محافظ الدقهلية يتفقد استعدادات اللجان الانتخابية قبل انطلاق التصويت بانتخابات النواب 2025    "التمويل المستدام أولوية".. ما الذي تحتاجه إفريقيا لتحقيق التنمية المستدامة؟    جنوب أفريقيا: غياب واشنطن لن يؤثر على أعمال قمة مجموعة العشرين    رئيس الإمارات يصل إلى البحرين في زيارة عمل    عبد الرؤوف يلقي محاضر فنية على لاعبي الزمالك قبل مواجهة زيسكو    قائمة برشلونة لمواجهة أتلتيك بلباو في الدوري الإسباني    صلاح يقود هجوم ليفربول أمام نوتنجهام فورست في البريميرليج    الهلال بالقوة الضاربة أمام الفتح بالدوري السعودي    تشكيل بايرن ميونخ أمام فرايبورج في الدوري الألماني اليوم    القبض على 4 سائقين توك توك لاعتراضهم على غرامات حظر السير| فيديو    خاص بالفيديو .. ياسمين عبد العزيز: هقدم أكشن مع السقا في "خلي بالك من نفسك"    خاص | مديرة تعليم القاهرة: الدراسة منتظمة بمدارس المحافظة ولا تعطيل للدراسة    «الرعاية الصحية»: حفظ الحياة يبدأ من وعي صغير وبرنامج الاستخدام الأمثل لمضادات الميكروبات برنامج استراتيجي    انطلاق معسكر مغامرات نيلوس لتنمية وعي الأطفال البيئي فى كفر الشيخ    التعليم العالي: معهد بحوث الإلكترونيات يستضيف ورشة دولية حول الهوائيات والميكروويف    سحب 625 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    إصابة 4 أشخاص بنزلة معوية إثر تناول وجبة فاسدة فى الفيوم    معهد بحوث الإلكترونيات يستضيف ورشة دولية حول الهوائيات والميكروويف نحو مستقبل مستدام    ليست المرة الأولى لوقف إسلام كابونجا عن الغناء.. مصطفى كامل: حذرناه ولا مكان له بيننا    السيدة انتصار السيسي تشيد ببرنامج «دولة التلاوة» ودوره في تعزيز مكانة القرّاء المصريين واكتشاف المواهب    قبل عرضه.. تعرف على شخصية مي القاضي في مسلسل "2 قهوة"    غزة والسودان والاستثمارات.. تفاصيل مباحثات وزير الخارجية ونظيره النيجيري    غنيم: خطة الصناعة لتحديد 28 فرصة استثمارية خطوة استراتيجية لتعزيز التصنيع المحلي    علاج نزلات البرد، بطرق طبيعية لكل الأعمار    حبس المتهمين بالاعتداء على أطفال المدرسة الدولية بالسلام 4 أيام على ذمة التحقيقات    "رويترز" عن مسؤول أوكراني: أوكرانيا ستبدأ مشاورات مع الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين بشأن إنهاء الحرب    «من تركيا للسويد نفس الشبكة ونفس النهب».. فضيحة مالية تضرب شبكة مدارس تابعة لجماعة الإخوان    شهيد في غارة إسرائيلية جديدة على جنوب لبنان    لاعب الاتحاد السكندري: طموحاتي اللعب للثلاثي الكبار.. وأتمنى استمرار عبد الرؤوف مع الزمالك    وزير الثقافة يختتم فعاليات الدورة ال46 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي    27 ديسمبر.. الحكم في اتهام مها الصغير في قضية اللوحات الفنية    مايان السيد: "عانيت من الخوف سنين ومعنديش مانع أتابع مع طبيب نفسي"    الإفتاء يوضح حكم التأمين على الحياة    سفير مصر بنيوزيلندا: ثاني أيام التصويت شهد حضور أسر كاملة للإدلاء بأصواتها    