هذه الرواية أحدث إبداعات الروائي الكبير محمد جبريل. وهي عن تجربة حياتية قاسية عاشها المبدع في العامين الأخيرين بعد أن أجري عملية جراحية في عموده الفقري. الرواية أقرب إلي السيرة الذاتية فضلا عن الجانب التسجيلي. وهي في مجموعها تعكس ما عاناه المبدع الكبير من أحوال واوجاع العلاج الطبي في بلادنا وذلك بعد أن أقعد المرض الكاتب الكبير وأفقده القدره علي الحركة إلي حد كبير ووسط الآلام المبرحة أبدع هذه الرواية. الحلقة السابعة لماذا يولد الإنسان؟ هل ليواجه قسوة الحياة وأمراضها. ثم تغرب شمس حياته في أفق الشيخوخة حتي يبتعلها الموت؟ يقول جورج أمادو: الموت. وانتهي الأمر. وكان رامبو يجد في الحياة تمثيلية هزلية. يؤدي الجميع أدوارها. فلما دنت ساعة الموت. همس لأخته: سأواري تحت التراب. أما أنت فستسيرين في ضياء الشمس! لم يعد أحد من الموت. فيروي ما رآه. ذهب إلي حيث العدم. حيث لا يعرف أحد. وما لم يكن يعرفه هو نفسه قبل أن يأخذه الموت. من يذهب لا يعود. هذه هي الحقيقة التي نتقبلها منذ طفولتنا. وإن جملناها بعبارات. مثل أنه صعد إلي السماء. أو إنه سافر في رحلة بعيدة. أو إنه اختار الدار الدائمة بدلا من الدار الآجلة.. تعبيرات تطالعنا في مراحل عمرنا المختلفة نطمئن إليها. أو نحاول. الموت عندي حقيقة لابد أن ألتقي بها في الطريق. أواجه بعدها الحساب الإلهي. لكنني قررت ألا يأخذ مني حياتي وجدواها. فأنا أعمل. لا يشغلني إلا العمل نفسه. لا يشغلني إلا ما أحياه. أشفق من أن أغمض عيني- ذات لحظة - قبل أن أتم كتابات بدأت فيها منذ سنوات بعيدة. وصرفتني عنها شواغل وقراءات. وربما كتابات أخري. يروي الكاتب المسرحي الفرنسي يوجين يونيسكو أنه شاهد جنازة وهو طفل. فسأل أمه عنها. قالت: هذه جنازة شخص مات. سأل: لماذا؟ قالت: لأنه كان مريضاً. في تلك اللحظة- والكلام ليونيسكو- اعتقدت أن الذي يتقي المرض لا يموت. لكنني أدركت- فيما بعد- أننا جميعا نموت. مرضنا أو لم نمرض. بل نحن نسعي حثيثاً إلي الموت. ذلك المجهول؟ حدثتك في روايتي التسجيلية "الحياة ثانية" عن الموت لا يخيفني و أعتبره حتما. قدراً إلهياً. ومن المهم أن أصادقه. أخاف صورة الموتي. ما يخلقه الخيال من أعزاء لي في أكفانهم أتصورهم واقفين بالقرب مني. أو يرمقونني عن بعد. أو يفاجئونني في الحنايا والأركان المظلمة لا أذكر كيف تكونت كرة الثلج. وإن كنت أذكر جيداً أني لم أغادر شقتنا بعد رحيل أبواي كنت أنام في سريرهما. وأكتفي باللمبة السهاري تكونت العقدة- فيما بعد- شيئاً فشيئاً. ربطت رؤيتي لجثمان محمود أفندي- جار الشقة المقابلة حدثتك عنه. بما رأيته وتخيلته. حتي تبينت- أخيرا- أنه من الصعب أن أقيم - بمفردي- في شقتنا. ولا في أي مكان التقيت فيه أحد أحبائي. قبل أن يأخذه الموت. نحن نخاف عندما نفكر في الخوف هذه حقيقة تعرفت إليها في تجربة خوفي من الموتي. الموتي - كما قلت لك- وليس