بكلمات مريرة أخذ يستعرض لي مشوار حياته وكيف غلبت فيه روح اليأس والانكسار علي روح التفاؤل والإقدام؟! بدأ م.م.ع من القليوبية يتحدث بصوت واهن حزين وهو ينعي أيام الطفولة والصبا التي رغم شظف العيش فيها كانت كلها دفئاًَ وعطفا وتراحما ثم مضي يقول: نشأت في أسرة رقيقة الحال تقطن بحي شبرا بالقاهرة.. هذا الحي الذي كم تمنيت من الله أن تدوم إقامتي فيه لأجد من يقف بجابني وقت الشدة والضيق.. ومن يصبر علي ظروفي إن استدعت الحاجة وما أكثرها للاستدانة من هذا أو ذاك لكنني اضطررت بعد الزواج لمغادرة شبرا وأهلها الطيبين لأقيم في شقة بإحدي العشوائيات التي تتسم فيها علاقات الناس بالجفاء والقسوة فالجار لا يعرف جاره وصاحب البيت لن يلتمس لك عذراً إن تأخرت في سداد الإيجار بل لن يتورع عن الحجز علي منقولاتك ضماناً لحقه وطردك من المكان أنت وزوجك وابنك الشاب!!!.. وهذا ما تعرضت له وأسرتي في السنوات الثلاث الأخيرة وأنا الذي شارفت علي الستين من عمري وراحت صحتي بفعل الأيام والسنين.. ففي بدايات حياتي عملت بمصانع الرخام لأكثر من سبعة أعوام ونتيجة لاستنشاق الغبار المستمر أصبت بتليف بإحدي الرئتين فبحثت عن عمل آخر بعيداً عن الأتربة الضارة. يواصل : اشتغلت عاملاً بكافيتريا وتحملت في سبيل ما ورائي من مسئوليات كزوج وأب لثلاثة أبناء بمراحل التعليم.. تحملت علي مدي 12 سنة مرارة الوقوف لساعات طويلة وما ترتب عليه من متاعب شديدة بالفقرات وخشونة بالركبة اليمني وتحت وطأة الآلام المبرحة دخلت المستشفي عشرات المرات منها مرات تم فيها تجهيزي للعمليات بالفعل لكنني مع خوفي آنذاك من جراحات الغضروف ونتائجها غير المطمئنة كنت أرفض إجراء العملية واكتفي بما يقررونه لي من مسكنات ومراهم موضعية حتي أواصل الكفاح علي لقمة العيش وتعليم أولادي الذين كم كانت سعادتي بوصول ابنتي الكبري إلي الجامعة لكن مع ضيق ذات اليد لم تكمل مشوارها الجامعي وتوقفت عند السنة الثالثة.. أما ابنتي الثانية فلم تواصل دراستها الثانوية لنفس الظروف حيث اضطراب أحوالي الصحية والمادية. يضيف صاحب الصوت الحزين.. هذا بالنسبة للبنتين أما الولد فلم يلتحق بالمدرسة سوي عام واحد لأسباب مختلفة تماماً عما ذكرته سابقاً وهي إصرار أقرانه بالمدرسة علي السخرية منه لمجرد أنه يعاني من ثأثأة غير ملحوظة عند الكلام.. سخافات أدت به إلي تمزيق كل شيء له صلة بالمدرسة من كتب وكراسات بما فيها "المريلة".. مزقها!!! ليذهب حلمي في تعليمه أدراج الرياح واتجت إلي تركيز كل جهودي نحوه حتي يتعافي من آثار المرض النفسي الذي ظل يصاحبه بعض الوقت ولم يبرأ منها إلا بعد اتجاهه لمزاولة كرة القدم ضمن فريق الأشبال لكن لم أستطع ملاحقة نفقات تدريبه بالنادي أمام الأولويات التي يصعب إرجاؤها حيث كان أمامي ضرورة إتمام نفقات زواج ابنتيَّ اللتين طالت فترة خطبتهما لسنوات نتيجة أيضا تدهوري صحتي وقلة الدخل مما دفعني للاستدانة حتي تراكم عليّ إيجار الشقة وفواتير الكهرباء لأكثر من ثلاث سنوات.. وكلما استجمعت قواي لأستأنف عملي هنا وهناك تفاجئني آلام الظهر المبرحة فأدخل المستشفي من جديد.. ثم أخرج.. وهكذا حتي ضاق بي صاحب البيت لعجزي عن سداد الإيجار والكهرباء وضماناً لحقه قام بالحجز علي منقولاتي وطردني وزوجتي وولدنا الشاب ليصبح كل منا يقيم في مكان بعيد عن الآخر.. فأم أولادي سافرت لأهلها بالمنوفية.. وابني يبيت معظم الأيام مع أصدقائه.. وأنا مثله!! يُنهي الأب الحزين مكالمته معي قائلاً: حقيقة لا أدري كيف أخرج من هذه الأزمة الطاحنة ويعود شمل أسرتي من جديد؟.. إنني أبكي علي ذهاب الصحة وجفاء الحياة في العشوائيات.. أبكي أيام شبرا التي لم تشعرني يوماً انه ينقصني شيء.. وأبحث الآن عن اليد الكريمة العطوفة التي تسد عني جزءاً من إيجار الشقة وفواتير الكهرباء.. فهل أجدها عبر نافذتكم؟! المحررة : كم تعددت كلمة "لكن" الاستطرادية في حديثك معي فما أن تقطع خطوة في حياتك حتي تظهر كلمة "لكن" لتربك حساباتك وتهدر حلماً غالياً من أحلامك فلم تسعد بتخرج ابنتك من الجامعة أو بحصول شقيقتها علي الثانوية بسبب ضيق ذات اليد وحين شمرت ساعديك من أجل تعليم ابنك الصغير واجهتك عاصفة غياب الوعي المجتمعي بكيفية التعامل مع أصحاب الظروف الخاصة مع أن "ولدك" لم يكن يعاني من إعاقة ملحوظة بل مجرد "ثأثأة" في الكلام ومع ذلك لم يسلم من سخرية زملائه بالمدرسة حتي تكونت لديه عقدة نفسية من الذهاب إليها دفعته لتمزيق كل شيء يذكره بها!! وحين حاولت تعويضه عما أصابه بمزاولة لعبة من اللعبات ظهرت "لكن" من جديد فزواج شقيقتيه كان الأهم وهما اللتان دفعتا فاتورة الظروف كاملة من طموحهما الدراسي والاجتماعي!!.. وفي كل مرة تحاول استئناف نشاطك في السعي والعمل تخذلك صحتك. وإذا كنت تبكي أيام شبرا الجميلة وتنعي اليوم الذي غادرتها فيه للعشوائيات حيث غياب الجار الإنسان والمعين.. فإنني أري أن العشوائيات ليست وحدها المسئولة عما أنت فيه بدليل أن صاحب البيت صبر عليك ثلاث سنوات من أجل الوفاء بما عليك من إيجار وفواتير كهرباء وهو في النهاية لم يطالب سوي بحقه.. أما المسئولية الحقيقية فتقع علي أولئك الذين لم يوفروا لك الأمان الصحي أثناء عملك بالرخام.. ولم يرحموك من ساعات الوقوف الطويلة في المطاعم والكافيتريات.. وها هو نداؤك لأهل المروءة والعطاء لا تتخلوا عن الأب الحزين وأعيدوا البسمة التي توارت تحت وطأة الآلام الصحية وضيق ذات اليد.