خلال حياتي الصحفية.. عاصرت ثلاثة عهود.. عصر جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك.. وكذلك عندما كنت طالبا في المرحلة الثانوية عاصرت أيام الملك فاروق.. ثم بعد ذلك شاهدت ولمست أحداث 25 يناير 2011 وثورة 30 يونيو 2013 كنت قريبا من صناع القرار ولكنه قرب مهني يسمح فقط بمعرفة الكثير من الأخبار بعضها يجد طريقه للنشر وبعضها كان لمجرد احاطة إدارة التحرير علما ولا ينشر. وفي الأيام الماضية صدر للزميل الكبير والصديق العزيز الاستاذ محمد العزبي متعه الله بالصحة والعافية كتاب جديد تحت عنوان "الصحافة والحكم" اكتشفت بعدها انني لم أكن أعرف إلا النزر القليل من المعلومات والأخبار.. فهذا الكتاب بحق هو خزانة للتاريخ .. استطاع من خلاله الاستاذ محمد العزبي أن يضع فيه ذكرياته مع زملاء المهنة وأن يسرد علي صفحاته أسرارا عاشها في المطبخ الصحفي ولمسها بقربه من صناع القرار كتبه بأسلوبه السهل الممتع.. وفي كل صفحة من صفحاته من المقدمة حتي الصفحة الأخيرة التي تناول فيها بإيجاز شديد لمحات عن صحافة زمان عبر 236 صفحة.. نقرأ ونستمتع بحكايات عن شيوخ المهنة وزملاء وأصدقاء وأحداث وأخبار. تساءل العزبي في مقدمته.. من الذي أفسد الصحافة؟ وأرادها مسخا؟ ومن الذي يجعل من الحاكم بهلوانا؟ ويقول منها لله سجون السلطان وعطاياه.. ويمضي الاستاذ العزبي في نقده للصحافة.. قائلا: هل نحن حقا خدم السلطان أيا كان؟.. وهل تعودنا ألا تعجب الصحف أولي الأمر خوفا من كشف المستور أو خجلا مما يفعلون. ويروي العزبي كيف استفاد من نصائح موسي صبري قائلا: مثلا تم اختياري للسفر للكويت لتغطية احتفالات عيدها القومي وأكد عليّ عدم قبول أي أموال أو هدايا أو عطايا مهما كان الهادي.. ومهما كان الإغراء. وتعلم دروس أخري تصلح لأن تهدي لرؤساء التحرير ويصل العزبي إلي مرحلة فرض الرقابة علي الصحف من خلال حكاية كتبها الزميل عبده مباشر في كتابه "أنا وعبد الناصر والسادات" فقد كان الرقيب أي شخص.. فإذا غاب المسئول الكبير حل محله مدير مكتبه.. وإذا غاب حل محله سكرتير مدير المكتب وكان في ذلك الوقت "صول" وله الأمر والنهي علي رؤساء التحرير ونوابهم.. وكان هو الحاكم الناهي في أخبار اليوم وغيرها من الدور الصحفية. وتناول أيضا كتابة التقارير وكيف حاولت المباحث مع الكاتب الكبير نجيب محفوظ أن يكتب تقريرا عن زملائه الأدباء الذين كانوا يحضرون ندواته الأسبوعية.. حتي اضطر إلي إنهائها وكفي الأدباء شر التقارير. المهم أن كتاب العزبي تناول الكثير من الأحداث التي دارت عبر سنوات طويلة.. ويذكر أسرار إنشاء جريدة الجمهورية.. وحكاية تأميم الصحف وتوزيع بعض الضباط عليها ليتولوا كل الأمور المتعلقة بمهنة الصحافة.. وحكاية أخري عن إحسان عبد القدوس الذي غدر به صديقه جمال عبد الناصر وحبسه في السجن الحربي شهورا وعندما تم الإفراج عنه قال له صديقه عبد الناصر "هيه اتربيت ولا لسه.. تعالي افطر معايا" ثم سجنه مرة أخري وعندما أفرج عنه لم يدعوه عبد الناصر إلي الإفطار!! وعن نقابة الصحفيين.. كيف أراد أنور السادات تحويلها إلي ناد.. وفي الكتاب أيضا حكاية محاكمة مصطفي أمين وهل كان بريئا من الاتهامات التي وجهها إليه النظام الناصري.. حتي محاكمته التي تمت أمام محكمة عسكرية خاصة.. بدلا من محاكمته أمام قاضيه الطبيعي وغير ذلك من الموضوعات الشيقة التي تهم شباب الصحفيين بصفة خاصة.. وكذلك تهم القراء الذين يريدون معرفة خبايا الحكم.. كلها في الحقيقة موضوعات شيقة كتبها العزبي بأسلوبه الساخر المميز.. اقتبس منها بعض اللقطات الرائعة. * * حول السجن لرؤساء التحرير.. تساءل مصطفي أمين "لماذا يتحول الكتاب إلي حملة مباخر في جنازة الحرية".. الحكومة تعرف أخبار الصحف.. والصحف لا تعرف أخبار الحكومة والدولة تراقب الصحفيين بعد أن كانت مهمة الصحفي مراقبة الدولة. * * همس موسي صبري لصديقه أحمد عباس صالح وهو يتوجع من الألم "ألم تر أن جيلنا يرحل سريعا الآن أفكر في اننا خدعنا جميعا خدعة كبيرة وأن المتصارعين من أجل السلطة قد استخدمونا لمصالحهم اسوأ استخدام" * * وأثار العزبي مشكلة منع الكتاب من كتابة الأعمدة وهل من حق رئيس التحرير أن يمنعها أو أن الكاتب يتحمل المسئولية ورد علي أمين منذ نحو نصف قرن علي هذا السؤال بقوله "انه من حق القارئ أن يرفع قضية لأنه اشتري بضاعة ناقصة رغم أنه دفع ثمنها كاملة". * * تعليقا علي مطاردة بعض المحامين ممن يسمون أنفسهم إسلاميين وطاردوا أصحاب الفكر وحكموا بالكفر علي زوج وزوجته حتي فرقوا بينهما قال : "سمع الوالي أن شيخا من العباد الزهاد المصريين قال في درسه للناس: لو أنه معي عشرة أسهم لرميت الصلبيين بواحد ورميت حكامنا بتسعة: وسأله الوالي هل قلت هذا حقا؟ قال لا بل قلت لو معي عشرة أسهم لرميتكم وحاشيتكم بتسعة ورميت العاشر فيكم أيضا". * * وفي نهاية الكتاب كتب العزبي التهنئة التي أرسلها أحمد فؤاد نجم للرئيس الأسبق حسني مبارك ليهنئه بعيد ميلاده قال "في عيد ميلادك الكام وسبعين.. كل سنة وانت طيب واحنا موش طيبين.. كل سنة وانت حاكم... واحنا محكومين.. واحنا مظلومين.. واحنا متهانين.. ياتري ياحبيب الملايين فاكرنا واللا احنا خلاص منسيين.. فاكر المعتقلين.. فاكر الجعانين.. فاكر المشردين واللي ماتوا محروقين.. فاكر الغرقانين الله يكون في عونك حاتفتكر مين واللامين!! حقيقي ان كتاب الصحافة والحكم.. خزانة صادقة للتاريخ.