وزيرة التخطيط تشهد الحفل الختامي لجوائز مصر لريادة الأعمال    يخدم 950 ألف نسمة.. وزير الإسكان يوجه بالإسراع في تنفيذ مجمع محطات مياه بالفيوم    إصابة 28 عاملا وعاملة فى حادث انقلاب سيارة بمركز سمسطا ببني سويف    سعر اليوان الصيني أمام الجنيه في البنك المركزي المصري (تحديث لحظي)    بث مباشر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل في دوري أبطال إفريقيا 2025.. مشاهدة دقيقة-بدقيقة والقنوات الناقلة وموعد اللقاء    لحجاج الجمعيات الأهلية .. أسعار برامج الحج لموسم 1447ه – 2026 لكل المستويات    الزراعة تطلق حملات توعوية مكثفة لتعزيز الأمن الحيوي في قطاع الدواجن المصري    دعم العمالة المصرية بالخارج وتوفير وظائف.. جهود «العمل» في أسبوع    عاشور: زيارة الرئيس الكوري لجامعة القاهرة تؤكد نجاح رؤية الوزارة في تعزيز الشراكة العلمية    مصرع عنصر جنائي شديد الخطورة عقب تبادل إطلاق النيران مع قوات الشرطة بقنا    ستارمر يعلن عن لقاء دولى خلال قمة العشرين لدفع جهود وقف إطلاق النار بأوكرانيا    إدراج 29 جامعة مصرية في تصنيف QS 2026.. والقاهرة تتصدر محليا    انتخابات النواب بالخارج.. إقبال كبير للمشاركة بانتخابات النواب باليوم الأخير في السعودية وسلطنة عمان |صور    دولة التلاوة.. أصوات من الجنة    الرئاسة في أسبوع| السيسي يشارك بمراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بالضبعة.. ويصدر تكليفات حاسمة للحكومة والوطنية للانتخابات    غرفة عمليات الهيئة الوطنية تتابع فتح لجان انتخابات النواب فى الخارج    طقس الإسكندرية اليوم: ارتفاع في الحرارة العظمى إلى 29 درجة مئوية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    وزارة الصحة توجه رسالة هامة عن تلقى التطعيمات.. تفاصيل    أسعار البيض اليوم السبت 22 نوفمبر 2025    خلاف حاد على الهواء بين ضيوف "خط أحمر" بسبب مشاركة المرأة في مصروف البيت    المرأة العاملة| اختيارها يحمي الأسرة أم يرهقها؟.. استشاري أسري يوضح    فلسطين.. جيش الاحتلال يقتحم حي الضاحية في نابلس شمال الضفة الغربية    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقصدي البوح لا الشكوي

هذه الرواية أحدث إبداعات الروائي الكبير محمد جبريل. وهي عن تجربة حياتية قاسية عاشها المبدع في العامين الأخيرين بعد أن أجري عملية جراحية في عموده الفقري.
الرواية أقرب إلي السيرة الذاتية فضلا عن الجانب التسجيلي.
وهي في مجموعها تعكس ما عاناه المبدع الكبير من أحوال واوجاع العلاج الطبي في بلادنا وذلك بعد أن أقعد المرض الكاتب الكبير وأفقده القدره علي الحركة إلي حد كبير ووسط الآلام المبرحة أبدع هذه الرواية.
الحلقة الثامنة
سيراجيم
استعدت التسمية
أعاد الصديق مفردات الكلمة بالانجليزية. أضاف شرحا للجهاز بأنه كوري الصنع. من اهم انجازات كوريا الجنوبية في العلاج الطبيعي قرأت إعلانا علي ورقة كوشيه تطالب قارئه هو بالضرورة يعاني متاعب في العمود الفقري ان يبدأ من جديد مع شريك الصحة رقم واحد في العالم.
