منافس الأهلي.. بورتو يسابق الزمن لضم فيجا قبل انطلاق مونديال الأندية    7 لاعبين مهددون بالرحيل عن ريال مدريد    أحمد الفيشاوي يثير الجدل مجددًا بظهوره ب«حلق» في أحدث إطلالة على إنستجرام    من مدريد إلى نيويورك..فى انتظار ولادة صعبة لحل الدولتين    باريس سان جيرمان ينهي عقدة تاريخية لأندية فرنسا أوروبيًا    بعد رحيله عن الأهلي.. هل طلب سامي قمصان ضم ميشيل يانكون لجهاز نادي زد؟    لاعبان سابقان.. الزمالك يفاضل بين ثلاثي الدوري لضم أحدهم (تفاصيل)    معاكسة فتاة ببنها تنتهى بجثة ومصاب والأمن يسيطر ويضبط المتهمين    متحدث الصحة: نضع خطة طوارئ متكاملة خلال إجازة العيد.. جاهزية كل المستشفيات    ديستربتيك: استثمرنا 65% من محفظتنا فى شركات ناشئة.. ونستعد لإطلاق صندوق جديد خلال عامين    مطالب برلمانية للحكومة بسرعة تقديم تعديل تشريعى على قانون مخالفات البناء    البلشي يرفض حبس الصحفيين في قضايا النشر: حماية التعبير لا تعني الإفلات من المحاسبة    القومي لحقوق الإنسان يكرم مسلسل ظلم المصطبة    الحبس والغرامة للمتهمين باقتطاع فيديوهات للإعلامية ريهام سعيد وإعادة نشرها    «سيبتك» أولى مفاجآت ألبوم حسام حبيب لصيف 2025    مدير فرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية يستقبل وفدا من الصحة العالمية    رئيس النحالين العرب: 3 جهات رقابية تشرف على إنتاج عسل النحل المصري    وزير الصحة: تجاوزنا أزمة نقص الدواء باحتياطي 3 أشهر.. وحجم التوسع بالمستشفيات مش موجود في العالم    بحثًا عن الزمن المفقود فى غزة    مصطفى كامل وأنوشكا ونادية مصطفى وتامر عبد المنعم فى عزاء والد رئيس الأوبرا    20 صورة.. مستشار الرئيس السيسي يتفقد دير مارمينا في الإسكندرية    موعد أذان مغرب السبت 4 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب عشر ذي الحجة    بعد نجاح مسابقته السنويَّة للقرآن الكريم| الأزهر يطلق «مسابقة السنَّة النبويَّة»    ماذا على الحاج إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام؟.. الدكتور يسري جبر يجيب    الهمص يتهم الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج في قطاع غزة    الإخوان في فرنسا.. كيف تُؤسِّس الجماعة حياةً يوميةً إسلاميةً؟.. خطة لصبغ حياة المسلم فى مجالات بعيدة عن الشق الدينى    المجلس القومي لحقوق الإنسان يكرم أبطال مسلسل ظلم المصطبة    وزارة الزراعة تنفي ما تردد عن بيع المبنى القديم لمستثمر خليجي    برونو يحير جماهير مانشستر يونايتد برسالة غامضة    القاهرة الإخبارية: القوات الروسية تمكنت من تحقيق اختراقات في المواقع الدفاعية الأوكرانية    "أوبك+": 8 أعضاء سيرفعون إنتاج النفط في يوليو ب411 ألف برميل يوميا    قواعد تنسيق العام الجديد.. اعرف تفاصيل اختبارات القدرات    ما حكم بيع جزء من الأضحية؟    محافظ القليوبية يوجه بسرعة الانتهاء من رصف وتطوير محور مصرف الحصة    ب حملة توقيعات.. «الصحفيين»: 5 توصيات ل تعديل المادة 12 من «تنظيم الصحافة والإعلام» (تفاصيل)    استعدادًا لعيد الأضحى| تفتيش نقاط الذبيح ومحال الجزارة بالإسماعيلية    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية    تكشف خطورتها.. «الصحة العالمية» تدعو الحكومات إلى حظر جميع نكهات منتجات التبغ    وزير الخارجية يبحث مع عضو لجنة الخدمات العسكرية ب"الشيوخ الأمريكي" سبل دعم الشراكة الاستراتيجية    مصادرة 37 مكبر صوت من التكاتك المخالفة بحملة بشوارع السنبلاوين في الدقهلية    حظك اليوم السبت 31 مايو 2025 وتوقعات الأبراج    لماذا سيرتدي إنتر القميص الثالث في نهائي دوري أبطال أوروبا؟    تفاصيل ما حدث في أول أيام امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنوفية    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    استخراج حجر بطارية ألعاب من مريء طفل ابتلعه أثناء اللعب.. صور    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    رئيس الإنجيلية يستهل جولته الرعوية بالمنيا بتنصيب القس ريموند سمعان    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    "نفرح بأولادك"..إلهام شاهين توجه رسالة ل أمينة خليل بعد حفل زفافها (صور)    قبل وقفة عرفة.. «اليوم السابع» يرصد تجهيزات مشعر عرفات "فيديو"    عمرو الدجوى يقدم بلاغا للنائب العام يتهم بنات عمته بالاستيلاء على أموال الأسرة    عيد الأضحى 2025.. محافظ الغربية يؤكد توافر السلع واستعداد المستشفيات لاستقبال العيد    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقصدي البوح لا الشكوي

هذه الرواية أحدث إبداعات الروائي الكبير محمد جبريل. وهي عن تجربة حياتية قاسية عاشها المبدع في العامين الأخيرين بعد أن أجري عملية جراحية في عموده الفقري.
