تختلف الجنسيات والأماكن والبلاد وأسماء البطلات ولكن المحنة تكاد تكون واحدة برغم اختلاف التفاصيل. وحتي هذه الأخيرة - التفاصيل- قد تتطابق أحيانا وتصل إلي نتيجة واحدة: فالمرأة هي المرأة. المخلوق الأقوي سواء كانت مصرية أو من جورجيا في منطقة القوفاز أو اسبانية في بلاد الأندلس! تتقارب الأعمار والظروف والمعاناة وتبقي المرأة داخل بيئتها تكافح وتدفع فواتير البقاء والطفو علي السطح تجنبا للغرق. "نواره" في الفيلم المصري. و "روسيو" في الأسباني "الغذاء والمأوي" و "آنا" في الفيلم الجورجي "حياة آنا".شاهدنا في القاهرة والإسكندرية العملين الأولين. والثالث "حياة آنا" سوف نراه من خلال المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي يبدأ دورته الثامنة والثلاثين في نوفمبر الحالي. الأعمال الثلاثة حاصلة علي جوائز في مهرجانات دولية. والبطلات الثلاث اللاتي لعبن الأدوار الرئيسية يتشابهن ويلفتن النظر بالفعل. يعيش داخل مجتمعات مأزومة اقتصادياً واجتماعياً وكل واحدة منهن و"نوارة" بصفة خاصة تعاني من تداعيات مجتمع يغرق في خضم فوارق طبقية حادة تشقه وتهدد تماسكه. شرائح تنعم في تخمة مادية وتعاني في نفس الوقت من أنيميا أخلاقية حادة وأخري تمثل الاغلبية تعيش علي الكفاف وبدورها تعاني من انهيارات حادة في منظومة القيم. هذه الأجواء الفاقدة للاستقرار النفسي وغياب أشياء الحياة الضرورية مثل "المأكل والمأوي" تعاني منها البطلات الثلاث رغم بعد المسافة واختلاف الجنسية والديانة وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه.. وبرغم أي شيء فإن الكفاح اليومي الذي تعيشه "نواره" المصرية الخادمة في بيوت الأثرياء يبدو في الواقع أقل قسوة برغم النهاية التي افتعلتها المؤلفة مخرجة الفيلم هالة خليل من أجل تكريس فكرة الظلم الاجتماعي وتداعيات التركيبة الطبقية الوحشية وابراز الفاتورة الباهظة التي تتحملها الطبقات الأضعف قليلة الحيلة أمام فظاظة الطبقة الأقدر الميسورة والمسنودة بالقانون والسلطة والنفوذ غير المسئول. عموما "الواقع" بتداعياته المؤلمة يقع علي كاهل النساء واكثر ايلاما في المجتمعات الاوروبية الرأسمالية. فمن المؤكد أن "نوارة" برغم كل الظروف الصعبة والواقعية التي صورتها هالة خليل تواجه الأحمال الاجتماعية الضاغطة التي تواجهها إمرأة مثل "روسيو" الأم الشابة التي يهددها صاحب البيت ويشردها والتي يعاني إبنها الصغير "ادريان" من أمراض سوء التغذية. وتعاني هي نفسها من الهزال والوهن لنفس الأسباب حتي اضطرت إلي البحث في صناديق الزبالة عن بقايا طعام وإلي سرقة الصابون من حمام جارتها العطوفة وتحمل وخزات الضمير والشعور بالذنب والأكثر ايلاما إنها استماتت في البحث عن وظيفة توفر الحدود الدنيا لها ولابنها الصبي الصغير دون فائدة. وكذلك جربت اللجوء إلي مؤسسات الخدمة الاجتماعية من دون مجيب يرحمها من الطرد والحرمان من "المأوي" وفي النهاية نراها في الشارع الطويل وظهرها للكاميرا تصحب ابنها إلي المجهول. ومثل هذه الحالة نفسها تواجهها "آنا" في جورجيا الأم الشابة وابنها الصغير الذي يعاني من مرض التوحد. وتعاني هي شخصيا من الوحدة والعجز الكلي عن توفير الأكل والمأوي. والحصول علي وظيفة برغم المرور علي عدة وظائف صغيرة مؤقتة لا تغني ولا تشبع من جوع وذلك برغم الحيل التي