الموت. أقنعت نفسي بالمعني. وتدحرجت كرة الثلج. وتضخمت. وصار الخوف من الموتي يقيناً أطمئن إليه. أفكر. وأتصرف بما يمليه. بعد رحيل أبواي أقمت في شقة الأسرة بمفردي. وكنت أنام علي السرير نفسه الذي مات عليه أبواي أطفئ النور تماما وأنام وكنت - أحياناً- أستدعي حادثة جار البيت المقابل. رأيته يوضع في النعش. ملتفاً بالكفن همست لشقيقي بمشاعر الخوف. حرص - من يومها- أن يستثير- في داخلي- الحادثة التي ربما لم تكن تشكل هذا المعني الخطير في حياتي كانت كرة الثلج قد بدأت في التدحرج. دفعتها حكاياتي. وما استمعت إليه من أسئلة وتعليقات. أصارحك أني أجد في أي عارض نذيراً بالموت. باللحظة التي لا أعرف متي ستأتي. تعب. دوار. نغزة في الصدر. زغلله في العين. ارتعاشة في أصابع اليدين. أقرأ الشهادتين- كما تعلمت منذ الصبا- توقعاً للحدث الآتي. لا أطيل مناقشة الأفكار المتفلسفة حول قضية الموت: لماذا؟ وكيف؟ وإلي أين؟ وهل هناك خلود أو عدم؟ قرأت كتابات صديقي العالم الراحل عبد المحسن صالح جيداً أيقنت أن الموت حالة بيولوجية. حتم لابد أن يحدث. اندثار يضمن الحياة لمن يأتون بعدنا أذكر قوله لي: إن جسم الإنسان يشتمل علي أعقد. وأحكم نظام هذا النظام لو اختل بصورة ما. فلابد أن يبدأ في التقوص. ثم الانهيار. ثم الموت. يعود إلي طبيعته الأولي كمادة خام. تدخل في كائنات أخري بعد الموت. ولعله من الملاحظ- بالنسبة للنبات- إنه قبل أن يذوي. يعطي بذراً لكي ينمو نبات غيره. فهو يحمي البذرة. ويعطيها لغيره. حتي تستمر الحياة لكن الموت يفرض نفسه علي تفكيري تختلط الصور. تتشابك. تومض صور واضحة ويتلاشي عمر الانسان- مهما يطول- أقصر مما يجب. هو لن يكفي لتحقيق أمنياته وآماله وطموحاته يداخلني الإحباط أو ما يشبهه. أرفض جدوي كل شئ. ثم يلوح الأمل في نهاية الأفق أعرف أني بدأت المشوار الأخير. ما يبغضني في الموت أنه يجعلني في حالة انتظار. أرفض ما يمليه بمقاومتي له. أرفض الانتظار. أعيش كل دقيقة في حياتي. لا يشغلني الموت. إذا جاء فلن أكون موجوداً عمر الانسان يبدأ بالنقصان من لحظة الميلاد. أشبه بالعد العكسي الذي يبدأ- علي سبيل المثال- بالرقم عشرة. ويتناقص حتي يبلغ الرقم واحد. ثم ينطلق الحدث. والحدث- في نهاية حياتنا- هو الموت لكي يموت المرء فلابد أن يكون حياً. من السخف تصور أن ميتاً يموت. لأنه قد مات بالفعل. من يحيا هو الذي يواجه الموت. ولابد- قبل ذلك - أن يكون قد عاش حياته بالفعل. ثمة من يشغله التفكير في الحياة عن التفكير في الموت. أرفض القول إن الحياة موت يتخللها الكلام والحركة. قيمة لحظة إسدال الستار أن الفاعل لا يري. ولا نعرف موعداً لم يفعل. يضعنا في حالة انتظار. وقد ننسي فلا ننتظر. ثم تأتي النهاية بلا توقع. بلا انتظار!. أذكرك بقول أبيقور "الموت لا يعنينا. لأنه طالما نحن هنا. فالموت ليس هنا. وحين يكون الموت هناا. لن يكون لنا وجود