بحكمة وحنكة وبأسلوب السهل الممتنع.. اجتذبنا الكاتب الصحفي الكبير محمد العزبي إلي رحلة ممتعة دارت فصولها خلال حقبة من الزمن رغم أنها كانت مليئة بالاشواك لكنها لذيذة في نفس الوقت. ومما يزيد متعة القارئ لهذه القضية متشابكة الأطراف ان الاستاذ العزبي يتميز بسلاسة العبارات ينقلك من موقعة إلي أخري في هدوء وحبكة فنية حباه الله بهذه الموهبة يبدو ان النشأة الأولي للكاتب الكبير اغترف منها الكثير حين فضل مهنة البحث عن المتاعب علي مهمة الطبيب. فقد كانت السماحة وسعة الصدر وطيب التعامل من أجمل الصفات التي تحلي بها ويدرك ذلك عن قرب كل من تعامل معه. وقد استمتعت كثيرا بهذه الهدية من الاستاذ الكبير. لقد طاف بنا الاستاذ العزبي في كتابه الثاني "الصحافة والحكم" في مواطن كثيرة عايشها بنفسه وخاض تجاربها عن قرب وخلال متابعتك للسطور تشعر أنك تمضي إلي خبيئة مليئة بالأسرار والخفايا وذلك علي حد تعبير الصديق العزيز مجاهد خلف خلال قراءة متأنية لهذا الكتاب الشيق.. ومما يضفي علي هذا المؤلف الكثير من الاشراق ان الاستاذ العزبي يلمس اوتارا تداعب مشاعرك فتزداد اصرارا علي قراءة فصول هذا الكتاب.. تنتقل من فصل إلي آخر فتشعر بمتعة أكثر تشدك لأن تكمل القراءة لكي تتعرف علي مدي المتاعب التي أحاطت برجالات صاحبة الجلالة. معارك وحوارات حول كيفية التعامل بين رؤساء التحرير والكتاب والمحررين. كما يستعرض تاريخ الصحافة القومية وكيف أنها اصبحت ملكا للاتحاد القومي.. يفتح شهيتك بكل هدوء عندما يذكر بحبكة فنية أسباب هذا القرار مرة يقال ان كاريكاتير غلاف روزاليوسف الذي ابدعه الفنان حجازي عن فتاة دلوعة تفتح دولاب غرفة نومها فتري رجالا في كامل ملابسهم علي شماعة تختار منهم من يصاحبها في الذهاب إلي النادي أو ان السبب المانشيت الشهير لجريدة الاخبار حيث جاء في السطر الأول مصرع السفاح والسطر الثاني عبدالناصر في باكستان. ولا يخفي مدي اللبس والاثار التي اعقبت هذا المانشيت ومرة ثالثة يقال ان السبب مقال أحمد أبوالفتح في صحيفته "المصري".. يسرد تلك المبررات في عبارات خاطفة ومشوقة وناهيك عن عبارة المعتقلات إصلاح وتهذيب فصول متتابعة ونقلة ممتعة إلي أخري أكثر متعة يسترعي انتباهك ذلك الحوار بين الاديب العالمي المرحوم نجيب محفوظ وضابط الشرطة وذلك أثناء جلوسه مع مجموعة من الادباء علي مقهي "ريش". وعودا علي بدء فقد المح الاستاذ العزبي في بداية كلماته حول دور الاعلام ومن الذي افسد الصحافة وارادها مسخا. ومن الذي يجعل الحاكم بهلوانا. هل أصبح الصحفيون حقا خدما للسلطان أيا كان. ينقلك بسحر كلماته إلي صولاته وجولاته بين رؤساء التحرير ودهاليز هؤلاء الرجال ويكفي ما أشار إليه من أن علي صبري قد طلب من فتحي غانم حين تولي رئاسة مجلس إدارة دار التحرير حيث اشترط ان يعرف عملاء اجهزة الأمن في المؤسسة اعطاه الاسماء فيما عدا المكلفين بمراقبته شخصيا وقد اخبر فتحي غانم اسماء من هم في قسم الفن لسمير فريد واحتفظ بسر باقي الاسماء. تلك اسرار مرحلة قد عاصرتها خلال عملي بجريدة الجمهورية واعرف بعض من اشار اليهم في كتابه خاصة انني عاصرت الناقد الادبي أمير اسكندر وتوصيته لكتاب التقارير ينقلك بسهولة إلي السيارة المرسيدس التي قدمها صدام حسين إلي رؤساء التحرير. اسرار وخفايا أزاح عنها الستار لكي تدرك اجيال هذه الايام مدي قوة الاحتمال التي مر بها هؤلاء الرجال وقد استطاعوا عبور تلك المراحل بكفاءة رغم المرارة والاشغال الشاقة التي خاضوها وسط الشغل اللذيذ في بلاط من أطلقوا عليها صاحبة الجلالة.. بطولة وخروجا من الأزمات بكفاءة ولم يخضعوا لأي بطش أو عدوان. حقيقة لقد اعادنا الكاتب الكبير محمد العزبي إلي أيام الزمن الجميل فقد ترسبت في الاعماق تلك العبارات الشيقة التي اشاركه فيها تلك مشاعره الفياضة فقد سطر كلمات عشق وحب للشقيقة الكبري جريدة الجمهورية التي أمضي فيها سنوات عمره. ولعله لا يدين وحده بالفضل لهذه الصحيفة فقد تربينا جميعا في رحابها. فقد تعلمت من هذا الكتاب وغيره من الاساتذة الكبار معني المهنية وتقاليدها العريقة واشاركه في رجائه بأن تبقي قوية يلتقي الاجيال في رحابها. انها كلمات وعبارات من قامة وقيمة في عالم الصحافة يرسي بها دعائم تلك القيم التي تعلي من نسبة الفضل إلي أصحابه. اعادنا الاستاذ العزبي إلي أيام الزمن الجميل بعباراته الشيقة يقول: كنا اسرة واحدة يتنافس ابناؤها ولا يختلفون. يجتمعون علي نصرة البسطاء والوقوف إلي جانب الشعب حتي لو غضب الحكام ويمضي مفردا مضيفا علي كتابه الكثير من صفات ذلك الزمن الجميل حين يقول: تغيرت النظم وتبدل الرؤساء وبقيت "الجمهورية" مثلما بدأت واختار مواقفها محررون دون اتفاق.. حقيقة انه الحب الذي يصنع المعجزات ويضع امام الجميع حقيقة عن هذه الصحيفة حيث أوضح بجلاء أو يكاد كل ادباء مصر ومفكروها قد مروا بها ورأوها منبرا وطنيا يتيح للجميع ان يبدعوا. وقبل ان اغادر هذا المؤلف الشيق أود أن اشتر إلي موقف لا انساه مدي الحياة مع الأستاذ الكبير محمد العزبي ويتمثل في انني جئت إليه اشكو من عمل لم ينشر لي بالجمهورية وكنت في بداية مشواري الصحفي. بحكمة امتص غضبي وقال اسمع: طول ما أنت لابس الصديري الذي جئت به من البلد عليك أن تتحمل.. وإلا!! ضحكت وانصرفت راضيا. حقيقة لقد تعلمنا الكثير من هؤلاء الأساتذة في الجمهورية بمبناها العتيق في شارع زكريا احمد ولا يفوتني ان اتوجه بالشكر للاستاذ السيد حسين رئيس تحرير كتاب الجمهورية وأهمس في أذن كل قارئ: كتاب "الصحافة والحكم" اضافة للمكتبة العربية وتاريخ يجب ألا يفوت كل متابع لتاريخ هذا الزمن الجميل.