لجأت اليها حتي فكرت في الهجرة إلي أمريكا. ولكن كيف لها أن تحقق ما فكرت فيه ودونه أمور عملية معجزة لا تقوي عليها فاضطرت أن تبيع "المأوي" لتحقيق حلم الهجرة ولكن لسوء الأحوال الاقتصادية وغياب الأمان تلتقي بمن ينصب عليها ويسطو علي ثمن البيت الذي كان يؤويها علي أمل الحصول علي "فيزا" لأمريكا وتذكرة لها ولإبنها المريض. وفي النهاية تضطر إلي خطف إبنته النصاب وتهديده ومع ذلك تفشل في استعادة أموالها. وتضطر أن تبقي داخل بلدها وفي النهاية تنخرط داخل مظاهرة سياسية لعل وعسي. النهاية مفاجأة وكان المخرجة- المؤلفة "نينو باسيليا" لم تجد حلا لبطلتها المأزومة بلا "طعام وبلا مأوي" الا بالتلاحم مع الجماهير المطالبة بالتغيير! الأفلام الثلاثة تعالج أوضاعا اجتماعية مأزومة ومحاصرة اقتصادية تدفع المرأة من الشرائح غير المحظوظة تبعاتها وتتحمل فاتورتها مخصومة من راحتها النفسية واستقرارها الأسري ومن نصيب أبنائها من العيش والعلاج والتعليم. والأفلام الثلاثة ومنهم عملان من تأليف وإخراج نساء تتعامل مع معطيات الواقع المادي من دون تزييف ولا مساومات ولا افتعال نهايات اللهم فيلم "نوارة" التي أري أن نهايته تتسق مع رؤية المخرجة حول ما تراه مجتمعا بوليسياً استبدادياً علما بأن الواقع الاقتصادي الاجتماعي باثقاله يلوح بنهاية اكثر واقعية واتساقا مع معطيات الفيلم فليس هناك ما هو اكثر قسوة من الفقر وغياب "المأوي والطعام". والمرأة العاملة في البيوت الثرية المصرية داخل المجتمعات السكنية للمحظوظين لا تواجه بشاعة العوز كما في المجتمعات الأوروبية الرأسمالية. خصوصا أن "البطلة" في الفيلم الأسباني ونظيرتها في الفيلم الجورجي لا تنتميان إلي طبقة "الخادمات" لأنه حتي هؤلاء في المجتمع الأوروبي يعملن بالساعة وبمقابل معقول وفي ظروف ربما أقل قسوة من الطبقات العاملة الصغيرة داخل المحلات والمؤسسات والخ. ما يلفت النظر ويسترعي التدقيق هو اسلوب المعالجة الواقعية التي تمتاز بالمصداقية واختيار التفاصيل التي تخدم البطلات والقضية الرئيسية. وفي الأفلام الثلاثة نتوقف أمام نماذج النساء التي لعبتها كل من منة شلبي في "نواره" وناتاليا دي مولينا في الفيلم الاسباني "الغذاء والمأوي" وايكاترين ديمتراز في فيلم "حياة آنا" البطلات الثلاث حاصلات علي جوائز وعن جدارة. ومن الصعب اختيار الأكثر اقناعا منهن. لأن كل واحدة من الممثلات الثلاث تشبعت بظروف الشخصية التي تؤديها. ودرست ودققت في مستويات الانفعالات ودرجات حرارة المشاعر التي يظهرها من خلال ملامح الوجه ولغة التعبير المحسوسة والمرئية التي تكشف عنها في المواقف المختلفة صعودا وهبوطا وايجابا وسلبا من دون مبالغة. والموضوعات الواقعية المحلية المعاشة والمعروفة بالنسبة لغالبية الناس يمكن ان تكون مادة لأفلام ليست عادية وتجد قبولاً في المحافل الدولية لأنها تتجاوز في تأثيرها الأخير مجرد التسلية والهروب اللحظي إلي التحريض وإنارة الوعي وخلق جسور المعرفة والتعاطف بين المجتمع الانساني وشعوبه فوق كوكب الأرض حيث المسافات تضيق والمشكلات الحياتية تتشابه ودور المرأة الأم والإنسانة الفاعلة في أمور الحياة والقادرة علي العطاء حتي وهي تواجه أزمات ليست من صنعها.. فالمرأة هي المرأة هنا وهناك وفي أقاصي الأرض.. قدرها أن تكون المركز والفاعل والمفعول به في آن واحد.