علي الاطلاق أذكر قور زوربا في رائعة كازنتزاكس: "إنني أتأمل الموت كل لحظة. أتأمل. وأفزع. مع ذلك فإني أقول لنفسي- بين الحين والآخر- هذا يروق لي!.. لا. بل إنه لا يروق لي. أو لست حراً؟!.. لن أوقع. ولن أوافق! "يردف كازنتزاكس الحرية بالموت. يري أن الانسان الحر هو الذي لا يخشي الموت. *** مع التقدم في العمر. يتوالي رحيل الأعزاء. فقدهم. تخلو مساحة الحميمة من رموز مهمة. تحدث الرتابة في النفس ما يشبه التعود. الألفة. يقل الشعور بالفقد. حتي يختفي. الموت حقيقة لن يفيد غرس رءوسنا في الرمال إخفاءها.. في العمر المتقدم نتقبل حقيقة الموت. نبدي التأثر. ثم ننتقل بالكلام إلي حديث آخر. قضية أخري. أقسي الأمور أن يغيب الموت أعزاء. أو تراهم يألمون أنت لا تملك إلا الإشفاق وعبارات المواساة لا سن محددة يموت فيها المرء. لكن تقدم السن يجعل الموت أقرب إلي المرء من السن الباكرة في سني الصبا والشباب يحلم المرء. يتطلع. يخطط للمستقبل. فإذا تقدمت أعوامه انطبق عليه قول نجيب محفوظ حيث أدركه الكبر. أنه مثل راكب قطار وصل إلي محطة سيدي جابر. ويعد نفسه للنزول في محطة الاسكندرية مسافة قصيرة للغاية كما تري. وربما رفض محفوظ- لهذا السبب- أن يكتب روايات طويلة. اكتفي بنصوص قصيرة أملتها المرحلة السنية المثل "أصداء السيرة الذاتية" و "أحلام فترة النقاهة". التوقع هو ما نحياه عندما يتقدم بنا العمر. يرافق التوقع ملاحظات عفوية لدنو الموت من خلال ما يطرأ علي الجسد. فنلجأ إلي الأدوية والمنشطات أو نمضي- في لاستكانة - إلي نهاية الأفق الإنسان يعرف أنه سيموت. وكلما تقدم به العمر أدرك قرب الرحيل. لكن الضيق أو الاستياء. أو الغضب. لو أن أحداً تكلم عن قرب رحيله أعرف أن هذه هي النهاية. لكن لا تحدثني عنها لعلي- في النهاية - أستعير قول سبينوزا: الحكيم هو من يفكر في الحياة. وفي الموت. *** عدت إلي البيت كتبت زينب علي صفحتها في الفيس بوك عاد طائر النورس إلي بيته عرف أصدقائي المعني تحولت الشقة إلي جنة صغيرة. صنعها الأصدقاء الحنين إلي أنفاس الونس لم أعد أنام علي السرير. لم أعد أدخل غرفة النوم أصلاً. اكتفيت بالتمدد علي جنبي الأيمن. أتابع برامج التليفزيون. عدلته ليكون في مواجهتي. بدلت جغرافية الصالة بما يتيح لي العيش دون أن أغادر موضعي. يجلس الأصدقاء حولي. تدور حوارات. دردشات تتناثر المفردات: شد حيلك. بكرة تقوم بالسلامة. أنت بمب. سلامتك. بطل دلع. أخلو- بعد انصرافهم- إلي ما يهمني. أو يروقني. من مواد التليفزيون: الأخبار. البرامج الثقافية. برامج مني الشاذلي ووائل الإبراشي ولميس الحديدي وخيري رمضان ومعتز الدمرداش. ما أذنت الداخلية بتقديمه من مباريات كرة القدم أطبق التعليمات بالتلقائية نفسها: الدواء في موعده. الحرص علي إجراء التحليل. ملاحظة الألم. ولون البول والبراز أنظر إلي ساقي الهزيلتين. أتحسس ارتخاء الجلد. ألامس العظام