التقنية التي يعتمد عليها الجهاز هي الضغط علي مواضع في العمود الفقري. بحيث تعتدل الفقرات. كما تعمل وحدة المساج الحراري داخل الجهاز علي استرخاء العضلات. وتخفيف الآلام. وتقليل الضغط العصبي ويفيد الجهاز من الاشعة تحت الحمراء التي تنبعث من وحدة المساج الحراري في تنشيط الدورة الدموية. والتقليل من الضغط. وتحسين الصحة بعامة.. نظرت إلي الجهاز اشبه ب "شيزلونج" الشاطئ. لكنه من الجلد. تتداخل فيه ثنيات ومنحنيات ومتعرجات.
ما احتمالات الخطر؟
لا توجد!
تمددت علي الجهاز ما كاد الموظف يديره. حتي علا صوتي بالصراخ. ألم قاس. كأن الجهاز يطحن جسدي. يهوي عليه بمطارق. يدور بي في دوامة قاسية.
قمت تحسست الآلام الجديدة في ظهري. مسحت الدموع المتساقطة علي وجهي. واجهت الرجل بملامح معتذرة:
لا استطيع.
إذن. نرجئ استخدام الجهاز حتي نستعين بمهدئ.
كان ذلك ايضا أول وآخر عهدي بالجهاز العبقري يدفعني إلي الاعتراف بقيمته عشرات تمددوا في أجهزة مشابهة. في استجابة واطمئنان.. نسيت الضعف الذي صارت عليه فقرات عمودي الفقري. بتأثير المبضع السحري للدكتور علاء عبدالحي. بالاضافة طبعا إلي ما كانت تعانيه الفقرات نتيجة عدم التثبيت. وهو ما سأحدثك عنه.
***
تساندت بيدي علي العصا ذات الارجل الاربع. وبيدي الاخري علي ساعد زينب.
بدت المسافة طويلة من مدخل البناية المطلة علي الاوتوستراد إلي باب المصعد انفتح الباب في الدور الثاني عشر علي أضواء ملونة وموسيقا. تصورت ان القاعة الصاخبة مدخل إلي مركز العلاج الطبيعي. الآلات التي وقف او جلس عليها شباب من الجنسين. تتحرك ايديهم وأقدامهم لاكتساب المزيد من العافية. او للعلاج من إصابات الملاعب القاعة الواسعة تشغلها الاجهزة التي تتحرك فوقه ايدي الشباب وأقدامهم. في حين أخذت العيادة جزءا من الصالة الواسعة. حولت الستائر مساحتها الصغيرة نسبيا. إلي موضع لسبع اسرة صغيرة. تمارس عليها تمرينات العلاج الطبيعي. بالاضافة إلي مكتب ودولاب ومقعدين.
صرت من يومها صديقا شخصيا لغالبية العاملين في المركز. حتي الوجوه التي اعتدت رؤيتها. دون ان يدور بيننا حوار.
***
حدثتك من قبل عن حبي للبحر. لكنني لا احاول النزول في أمواجه.. لم افسر السبب. وإن كان أقربها إلي فهمي أن حبي للقراءة فاق منذ طفولتي كل ما عداه. افضل ان اجلس علي الشاطئ لتأمل الافق. والنظر إلي ما حولي. والقراءة.
هذا هو العالم الذي صنعته لنفسي. واحببته. اشبه بالعالم الذي صنعه مدحت في روايتي "صخرة في الانفوشي".
كتبت العديد من الروايات والقصص القصيرة. محورها البحر وساكنيه من بشر ومخلوقات اخري. لكنني اكتفيت في ذلك بالكتابة من الشاطئ.
ما كان يثير استغرابي. عند تهيئي لنزول الحمام عقب انتهاء الفترة المخصصة للسيدات
تبدل لون مياه الحمام. يداخل الزرقة الرائقة عكارة.
هل يسبحن. ويغسلن الثياب؟
لذلك السبب ربما كان العامل بعد انصراف السيدات يمسح قاع الحمام وجوانبه بعصا طويلة. في نهايتها قطعة قماش هائلة.
