لفلوبير عبارة شهيرة هي "أنا مدام بوفاري". بمعني أنه عندما نتحدث عن مدام بوفاري. فإنه كان يتحدث عن نفسه.. والمؤكد أني لست موجودا خارج أعمالي.. ما أكتبه يتضمن وجها من وجوه حياتي: قراءة مشاهدة. تجربة. إلخ.. من الصعب أن أجد ذلك في كل ما كتبت. مع أني أجد نفسي في الكثير مما كتبت أجد ناسا عرفتهم. التقيتهم. صادقتهم. عايشت خبراتهم وتجاربهم. ولحظاتهم الهانئة والمأساوية. أجد العديد من الأماكن والأزمنة التي اتصلت بحياتي بصورة وبأخري لاحظ الناقد "لاكان" في دراسة له عن الكاتب الفرنسي الشهير أندريه جيد أن تفصيلات السيرة الذاتية لحياة الكاتب ومنمنماتها تشكل بعدا أساسيا في أعماله الفنية "لا يخلو من دلالة قول همنجواي. أنا لا أعرف إلا ما رأيته" وأتصور أن هذا هو الدور نفسه الذي تشكله سيرتي الذاتية فيما كتبته واكتبه. من أعمال أتذكر قول باشلار: "إن البيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل عادي في داخلنا. إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية". القصة يجب أن تكتب نفسها فعل الكتابة اكتشاف أرفض التصور بأن الكاتب يبدأ قصته وهو يعرف تماما صورتها النهائية القصة تكتسب ملامحها وقسماتها أثناء ولادتها قد يأتي المولود في صورة غير التي كان يتوقعها الفنان قد تبين القصة أو الأحداث عن ملامح ربما لم تخطر في باله كاتب القصة يختلف عن كاتب السيناريو في أن الثاني عنده قصة جاهزة فهو يحول القصة إلي مشاهد وفي كل الأحوال فإن كتابة القصة ينبغي ألا تخضع للمنطق الصارم للعقلانية التي قد تفقدها تلقائيتها الفنان مطالب بأن يخفض صوته إلي حد الهمس حتي يتحقق الإيهام بالواقع ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته. أحيانا أبدا في تصوير الشخصية ولها في مخيلتي ملامح محددة ثم تذوي الملامح التي تصورتها أثناء عملية الكتابة لتحل بدلا منها ملامح أخري فتأتي الشخصية مغايرة سلبا أو إيجابا لكل ما تصورته وربما بدأت في كتابة عمل ما وفي داخلي وهم أني امتلكه أعرف البداية والنهاية فإذا بدأت في الكتابة اسطر قليلة أو كثيرة لا أعود سوي أداة للتسجيل القصة تكتب نفسها كأنها الأمواج التي تذهب بالقاريء إلي شواطيء لم يكن يتوقع ربانه الوصول إليها. وبالتأكيد فإن ما أريده بعد أن أتم كتابة عمل ما يختلف عن الصورة التي كتبته بها فعلا. تغيب شخصيات وأحداث وأماكن كنت أتصور أنها أساسية لتحل بدلا منها شخصيات وأحداث وأماكن كانت مختفية في تلافيف الذاكرة ثم ظهرت في وقت لم أحدده انطلاقات الشعور لا تعرف الترتيب ولا المنطق ولا يحدها زمان ولا مكان فهي أشمل من كل زمان ومكان يختلط فيها الماضي والحاضر واستشرافات المستقبل لم يبدأ همنجواي أيا من رواياته علي أنها رواية لم يجلس إلي الورق -ذات يوم- ليكتب رواية لكنه كان يبدأ كل ما كتب علي أنه قصة قصيرة قد تنتهي بالصورة التي أرادها وقد تطول فتصبح رواية وقد بدأت روايتي من أوراق أبي الطيب المتنبي باعتبارها قصة قصيرة. لكن اتساع القراءة في الفترة التاريخية وسع كذلك من بانورامية الصورة التي يجدر بي تناولها فتضاعفت الصفحات القليلة كما كنت أعد نفسي إلي مايزيد علي المائة والخمسين صفحة وكانت تلك اللحظة مجموعتي القصصية الأولي كتابا أوليا يتكون من ثماني قصص هي أقرب إلي الاسكتشات أو الرسوم التخطيطية لأعمال أشد اقترابا من فن القصة القصيرة أشد اقتراب من النضج باختصار فقد وشت تلك اللحظة بطموحاتي بأكثر مما رسخت تلك الطموحات وكان بعدها أن أعطي لنفسي إجازة أعيد خلالها تثقيف نفسي وأعيد النظر في أوراقي وأناقش إعجابي بالأساتذة الذين قرأت لهم هل يقف عند حد الإعجاب أو أنه يمتد أحيانا إلي التأثر والتقليد؟ وهل الكتابة الروائية والقصصية هي الفن الذي ينبغي أن أخلص له بالفعل؟ وإذا كانت الصرامة القاسية التي ألزم بها استاذنا نجيب محفوظ نفسه في مجال الكتابة الإبداعية هي المثل الأوضح. والأقرب بين أساتذني من الأدباء العرب فإن الصرامة القاسية نفسها كانت مثلا لي في السيطرة الذاتية لأديب فرنسا الأشهر جوستاف فلوبير "1821-1880" رفض فلوبير تكرار التجربة الأدبية أو التأثر برؤي وتجارب الآخرين جعل همه أن يفرز أسلوبا مميزا طابعا أدبيا يسم أعماله وشغله في الوقت نفسه وجوب الانطلاق في كل إبداعاته من تجربة حسية عميقة فلا يكتفي بالقراءة أو الإنصات إنما هو يعانق الناس والأشياء يتعرف فيهم وفيها بصورة مباشرة إلي شخصيات وأحداث عمله الأدبي أيا تكن طبيعة ذلك العمل وبصرف النظر عن المكان الذي ينتسب إليه وينطلق منه بالقدر نفسه الذي تمنيت أن اكتب عملا ملحميا رواية أجيال. أو نهر. مثل ثلاثية نجيب محفوظ. فقد تمنيت أن اكتب عملا عبقريا مثل مدام بوفاري التي انفق فلوبير في كتابتها لأكثر من عشر سنوات التزم بالصرامة التي تبلغ حد "الرهبنة". أشاهد. أتعرف. اقرأ. أحاول الاستيعاب والهضم والفهم والتفهم. وتقديم محصلة ذلك كله في أعمال فنية وحتي الآن فإن العمل -أي عمل- يشغلني وأفكر فيه حتي يدفعني -في لحظة يختارها- إلي كتابته جاوزت هذه الفترة في الأسوار ثماني سنوات واقتربت في أعمال أخري من الفترة نفسها في حين أن "المتنبي" ألحت كفكرة ثم ألحت في الميلاد بما لا يجاوز بضعة أيام لكن الأحداث امتدت وتشابكت فصارت القصة القصيرة قصة مطولة أو رواية.