والعضلات. تتداخل لحظات الأمل ولحظات اليأس. يشملني الإحساس بالضيق والقرف- ربما تأثير الدواء- ساعات طويلة لا أستطيع أن أفعل شيئاً. تذكرت جلسة أبي علي كرسي. وأمامه كرسي آخر. يسند كتفيه فوق مسنده. هو الوضع الذي يستطيع فيه أبي أن يغمض عينيه. ويروح في النوم المرة الوحيدة التي تمدد فيها علي السرير. وحاول النوم مثل خلق الله. سكنت أنفاسه. وظننا أنه مات. قال لي: أنا لا أخاف الموت. أخاف الألم وأمراض الشيخوخة وتقلصت ملامحه بخوف حقيقي: تفزعني عبارة أمراض مزمنة وفي نفاد حيلة: تلك الأمراض قدر المسنين. *** اعتدت أن أبتعد بنظراتي. حيث أشاهد رجلاً أو سيدة. علي كرسي متحرك. يقوده بنفسه. أو يدفعه أحد القريبين. أرفض النظرات المتصعبة. ومصمصمة الشفاة التي تضيف إلي ألم المريض لم أتصور أني سأكون قعيد الكرسي المتحرك. تدفعه زينب. أو أحد أصدقائي. ثم اعتدت الكرسي. في التنقل بين البيت. وعيادات الأطباء. والمستشفيات ومراكز العلاج الطبيعي. صرت ألح في طلب الكرسي. تشير موسوعة ويكيبديا إلي أن الأطباء أبقراط وجالينوس وغيرها. كانوا أول من مارس العلاج الطبي. مثل التدليك والعلاج اليدوي والعلاج بالماء تألف العلاج في العصر الحديث من التمرين والتدليك والسحب. في أربعينيات القرن العشرين ثم بالاجراءات اليدوية للعمود الفقري في أوائل الخمسينيات من القرن نفسه ثم تجاوز العلاج الطبيعي عنابر المستشفيات إلي العيادات الخارجية والعيادات الخاصة ومراكز إعادة التأهيل. وتصف ويكيبديا العلاج الطبيعي- وأنا أنقل الكلام مختصراً - بأنه إحدي مهن الرعاية الصحية. للحفاظ علي الحركة. وإعادتها إلي الحد الأقصي. والقدرة الوظيفية في جميع مراحل الحياة من خلال تقديم الخدمات في الظروف التي تهدد الحركة بتأثير الشيخوخة. أو الإصابات أو الأمراض أو العوامل البيئية يعني العلاج الطبيعي بتحسين عافية المرء. وتأهيله حركياً. ضمن برنامج للوقاية والعلاج والتأهيل. كل حالة تختلف عن سواها يعني طبيب العلاج الطبيعي بدراسة تاريخ الفرد. وفحصه جسدياً. للوصول إلي التشخيص. ووضع خطة العلاج. وقد يدرج نتائج الدراسات المختبرية والأشعة. وكذلك الاختبار الكهربائي. مثل التخطيط الكهربي للعضلات. واختيار سرعة التوصيل العصبي. أذكر أني زرت عيادة طبيبة في مصر الجديدة. يطلب من الدكتور محمود السباعي - وعيادته في المعادي الجديدة- لأجلس فيما يشبه الاسترخاء. قبالة جهاز أجري حواراً مع خلاياي العصبية بواسطة دبابيس صغيرة نخزت الساقين والذراعين. وحين تأملت النتائج بدت لي أشبه باللوغاريتمات التي كنت أعاني صعوبة فهمه. أصارحك أن صورة العلاج الطبيعي في ذهني. كانت غامضة. أو مشوشة. ولعلها تحددت في إطار الاتهام عمق من فهمي ما تابعته من مساجلات بين أخصائيي الطب البشري "الكيميائي" وأخصائيي العلاج الطبيعي الطب البشري يتفرع إلي فروع: المخ والأعصاب. القلب . الصدر. الكبد. الكلي. الأوعية