أنزل الحمام. من حولي شبان وعجائز احيانا يسبحون يقفزون في الماء بلا خوف. يقلدون السمكة في عومها يغوصون داخل الحمام. ويطفون. لا اثر علي الوجوه لانفعال من أي نوع. الآلية تحرك السواعد والارجل. كأنهم يؤدون قبل أن يغادروا الأسرة تمرينات الصباح.
وعدني احمد طاهر بعد أن حرص علي إطالة بقائي في الحمام ان يعلمني السباحة. انزل بحر الإسكندرية. اجاوز الوقوف أو الجلوس علي الشاطئ. إلي عناق الأمواج. شغلني في السير داخل الحمام طفو جسدي فوق المياه. كيف يستطيع احمد طاهر ان يسيطر علي جسده. فلا يغرق. يتحرك داخل المياه. دون ان يجتذبه ما يهبط به إلي القاع.
في قصة قصيرة اسمها "الزوال" لصديقي الاديب الكبير أبوالمعاطي أبوالنجا. يتحدث الراوي عن لحظة الزوال. إنها اللحظة ما بين الحياة والموت. لحظة يقف فيها المرء علي الحافة. ينطمس من ذاكرته كل شيء. لا يدرك إلا أنه يموت. ثم تحل المعجزة فتنقذه.
لحظة الزوال مجالها اللحظة بالفعل. لا تزيد عن ثوان. يتغير فيها الحال تماما: حادثة سيارة أو قطار. بيت يتهدم علي ساكنيه. إنسان يختطفه الموت. رصاصة قد تكون طائشة. صاعقة مفاجئة.. اسباب متعددة علي حد تعبير المتنبي لكن الموت يظل له معناه. وانه يقف بالقرب منا. او انه يلاصقنا. انفاسه تخالط انفاسنا. فتظل انفاسه. بينما تصمت انفاسنا.
ذلك ما عشته في حمام السباحة بجيم برو سنتر. المطل علي طريق الاوتوستراد. يغمرني التأثر وطه يسند ركبته علي الارض. يداه تنزعان الحذاء من قدمي. وتعيدانه إليه يحتفظ بالثياب الخارجية. والفوطة. يرافقني عبر درجات السلم المفضية إلي حمام السباحة. يتركني عند حافته. ويعود.
طه في أواخر الاربعينيات. يتولي تنظيف الحمامات واعداد الفوط. واحتياجات المترددين علي الجيم. ان كلف بمهمة. حرص ان يتقن أداءها.. ملامحه ساكنة. لا تشي بأي معني.. ربما ألمه صمت عمله ان يجد عناء فِي نطق الكلمات. فهي اقرب إلي التلعثم.
أزمعت الاكتفاء بالتمرينات التي اديتها. لكن المدرب الشاب احمد طاهر اصر ان اواصل تدريباتي. واثناء سيري التوت قدمي. واجتذبني المياه احاطت بي. تماوجت المياه من حولي. اختلطت درجات الازرق. بالظلال واقترابها من السطح والعمق والسيراميك الذي يغطي القاع والجدران انثنت ركبتي. عرفت اني اوشك علي القعود. احاول المقاومة. لكنني لا احسن الفعل. لا اجيد السباحة. ولا اعي التصرف الذي يجدر بي ان افعله. حتي اطفو فوق المياه.
الاصوات في قلب الحمام. وعلي جانبيه متداخلة. تبدو رغم اقترابها كأصداء بعيدة. ربما لأن الذهن كان شاردا في التوقع. وليس في اللحظة التي أعانيها.
لم يعد في بالي أي شيء لا خوف ولا قلق ولا حتي استكانة اخذتني اللحظة بلا قبل ولا بعد. انعزلت بما انا فيه عن كل ما حولي لا أفكر في الاستغاثة اكتفي بالاطمئنان إلي أبي سأري في اللحظة التالية يدا تنقذني من الغرق.
حل في داخلي ما يشبه اليقين بديلا للمقاومة التي لا احسن ادواتها. انهم سيفطنون إلي غوصي. وانهم سيبادرون بإنقاذي.
