كان عباس محمود العقاد "المفكر والكاتب والأديب والشاعر" عندما يقرأ كتابا يقول: "إنني أضفت إلي عمري عمرا آخر.. حياتي وتجاربي الشخصية وحياة وتجارب صاحب الكتاب الذي أقرؤه". فإذا كان الكتاب الذي تقرؤه يضم تجارب شتي وأفكارا متعددة وحكايات تخرج منها بمواعظ وعبر.. وفلسفة "غير مقصودة" ولكنها تتسلل إلي نفسك فتشعرك بسعادة غامرة إلي جانب أسلوب صحفي غاية في الرشاقة والرقة والعذوبة والوصول إلي الهدف من أقصر الطرق. فلا شك أن ذلك سيجعلك تنتشي وتعرف تاريخ مهنة هي من أشق المهن وأعذبها في نفس الوقت. فتعيش حياة مضاعفة وتصبح تجاربك لا شواطيء تحدها ولا حدود تقف عندها. هذا ما خرجت به من قراءة كتاب "الصحافة والحكم" لكاتبنا الكبير والعظيم وأستاذ اجيال متدرجة ومتنامية في مهنة صاحبة الجلالة انه الفارس صاحب القلم المشرَّع الاستاذ محمد العزبي. عاصرته زميلا وصديقا ورئيسا في العمل منذ عام 1963. فكنت أشعر باستاذيته وهو ما زال في مقتبل العمر.. خلوقا مهذبا لا يتعامل بفوقية مع الآخرين رغم غرور المنصب وهو في هذه السن.. يحضر إلينا في "ديسك" الجمهورية ونحن نختار "مانشيت" الجريدة.. ويدلي كل منا بدلوه. ثم يختار لنا "مانشيتا" فيكون قوله هو الفصل. اخترت أن أبدأ هذا المقال بنقل مشاعر الاستاذ العزبي عن تجربته في صحيفة "الجمهورية" تحت عنوان "30 سنة من الشغل اللذيذ" قال: عشت في "الجمهورية" كل أيامي وسنين عمري عاشقا لمبناها القديم.. فلما انتقلت إلي المبني الكبير في شارع رمسيس لم أجد لي فيه مكانا لائقا فأرحت واسترحت. وأصبحت أكتب بالفاكس. وأتواصل بالتليفون. وانفعل بأخبارها عن بعد. فالجريدة صورة من مصر صعودا وهبوطا.. قلقاً وأملاً. تنحاز للبسطاء.. ولا تتغير مهما توافد عليها من رؤساء تحرير حتي ولو كانوا ليسوا منا. أدين لها بالفضل.. وأغار عليها.. أحبها مهما جري منها.. تعلمت فيها ومنها كل شيء فقد كانت وأرجو أن تبقي.. جامعة حرة تلتقي فيها كل الأجيال. كنا أسرة واحدة يتنافس أبناؤها ولا يختلفون.. يجتمعون علي نصرة البسطاء والوقوف إلي جانب الشعب.. حتي ولو غضب الحكام. تغيرت النظم وتبدل الرؤساء. وبقيت "الجمهورية" مثلما بدأت. واختار مواقفها محرروها دون اتفاق. يكاد كل أدباء مصر ومفكروها قد مروا بها ورأوها منبرا وطنيا يتيح للجميع أن يبدعوا.. ويكاد معظم الصحفيين قد بدأوا عملهم في "الجمهورية" قبل أن ينطلقوا مغردين في بلاط صاحبة الجلالة. لا أصدق أنها تعدت سن الستين. وأري في عيون البعض وقلوبهم نيات احالتها وسائر الصحف القومية إلي المعاش أو يتركونها تغرق في ديونها التي لا ذنب لأهل الدار فيها. ليس هذا مجال الذكريات والحواديت. أو دعوة للنصح والارشاد. أو الشكوي والانتقاد.. انما هي دعوة للمواجهة بالحب والاتحاد.. فنحن في زمن صعب. أحسب أن هناك كثيرين يتربصون بنا. اقصد بشعبنا. وكل سنة ونحن جميعا بخير. وعقبال مائة سنة كما يقولون.. فيصبح أصغر محرر شيخا مثلي. بل ليس مثلي. أرجو أن يحتفظ بشبابه وحماسته وثوريته. هذا الجزء الذي بدأ به كاتبنا الكبير الاستاذ محمد العزبي أولي ذكرياته عن نشأة جريدة "الجمهورية" خلته لا يتحدث عن نفسه فقط.. بل يتحدث نيابة عني وعن أقراني ممن عايشوا صحيفة "الجمهورية" بعد انطلاقها بعدة سنوات.. اهتزت مشاعري مع كل كلمة وعبارة ذكرها.. وتداعي إلي ذاكرتي اساتذة عظام علمونا دون تعالي علينا منهم من رحل عن عالمنا لا ننساه وسنظل نذكره بالحب ما حيينا.. ومنهم من زال يهدي دربنا بمصباح الهدي والنور يعطي الأمل لكل الأجيال الحاضرة والقادمة لبناء مصر العزيزة الابية امثال استاذنا محمد العزبي اطال الله في عمره ومتعه بموفور الصحة. دعوني أصر علي أن أقرن اسمه بلقب "الاستاذ" فالاستاذية لا تعني فارقا في السن وانما تعني العظمة والموهبة والقدرة علي نقل الخبرات والتجارب للآخرين.. فأنا وهو متقاربان في السن ولكنه سيظل الأستاذ لنا جميعا. ولو كنت عميدا لكلية الإعلام لاخترت كتاب "الصحافة والحكم" ووضعته ضمن منهاج الدراسة في الكلية لتستفيد منه الاجيال الحالية والقادمة.. ففيه تاريخ المهنة.. وفيه السياسة.. وكواليس واسرار الحكام.. إلي جانب اسلوب ادبي وصحفي رشيق وممتع. وإلي لقاء مع مقالات أخري عن كتاب الصحافة والحكم في أعداد قادمة إن شاء الله.