الدموية. الأمراض الجلدية. السرطان. العظام. الحساسية. الأنف والأذن والحنجرة. الأسنان. الأمراض العصبية والنفسية. أمراض النساء. طب الأطفال. الشيخوخة. وغيرها مما قد يشكل تخصصات دقيقة نادرة الطب الطبيعي يشمل الجسد البشري كله. يعيد إليه عافيته. بالعديد من الوسائل ثمة المكمل الغذائي. والأجهزة التعويضية. وأجهزة المساج. وغيرها من المصطلحات التي تعني محاولة تعويض الجسد الإنساني عن بعض ما فقده. استكمال قدرته علي الحياة الطبيعية. دون عقاقير من أي نوع موظفو العلاج الطبيعي من خريجي كلية الطب الطبيعي. أو التربية الرياضية. ربما اكتفوا- عقب الشهادة المتوسطة - بتلقي دورات تدريبية. تتيح لهم العمل في المراكز والعيادات. كانت زيارتي للمركز الطبي الهائل بداية جولة- لا نهاية لها- بين مراكز العلاج الطبيعي العامة. والخاصة شعرت أني أجلس أمام لجنة امتحان وأنا أواجه الطاولة الخشبية المستطيلة يجلس وراءها أربعة أطباء. فوق الخمسين من العمر. تابعت أحاديثهم الهامسة. وإشاراتهم- بالأيدي والرءوس- نحوي. ثم تعالت أسئلتهم الكثيرة المتقاطعة. أدركت معني الجلسة من سخف الأسئلة. وقسوة الملاحظات ما كرر توضيحه الأطباء الذين ترددت علي عياداتهم ومراكزهم الطبية أشاروا إلي الموضع الذي ينبغي أن تجري فيه العملية . الفقرتين الرابعة والخامسة تعانيان. وتسببان آلاماً. لكن الخطورة في الغضروف الذي أجاد الالتفاف حول النخاع الشوكي. في الفقرة الثانية عشرة الصدرية. والأولي القطنية اعتبر الأطباء إجراء العملية في الفقرتين الرابعة والخامسة آخر ما يمكن صنعه لم يشيروا إلي الخطر الحقيقي في غضروف الشر. قيد حركتي. صعبها بآلام هائلة. رفضت إجراء العملية في غير موضعها لم أفد من القيمة المادية التي تحددت علي نفقة الدولة فضلت أن أخضع لعملة حقيقية يجريها الدكتور علاء عبد الحي. كنت قد أتيت إلي المركز للعلاج الطبيعي. وكان عمل الأطباء أن يشرفوا علي خطوات العلاج. لكنهم أرادوا أن يعبروا عن غضبهم من تصرفي. بسط أحدهم صورة الأشعة قبل العملية. واتجه بالكلام إلي رفاقه: هل رأيتم مثل هذا العمود الفقري؟! "بتسكين القاف" وسأل آخر في لهجة مستغربة: هل تأمل أن تشفي قدمك من السقوط؟ وأمن البقية علي توقعات الفشل بتوجيهات. من المستحيل أن تتحقق. لأني كنت قد أجريت العملية بالفعل! وكما حدثتك. فقد أوقفت العلاج الطبيعي في المركز. ربما لأن الأطباء أصدروا تعليمات بأسلوب التعامل معي. أو لأن تلك كانت أحوال المركز. استمعت إلي تعبيرات لم أكن أعرفها. أو كنت أعرفها دون أن أحتاجها: العلاج الطبيعي بأسلوب التعامل معي. أو لأن تلك كانت أحوال المركز. لم يكن يشغلني سوي أن أنال رعاية طبية جيدة حتي أتخلص مما أعانيه. وأعود إلي حياتي العادية. غاظتني لهجة التعالي التي تكلموا بها كأن الغيظ أو التحدي دافعهم للكلام نصحوا بإجراء الجراحة في الفقرتين الرابعة والخامسة. "تكرر