يعرف احمد طاهر عدم إجادتي السباحة. عدم نزولي البحر أصلا. وان صلتي به تقتصر علي ركوب قارب يخترق أمواجه. أو الجلوس علي شاطئه للتأمل والقراءة. او استعادة حكايات الصيادين وراكبي البحر من اهل بحري.
عرفت اني أغرق. وإن لم يساورني قلق ولا خوف. تملكتني ثقة ان يدأ ستنقفذني. وامتدت ايدي كثيرة بالفعل. فانقذتني. لكن تأخرها الذي لم افهمه سببه. دفع بالماء إلي فمي.
زينب هي الوحيدة التي عرفت اني أغرق. علي حد تعبير نزار قباني في قصيدته الشهيرة.
نادت علي من كانوا داخل حمام السباحة. اظهروا الدهشة: هوة مش بيعوم؟!
امتدت أيديهم لتنقذني. لتعبر بي لحظة ما بين الحياة والموت. ولو انهم تأخروا لحظات في توهمهم اجادتي السباحة. لغادرت عالمي إلي عالم آخر.
***
امضيت ما يقرب من الشهر. اكتب دون أن أري الكلمات عند كتابتها. عملية الشبكية التي اجراها الدكتور شريف إمبابي في عيني اليمني. وما سبقها من عملية ايضا. في العينين معا. اجراها الدكتور حازم ياسين. بدلت درجة إبصاري. فلم اعد ابصر بالنظرة. او بدونها. بصورة صحيحة. لم اطلق الصمت عن الكتابة. جريت علي الورق بكلمات كبيرة الاحجام. اقرأ بعض الكلمات. اخمن بما التقطه من حروف. وبالتثبت من القراءة بقية الكلمات. اصلها بذاكرتي حتي تستقيم الجملة. كانت المشكلة في محاولة نقل ما كتبته علي الكمبيوتر. اكتب الموضوعات الصحفية والمقالات مباشرة. أما الإبداع من قصة أو رواية. فإن القلم لابد أن يجري علي الورق. يكتب ما تمليه العلاقة بين الزهن وأصابع اليد.
لاحظت التطوح في سيري. لا اثبت في الوقفة ولا الحركة. اشبه بمن يؤدون أدوار السكاري في الافلام العربية.
قال الدكتور شمس الدين عبدالغفار:
هذا طبيعي العملية ليست سهلة.
سألته:
متي أعود إلي مشيتي الطبيعية؟
لم ألحظ ابتسامته المشفقة:
بعد أسبوع
صحت:
معقول؟
إذن.. عشرة أيام!
لأن الآلام ظلت تدهمني. فقد بدأ الدكتور شمس ما رأي انه البداية الصحيحة. تعددت زياراتي للمركز. اسلم رجلي لبرودة وظهري لسخونة. بحيث يبدأ العلاج الحركي بعد ان تزول الآلام. لكن الآلام ظلت علي حالها. وتفاقمت احيانا ويبدو اني حاولت التفلسف في الكلام عما أعانيه.
قال الدكتور شمس في نبرة تسليم:
اري أن تعود إلي الطبيب الذي أجري العملية.
ادركت انه بذل كل ما يستطيع فعله. لكنه لم يكن حل المشكلة. تلك مسئولية طبيب آخر. المشكلة في داخلي خطأ ما ظل قائما بعد العملية عرفت فيما بعد ان الخطأ في الالتهاب الذي ظل في موضع العملية. اجريت العملية بنجاح كما قال الدكتور يسري الهواري. وكان الطبيعي في قوله ان اقف علي قدمي واسير بعد اسبوع فقط من العملية. لولا الالتهاب الذي اظهرت الاشعة تأثيراته.
