* أسهل شيء علي الناس عندما يتحدثون عن مشكلة أن يقولوا إن الحل هو تغيير الحكومة. أو الحاكم. أو المدير الفني لفريق الكرة.. "الغازية لازم ترحل.. الغازية لازم تمشي".. "ارحل.. ارحل.. مش حنمشي.. هو يمشي".. والمرء في مصر يظل صديقاً للجميع حتي يتولي منصباً وزاري أو غير وزارياً.. وقبل أن يجلس علي الكرسي. يصبح نصف اصدقائه أعداءه وخصومه.. نصفهم علي الأقل.. "كدة وخلاص" لأن الناس عندنا يرون أن شَتم الوزير أو رئيس الوزراء أو حتي رئيس الدولة شجاعة وبطولة.. والناس يحكون لك بطولاتهم هذه بفخر وزهو ويقول لك الواحد منهم: "أنا هزأت ضابط الشرطة.. أنا مسحت بالمدير البلاط.. ولا همني.. ولا عرف ينطق بكلمة.. وكنت حاضربه".. وأنت تسمع وتبدي إعجابك: "برافو عليك.. أهو كده الرجولة ولا بلاش".. ولا يوجد في مصر من تعنيه قضايا عامة.. كل منا مهموم بشأنه الخاص.. وكل منا يعلق همومه الخاصة جداً علي شماعة الحكومة أو الحاكم.. وعندما ينتقد أي منا الحكومة يصدر قبل الهجوم عليها مشكلة خاصة "دي حكومة فاشلة وكذابة.. أنا رحت أشتري كيلو لحمة لقيته بمائة جنيه". الناس يرون أن السب والشتم وقلة الأدب علي ذوي المناصب حرية وشجاعة.. وكل منا يريد حكومة علي مقاسه. وعلي مزاجه هو لا علي مقاس أو مزاج الوطن.. وقد كان الدكتور حازم الببلاوي مثلاً من أعظم خبراء الاقتصاد والإدارة في رأي الجميع قبل أن يتولي رئاسة الحكومة.. أما الآن فإنه يتولي حكومة مرتعشة ومترددة. ومسنة وفاشلة "ولازم يمشي.. ليه؟!.. أهو كدة وخلاص".. ولو أن المصريين نزل عليهم كتاب من السماء أو كلمهم الموتي ما كانوا ليؤمنوا بما كفروا به. وكل ذي منصب يكون علي الزيرو مثل السيارة. ويقدر ثمنه بمليون جنيه.. وبمجرد أن يتولي المنصب "يخس النُص" فوراً.. لأنه يصبح في عرف الناس سيارة مستعملة.. يعني أنت في نظر الناس فاشل مقدماً قبل أن تتولي المنصب.. يسبقك فشلك إلي الكرسي.. والأمر لا يتوقف عند الفشل. فأنت أيضاً فاسد وحرامي مسبقاً. قبل أن تصل إلي الكرسي.. وعلاقة المصريين السيئة بالحاكم أو بالحكومة إرث مملوكي. ظل معنا إلي اليوم. وسيبقي إلي الأبد.. هناك دائماً توجس من ذوي المناصب. وهناك شك في ضمائرهم وذممهم المالية.. وفي أخلاقهم.. وربما هو إرث عربي قديم قبل المماليك.. وهذا يتضح من قول مأثور لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه . حيث قال للمغيرة بن شعبة: "من ينصفني من أهل الكوفة؟!.. إذا وليت عليهم القوي فجروه "أي اعتبروه فاجراً".. وإذا وليت عليهم التقي ضعفوه "أي اعتبروه ضعيفاً". وقد أقر سيدنا عمر رضي الله عنه ولاية القوي الفاجر. وفضلها علي ولاية التقي الضعيف. عملاً برأي المغيرة بن شعبة. الذي قال له: إن القوي الفاجر قوته لك. وفجوره عليه.. والتقي الضعيف.. تقواه له.. وضعفه عليك.. وقد قيل في مأثورات العرب: خير للرعية أن يكون السلطان نسراً حوله الجيف. من أن يكون جيفة حولها النسور.. وقد قال رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.. وقد فهم الناس عندنا هذا الحديث خطأ.. فقد فهموا أن قلة الأدب كلمة حق عند سلطان جائر.. ويرون أن السلطان جائر لمجرد أنه سلطان. حتي ولو لم يرتكب أفعال الجور والظلم. ولم يحدث أن قال أي إعلامي أو محلل كلمة حق عند الرعية الجائرة.. فالرعية الآن في مصر هي السلطان الجائر. وهي الحاكم الظالم.. أما الحاكم أو الحكومة أو ذوو المناصب فهم بلا حول ولا قوة.. هم جيف حولها رعية من النسور.. الحاكم أو الحكوم أو ذوو المناصب هم الفريسة. والرعية هي الصياد.. وهو إرث عربي علي ما يبدو. إذ قيل في المأثورات: إذا رضي نصف الرعية عن السلطان فهو عادل. وستبقي مصر طويلاً جداً منذ ابتليت بوكسة يناير علي رمال متحركة. فلن يعيش لها رئيس ولا برلمان ولا حكومة. ولا ذو منصب "أي حد ممكن يتشال بوقفة احتجاجية أو مظاهرة أو اعتصام". أو بلعبة سحب الثقة. أو بدعوي قضائية.. فقد أعجبتنا لعبة "هو يمشي.. مش حنمشي".. وقد صار الحاكم أو الحكومة أو ذو المنصب أضعف حلقة في السلسلة.. وصاحب المنصب لديه هم كبير هو أنه لابد أن يرضي جميع الأطراف أو "يمشي".. وهو بالتأكيد لن يرضي جميع الأطراف. لذلك يلجأ إلي وسيلة أخري تبقيه في موقعه. وهي إرضاء الأعلي صوتاً والأقل أدباً. والأكثر بلطجة.. والناس عرفوا منذ وكسة يناير أن البلطجة وقلة الأدب وسوء الخلق هي التي تكسب.. تماماً كما كان يفعل الخلفاء والولاة منذ قيام الدولة الأموية. حيث كانوا يقربون شعراء الهجاء. ويشترون ألسنتهم بأموال طائلة.. وكان سعر شاعر الهجاء أغلي من سعر شاعر المدح.. وهو ما تفعله الحكومات عندنا الآن. ويفعله كل ذوي المناصب.. فهم يسعون لشراء سكوت المعارضة بالمغانم والطبطبة. ولا يسعون لشراء كلام الموالاة والمؤيدين.. سكوت المعارضين أغلي ألف مرة من كلام المؤيدين.. لأن شعبية المعارضة بالباطل أضعاف شعبية الموالاة بالحق.. ولأن الناس يحبون أن يستمعوا لمن يشكو.. ولا يحبون أن يستمعوا لمن يشكر.. فالشاكي شجاع. والشاكر منافق.. المعارض جريء. والموافق منافق. * * * * * والمعارضة تجلب إعلانات أكثر. وقراء ومشاهدين أكثر. خصوصاً إذا كانت بالباطل. والكذب والبُهتان.. أما الموالاة ولو كانت بالحق. فإن الناس والمعلنين ينصرفون عنها.. والناس عندنا يحبون أن يقرأوا ويسمعوا أحكام الإدانة والمؤبد والإعدام.. ولو كانت ظالمة.. ويهتفون بحياة العدل إذا أدان.. ويكرهون أحكام البراءة. ويرون فيها "كوسة وتطبيخاً للقضية". الناس في مصر موتورون.. وقلوبهم سوداء. ويتحركون بطاقة الكراهية. لا بطاقة ووقود العدل والحق.. ونحن في مصر نفخر بأن وكسة يناير كسرت لدينا حاجز الخوف.. وهذا حق. ولكنه أسوأ ما نَجَم عن وكسة يناير.. والشعب الذي يكسر حاجز الخوف "عليه السلام".. كسرنا حاجز الخوف من الله. ومن القانون. ومن الشرطة. ومن الجيش. ومن الحاكم.. فانفلتنا وتحولنا إلي بلطجية.. وأسوأ البلطجية في مصر الآن هم البلطجية المثقفون. والإعلاميون