الاسم كثيراً حتي حفظته" فلماذا أجريتها علي يد طبيب آخر. في موضع آخر. يطالعونه في الأشعة. خالط اليأس ما أبداه الأطباء الأربعة من ملاحظات قالوا أن الجراحة أهملت فقرات في العمود الفقري كاان ينبغي علاجها. أدركت أنهم يقصدون الفقرتين الرابعة والخامسة ما أعدوا أنفسهم لقصر الجراحة عليها اكتفي أحدهم بأن أشار إلي ساقي المهيضة. وقال: هل تتصور أن قدمك ستعود إلي حالها؟ كنت قد أجريت الجراحة وعدت إليهم طلباً للعلاج الطبيعي. *** ربما كان سيطول ترددي. أو أني سأعدل عن فكرة النزول في حمام السباحة داخل المركز الكبير. لو أني وظنت إلي ما سأواجهه. لكنني صرت في قلب المياه. بالدفعة المفاجئة في كتفي. واليدين حالتا دون اصطدامي بالقاع. إذا كان قاضي البهار قد نزل البحر في روايتي المنسوبة إليه. فإني لم أمارس السباحة- كما أشرت في مناسبة سابقة- إلا في حمام السباحة بفندق سان ستيفانو. مخيلتي تحفل بالكثير مما التقطته من حكايات البحر: البحارة الغرقي والمردة والغيلان والعفاريت. استغرق سني طفولتي حتي نضج الوعي. أفدت من ذلك في "رباعية بحري" و"أهل البحر" والعديد من قصصي القصار. لكنني- كما يقول المثل - علي البر عوام. أكتفي من عشقي للبحر- أعشقه فعلاً- بالجلوس علي شاطئه. ومراقبة الصيد بالطراحة والجرافة واستشراف الأفق. في داخلي إذن هواجس قاسية من مشاهد أعماق البحر. أعرف أنها مخترعة. وغير حقيقية لكنها تصدني عن النزول إلي البحر. ألحت علي خوفي فكرة عدم استطاعتي الطفو فوق الماء. يجتذبني القاع دن أن ينتبه الصخب من حولي. ثم تجاوزت بي الدفعة المفاجئة ما كان يشغلني من الأسئلة والهواجس. وجدتني في قلب الحمام. عرفت - فيما بعد- أنه يسع حوالي عشرة أشخاص. لكن العدد زاد عن الأربعين أخذني ما حدث. زالت الخضة. رأيت حولي ما لايقل عن الثلاثين يعانون أمراض العمود الفقري. يتحرك بعضهم دون مساعدة. ويظل البعض متشبثاً بالحاجز المعدني. حتي يأتي من يعوم به داخل الحمام لاحظ الطبيب الشاب- ولعله مساعد- ارتباكي. صحبني من وقفتي علي الحاجز. وبدأ في تدريبي علي تحريك الأطراف لا أعرف كيف قذف بي- بعد انتهاء الجلسة - إلي خارج الحمام لأجد نفسي جالساً علي الممر المستطيل. لحقتتني يد خبيرة فاهمة. أعانتني علي النهوض. قبل أن أبدل ثيابي. نصحتني الممرضة أن أغتسل - تحت الدش- من تأثير النزول في الحمام لماذا؟ لأم معدلات الكلور مرتفعة. حتي لا تحدث عدوي من مصابي الشلل الرباعي. فهم يبولون. ويتغوطون. بلا إرادة. في مياه الحمام.. من يدري؟! تذكرت السؤال الذي تكرر علي لسان الأطباء: هل تجيد التحكم في البول والبراز؟ عدم التحكم إذن يعني الحال الذي وشي به سؤال الأطباء. وهو ما لم يحدث رغم معاودة السؤال. فهل تسوء الحالة بما لم أتصوره؟ كانت تلك هي المرة الأولي- والأخيرة- لعلاج الماء. في المستشفي الذي لم أعد أتردد عليه! الحلقة الثامنة السبت القادم