***
في لحظة. قررت ان أقف علي حيلي. بلا مشاية. ولا عصا معدنية. نترت جسدي وقفت. سرت. هللت في داخلي لما فعلت. لكن القامة الضعيفة تمايلت. عرفت ان ما اريده قد لا يستجيب له جسدي. الاطراف والاتزان والقدرة علي الحركة. ازمعت ان احتفظ بتوازني. اعتمدت خشية الاخفاق علي قطع الاثاث. ما في طريقي من قطع الاثاث. صارت بديلا للاتكاء علي العصا. اصل بالانحناء غياب ما استند إليه في المساحات الخالية.
نصحني صديقي الكاتب الصحفي الكبير محمد فوده ان ارجئ عودتي إلي الجريدة. عد بعد ان تتخلي عن العصا. لكن تفاقم الزهق والملل والحنين دفعني إلي إهمال النصيحة المشفقة. وعدت إلي الجريدة. مستندا إلي عصا رباعية الاقدام.
في طريقي من الجريدة في شارع رمسيس إلي البيت في مصر الجديدة عبر شوارع وسط البلد. ومنها إلي نفق الأزهر. حتي طريق صلاح سالم. تأملت من نافذة التاكسي ما يحيط بي من الشوارع والبيوت والمحال التجارية والإعلانات واللافتات والسيارات والمارة. كأني أشاهد ما لم يسبق لي رؤيته. تمنيت بيني وبين نفسي لو ان السائق ابطأ السير. فأملا عيني بما اراه. استعيد القاهرة التي احببتها. اذكر هتافي بالحنين عندما كنت اشاهد في تليفزيون مسقط: ميدان الحسين. استاد القاهرة. حدائق الحيوان. شارع قصر النيل. الطريق الدائري. قصر البارون. كوبري قصر النيل. برج الجزيرة.
حدد الدكتور علاء خمسة عشر يوما. اتحرك فيها عقب العملية داخل الشقة. ثم اعود إلي حياتي العادية. قال لزملاء صحفيين: لا تحاسبوني إلا بعد ثلاثة أسابيع
لكن الايام. والاسابيع. توالت. دون ان اتخلي عن العصا الحديدية ذات الاقدام الاربعة.
وعدت نفسي ان اجول في الشوارع التي افتقدتها. يعروني لتحفز وانا اتأمل من داخل التاكسي شوارع وسط البلد: فاترينات المحال. اللافتات المثبته اسفل النوافذ وعلي الشرفات. استندات الصحف. السيارات. زحام المارة تلاشي التصور بكر الايام. لا افارق العصا في البيت وخارجه. الجاذبية الارضية تأخذني إلي الارض. احاذر حتي لا يتأثر موضع الملية.
ظلت الآلام علي حالها. اعاني من النوم. وفي محاولة الحركة. حتي الجلوس لم يعد متاحا اكثر من دقائق. ثم افز من جلستي. اتصور الراحة في كرسي آخر. احاول ان انشغل بمراجعة ما كتبت. او بالقراءة يعاودني الألم فأعود إلي كرسي المكتب. او اجلس علي كرسي آخر. او اتمدد علي السرير.
احزنني وسط صراخ الآلام وصعوبة الحركة ما قرأته عن دراسة طبية. اجريت في 2013 حول الاستغناء عن جراحة العمود الفقري لحل الانزلاق الغضروفي. وسقوط القدم:
يقول الطبيب المشرف علي الدراسة بحريني الجنسية. واسمه غازي سرحان انه من المسلم به علميا. ان العلاج الوحيد في حالة القدم الساقطة. هو الجراحة السريعة خلال ست وثلاثين ساعة بعد الاصابة. وان لا تضمن العملية عودة حركة القدم إلي ما كانت عليه وتجري تقنية فتح العصب دون جراحة. بتحليل العصب بجهاز خاص. ثم استخدام الليزر والتحريك اليدوي.