والسياسيون. والقانونيون والأساتذة الجامعيون.. مصر فيها بلطجية مؤهلات.. فيها بلطجية حتي باسم الدين وهم الطامة الكبري والحالقة.. مصر فيها بلطجية حملة ماجستير ودكتوراة. وقد شغلنا أنفسنا طويلاً بقضية تافهة سميناها محو الأمية "وياريت أمية القراءة والكتابة دامت"!!!... فالجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب رحمة. ويسهل إقناعه. أو التأثير عليه. وتسهل قيادته.. بينما النظام التعليمي "اللي عايز النسف" في مصر هو الذي ينبغي أن نقضي عليه لأنه ملأ البلد بالجَهَلة المركبين.. فجاهل القراءة والكتابة يعلم أنه جاهل.. أما جاهل الماجستير والدكتوراة. والسياسة والقانون. والإعلام. والطب والهندسة. الذي أفرزه نظامنا التعليمي الكارثي. فهو الجاهل المركب. الذي يجهل أنه جاهل.. وهذا النوع انتشر فينا كالنار في الهشيم.. وهو النوع الذي تأخذه العزة بالإثم. والجهل والحماقة. والغباء.. هذا النوع يملأ الصحف والفضائيات. والنقابات وساحات المحاكم. والمستشفيات.. منتهي الضحالة والبلطجة والحماقة والغباء.. والطريق إلي أدمغة هؤلاء مسدود تماماً.. فهم يعتلون المنابر. وهم يؤمون المصلين. وهم يتصدون للفتوي. ويقطعون الطرق. ويأتون في أنديتهم المنكر باسم الدين أو السياسة.. وهم يتاجرون في الدين والسياسة والقانون. والإعلام والطب. وهذا الورم السرطاني.. سرطان أبوالعريف انتشر في جسد الوطن من المدينة إلي الصحراء. إلي الريف.. كل الناس في بلدي "أبوالعريف". الذي يمارس رذيلة التهريف والتخريف علي أنها ثقافة.. الناس في غيبوبة وهم يظنون أنهم في منتهي الوعي.. وأبوالعريف الجاهل المركب. هو المسئول عن هذه المكلمة التي لا نهاية لها.. والمصري لا يكاد يسكت ولا يريد أن ينقطنا" بسكوته. ولكنه أصابنا بنقطة من خلال كلامه.. والمصريون ثرثارون جداً. ولا يسكتون إلا إذا ماتوا.. فهم يتكلمون حتي وهم نائمون.. وأنت لا تستطيع أن تكمل كلامك أبداً. لأن مليون أبي العريف يقاطعونك ويكملون لك الحكاية. "آه.. ما أنا عارف.. آه.. ما أنا فاهم". وثقافة المصريين ثقافة زحام.. ثقافة موالد.. لذلك لا نعرف الصوت الخفيض.. لذلك "نلهوج" ونخطف ونجري حتي في الكلام والأفكار.. لذلك نتلفت كثيراً. ونحن نتكلم.. لذلك يقاطع بعضنا بعضاً.. والكل يتكلم. ولا أحد يسمع أننا أبناء زحام وأسواق. وموالد.. ولأننا أبناء أسواق وزحام وموالد فإننا لا نركز ولا نتأمل ولا نعيد النظر. ولا نهدأ ونفكر ونتكلم بالنقل لا بالعقل.. وكل أدمغتنا قائمة علي الشخصنة والذاتية لا علي الفكرة. أو القضية. أو الموضوع.. والذي قال إن الإخوان أو أي تيار إسلامي. هو الأكثر تنظيماً لا يكاد يفقه حديثاً.. لأن أغبي الناس قادر علي حشد الجماهير حوله باسم الدين.. ولأن الدين عندنا أشخاص لا عقيدة.. فهذا الشيخ مبروك.. والمرشد ظل الله علي الأرض.. والسلفي بتاع ربنا.. وأي انتقاد لهؤلاء تطاول علي الدين نفسه.. تماماً مثل خوفنا من تكذيب الدجال أو الشك فيه "سيبه. ده راجل مبروك.. بلاش تتكلم عنه كده ليسخطك قرد".. وهناك فُساق وفجرة ولصوص. بنينا لهم مقامات في مصر بعد أن ماتوا وصاروا أولياء صالحين. وأي كلمة ضدهم تعتبر كلمة كفر.. والتجارة بالدين لا تحشد الناس خلف الأحياء فقط.. بل تحشدهم أيضاً خلف الأموات.. الأموات يحكمون الأحياء باسم الدين. * * * * * وثقافة الزحام والسويقة. والموالد. أتاحت الفرصة للصوص العقول. ونشالي الأدمغة. ليعملوا براحتهم. "من غير ما ناخد بالنا".. فنحن مسروقون باسم الدين والسياسة.. ونحن في الزحام لا نسير خلف فكرة. وإنما خلف شخص نأتمر بأمره. ونسمع له ونطيع.. نحن في الزحام لابد لنا من مرشد ونائب مرشد. وأمير جماعة حتي نتبين الطريق. حتي إذا كان هؤلاء نصابين وجهلة.. لابد لنا من مرشد في الدين والسياسة والإعلام. ولو كان لصاً أو شيطاناً يهدينا إلي النار.. والباطل في الزحام أكثر رواجاً.. والغث في الموالد هو السائد.. والنصابون في الموالد والأسواق هم سادة وقادة المشهد.. وفي الموالد والأسواب لابد من "التيه".. والمشهد يتغير كل لحظة. فالذي كان يماشيك ويحاورك "تبص تلاقيه تاه منك. وتكتشف أنك ماشي مع حد تاني وبتكلمه".. وفي الموالد والأسواق تسود ثقافة الطابور. أو القطيع "أنت ماشي في الزحمة ورا الناس. ومش عارف رايح فين.. المهم أنك تابع لقطيع ولست وحدك".. وفي الموالد والأسواق والزحام لا توجد حكومة ولا حاكم. وإذا وجدت حكومة فهي "زي قلتها".. ولا توجد قواعد ولا معايير. ولا يوجد سامعون.. ولا يوجد جمهور يتابع الراقصة أو المغني.. وهناك صراع علي خطف الأضواء وسرقة الكاميرا.. وأي تقسيم لأي فكرة أو قضية باطل في الأسواق.. وكل بضائع الزحام والموالد مغشوشة. ومضروبة.. ومع ذلك نستهلكها.. ونقبل عليها.. وكل الناس في الموالد والسويقات "أبوالعريف" الذي انتشر كالسرطان في المدينة والريف!!! نظرة * ثقافة الببغاوات هي السائدة في مصر.. أنا مصمم علي أقوالي.. فنحن نتناقل المصطلحات بلا وعي ولا فهم.. كأن ينتشر بيننا مصطلح "أيادي الحكومة مرتعشة".. الكثيرون لا يفهمون معني المصطلح.. ولكنهم يرددونه "هو عاجبهم".. ولا يقدم لك أحد أي أمارة علي أن الحكومة مصابة بالشلل الرعاش.. وخذ من هذا الكثير.. مثل الشرعية.. وأول رئيس مدني منتخب.. والناس في مصر "غاويين مناكفة".. في لجنة الدستور مناكفة.. وفي اتحاد العمال مناكفة.. وفي الأحزاب والحركات مناكفة.. وفي الإعلام والصحافة مناكفة.. "حاجة تقرف".. ومهمة كل مناكف "أنه يطلع القُطط الفاطسة" في أي شيء.. يخالف ويناكف ليصبح نجماً.. لأن الموافق لا يحقق النجومية.. وقانون التظاهر أيضاً يتعرض للمناكفة.. وجماعة الإخوان والتيار الإسلامي عموماً هما اللذان ابتدعا المناكفة.. و"التماحيك". ولَيّ الألسنة بالكتاب لتحسبه من الكتاب. وما هو من الكتاب.. "واحنا زهقنا".. والمفروض أن "وقت الهزار خلص".. والوطن لم يعد يتحمل المزيد.. و"اللي يقطع الطريق لازم يتقطع لسانه. ونخليه يقطع الخلف"!!!