لا يطيقون حتي إعادة قراءة مقالاتهم بعد نشرها.. وهناك عشرات الكُتَّاب لا يكتبون مقالاتهم بأنفسهم. وإنما يضعون توقيعهم علي ما كتبه لهم الآخرون.. تماماً كما يحدث الآن فيما سُمي ورش السيناريو. حيث يستعين السيناريست الشهير بكاتب سيناريو ناشئ يكتب له سيناريو العمل. ويضع النجم الشهير توقيعه عليه. ويحصل الناشئ علي الفُتات. ويُمني نفسه بشهرة في المستقبل قد لا تأتي أبداً. الإعلام والفن مقودان. وليسا قائدين.. وهما مُوجِّهان للطبقة الدافعة. وهي الآن طبقة الأغنياء الجدد ورجال الأعمال السفلية.. والفيلم الذي "يكسر الدنيا" في السينما لابد أن يكون سُبكياً رمضانياً بلطجياً. لأن اللصوص والبلطجية وتُجار ومُتعاطي المخدرات والمنحرفين هم سادة المشهد الآن.. والإعلام والفن يماشيان التيار ولا يسبحان ضده أبداً.. لذلك لا يقدِّم الإعلام أو الفن قيمة. وإنما يقدمان "قلة القيمة".. والإعلام والفن لا يمارسان أبداً تنوير العقول. ولكنهما يمارسان تدوير النفايات.. والإعلامي والفنان الناجحان لابد أن يكونا بلا فكر. ولا قيم. ولا مبادئ.. وإنما هما مقودان لثقافة البلطجة والانحراف.. وليس الجنيه المصري وحده الذي تعرض للتعويم.. فقد تعرضت للتعويم قبله كل القيم والأفكار والمبادئ والأخلاق.. وتم تعويم الحلال والحرام. وتعويم المناصب العليا لتتقلدها النطيحة والمتردية. والمنخنقة والموقوذة.. ولم يعد هناك شيء ثابت وقوي سوي القيمة المادية التي هي المحرك الأول والأخير لأفكار وسلوكيات الناس.. حتي الوطنية تعرضت للتعويم. وكذلك الخيانة والجاسوسية والعمالة.. وحمل العملاء والخونة أسماء براقة وألقاباً لامعة مثل الناشط والحقوقي والمفكر والمثقف والإعلامي والمجتمع المدني.. وترك الوطن لتقلبات السوق.. السوق هي التي تحدد إن كان هذا عملاً وطنياً أم عملاً لصالح الوطن.. السوق هي التي تحدد إن كانت تلك فضيلة أم أنها رذيلة.. التعويم طال كل شيء.. والسيولة والسيلان أصابا كل شيء.. وتُركت الأمور كلها للسوق والمستهلك.. فنحن ننتج إعلاماً وفناً وأخلاقاً. وسياسة. واقتصاداً. وأفكاراً. وثقافة.. بل وطباً. ومحاماة. وقانوناً. لمستهلك غبي لا يعنيه من أمر الدنيا إلا حاجات بطنه وفرجه.. والإعلام والفن وكل أدوات الثقافة والنخبة تجري وراء رغبات ونزوات الجمهور.. أو وراء ما تطلبه السوق.. والمزاج في السوق هو الذي يحدد تعريف المعاني.. وسائق التوك توك "بتاع عمرو الليثي" هو الذي يعطي دروساً في الوطنية والسياسة. و"يروح المثقفون الحقيقيون يقشَّروا بصل". والقضية الواحدة تُكَيِّفها السوق مرة علي أنها خيانة زوجية.. ومرة علي أنها حب شريف عفيف.. فالمرأة التي تقتل زوجها من أجل عشيقها.. بل وتقتل أولادها أيضاً.. هناك مَن يراها مجرمة. وهناك مَن يراها ضحية.. والقابض علي دينه وفضائله ومبادئه وأخلاقه في زمن التعويم. كالقابض علي الجمر.. والجمهور الغبي فقد الذوق.. لذلك يقدم له الإعلام والفن ما يُريده. لا ما يُفيده!!