***
يروي محمد حسنين هيكل ان جمال عبدالناصر كان يشكل وجهة نظره إزاء الرؤساء والسادسة الذين سيلتقيهم للمرة الأولي بعرض مجموعة من الصور الشخصية للزعيم أو السياسي يخرج من تأمله مجموعة الصور بانطباع عن الشخصية يبني أحكاماً مسبقة يثبتها بعد اللقاء أو يبدلها أو يضيف إليها.
لاحظت في نفسي ميلاً للنظر إلي الشخص الذي أحادثه بصرف النظر إن كان اللقاء للمرة الأولي أم أنه حلقة في سلسلة من اللقاءات. أنظر أو أرنو. كما يقول التعبير اللغوي إلي عيني محدثي. يداخلني اطمئنان. أو عدم ارتياح. أو في حالات قليلة نفور يدفعني إلي التحفظ في الإرسال والاستقبال.
الصفاء في عيني زينب. أول ما جذبني إليها. غادرت مسقط إلي القاهرة في رحلة سريعة. كتبت عقب العودة كلمات عنوانها "عدت إليك يا سحرية العينين". ألفت منذ ذلك اليوم الذي مضي عليه الآن أكثر من ثلاثين عاماً أن أتعرف بمجرد النظر إلي مشاعر زينب وانفعالاتها. ما يبين في عينيها. وما تحاول إخفاءه.
أصرت أن أشارك في أول مؤتمر للرواية العربية بالقاهرة. التمع الدمع في عينيها. فعدلت عن الاعتذار. ووجدت في نظرة التحفز المطلة من عينيها. وهي تجلس علي المدرج. ما يدفعني إلي التحدث بإفاضة. استجاب لها الحضور. وإن أبدت بعض المشاركات ضيقهن من ضآلة وقت مداخلاتهن.
تكررت اللحظات في أوقات استقبال ووداع. وفي أوقات صعبة. فرضتها الجلسة الساكنة في القراءة والكتابة. وما تسللت به إلي جسدي من أمراض.
لمحت في جلستها المتجاورة داخل عيادة الدكتور علاء عبدالحي اختلاط مشاعر الإشفاق والخوف والتمني. أبدت زينب انزعاجها وأنا أتحرك بالقرب منها لصوت طقطقة العظام. كعادتي مع الألم أحسه. ولا أفصح عنه. كأن جسدي يتهيأ للتفكك. أجلس. فتهدأ الآلام. يحل ما يشبه السكينة. لكن زوال الآلام كأنه أمنية مستحيلة. تعلو طقطقة العظام حين أتحرك في موضعي. أقف. أسير. أتقلب علي السرير.
تصاعد في حلقي ما يشبه الغثيان. سبقت إشارة اصبعي إلي السلة بأعراض الغثيان. تحول في اللحظة التالية إلي قيء طعم لاذع من المرارة والحموضة.
أخشي القيء.
كان إرهاصاً بعملية القرحة في الاثني عشر. تجاهلت الآلام سنوات. حتي أعلنت القرحة عن خطورتها في دفقات الدم التي ملأت حوض الحمام. تجاهلت النذير. فاكتفيت بالمسكنات. حتي فاجأني النزيف الحاد ذات مساء وأنا أقود سيارتي في شارع بورسعيد. ما رويته لك في روايتي التسجيلية "الحياة ثانية".
اعتدت في حالات القلق التالية. حتي بعد أن أجريت العملية. أن أحدق جيداً. أخشي ما عانيته قبل سنوات. ساعد علي تكرار النزيف حرص الطبيب علي ملء وجه الروشتة وظهرها بالكثير من أسماء الأدوية لعلاج ما يسمي بعرق النسا. وإن عرفت فيما بعد أن الحالة انعكاس لتفاقم متاعب العمود الفقري. تحددت المتاعب آنذاك في الفقرتين الرابعة والخامسة ثم امتدت التأثيرات فبلغت النخاع الشوكي ثم أعلن المرض عن خطورته بسقوط القدم ونصح الأطباء بضرورة إجراء العملية.
الحلقة التاسعة السبت القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.