الرواية أقرب إلي السيرة الذاتية فضلا عن الجانب التسجيلي.
وهي في مجموعها تعكس ما عاناه المبدع الكبير من أحوال واوجاع العلاج الطبي في بلادنا وذلك بعد أن أقعد المرض الكاتب الكبير وأفقده القدره علي الحركة إلي حد كبير ووسط الآلام المبرحة أبدع هذه الرواية.
الحلقة الرابعة
التشخيص هو أساس العلاج. هو البداية للخطوة التي ينبغي اتخاذها. لكن الطبيب الشاب أقدم علي العلاج دون أن يعرف التشخيص. دون أن يناقش الحالة. أو يطالع صوراً للأشعة. أو يقرأ التحاليل.
أين تشعر بالألم؟
أشير إلي أحد المواضع الكثيرة في الظهر والردفين والساقين. تتحول يداه إلي مخالب تدفعني للصراخ. لكنه يواصل ما بدأ. ويردف قوله:
تعب في البداية. ثم تأتي الراحة!
لكن التعب تفاقم. أفصح كما علمت فيما بعد عن بؤرة المرض. وهو النخاع الشوكي. خنقه الغضروف بقسوة لم يقو علي احتمالها. وتأثر له باقي الجسد بالسهر والحمي!
كانت سقطة الحمام سبباً في القطع الجرحي أيمن الجبهة. وتهتك شبكة العين. لكنها السقطة نتيجة لتفاقم مشكلة فقرات الظهر. الغضاريف التي التفت حول النخاع الشوكي. حاصرته. ضغطت عليه. أحدثت تأثيرات قاسية.
النجاع الشوكي جزء من الجهاز العصبي والمركزي. ينقل الإشارات العصبية من المخ إلي الأعضاء. والعكس. ويقوم بعمليات معقدة في أثناء الحركة. والمشي بكيفية مستقلة عن وظائف المخ.
استعدت قول الطبيب: هذه الإصابة نادرة!
وقوله: أنت محسود!
***
لا أشكو. بل أروي ما حدث. أدين لأطباء باسترداد العافية. وطول العمر. رعايتهم وصداقتهم. وإنقاذي في الأوقات الصعبة.
أول الأطباء لم يتح لي رؤيته. وإن التقيته بما لا يليق. اسمه في شهادة ميلادي أنطون. أشرف علي عملية الوضع في السابعة صباحاً. في البيت المواجه لبيتنا الحالي 54 شارع اسماعيل صبري. قال أبي إن التبول في يد الطبيب رافق صراخ الميلاد. أحب الحياة. فلا أنسب ما حدث إلي الرفض. أو ما يشبهه. لعلي كنت أعبر ولو بطريقة فجة عن وجودي في العالم.
ومع أن الحاج محمد سليط كان حلاق صحة. فقد كان أهل بحري يثقون في قدرته علي علاج ما يطرأ علي أجسادهم من أمراض. لم يكن أبي يطمئن إلي يقين الجيران وأبناء الحي بقدرات الحاج محمد العلاجية. لكنه استجاب للنصائح بأن يلجأ إليه لانقاذ ابنيه أخي الأكبر وأنا لانقاذ ذكورتنا علي وجه التحديد. بعد أن أجري الطبيب الشهير لنا عملية ختان. تركت آثاراً معيبة. أفلح الحاج في مدي أيام قليلة بمراهم وأعشاب أن يقضي علي الآثار السلبية بما فرضته من توقعات قاسية.
أدركت قيمة الحاج محمد في بحري عندما صادفت عودتي إلي الحي يوم رحيله. كأن الإسكندرية كلها. وليس بحري وحده. خرجت لوداعه. الصوات. والصراخ. وعبارة لا إله إلا الله ترددها آلاف الأفواه. الحاج محمد شخصية محورية في روايتي "رباعية بحري". لم أناقش استدعاء أحداث الرواية لذلك المعلم المهم في حياة أبناء بحري. النثر الفني عندي يكتب نفسه. وهو ما أتاح للحاج محمد أن يصبح وجوداً فاعلاً في رباعية بحري.
أماا الدكتور مردروس "جارو في روايتي "صيد العصاري"" فقد رعي دون أن يدري طفولتي. وجدنا في العيادة بديلاً للشقاوة والعفرتة في شارع علي تمراز الخلفي. مارسنا أطفال البيت ألعاب الاستغماية. وعنكب يا عنكب. وأولها اسكندراني. وصلّح. وغيرها. واخترعنا بتأثير الحرب العالمية الثانية ألعاباً. فيها صافرات إنذار. وكشافات. ومدافع مضادة للطائرات. ومخابئ. يفاجئنا مردروس بوقفته المتأملة لما ألف رؤيته في توالي الأيام: تناثرنا علي طاولة الكشف. وراء المكتب. الشرفة. قطع الأثاث. المطبخ.
يوقظ استغراقنا في اللعب بالنحنحة. ويكتفي بترك الباب مفتوحاً. ونتقاطر إلي خارج العيادة أمام جسده الممتلئ. وشعره المهوش. وذقنه القصير المدبب. وعينيه الزرقاوين.
ظل الطبيب الأرمني في حياتنا. يلجأ إليه أبي في أوقات مغالبتنا للمرض. يكشف. يشير بالدواء. يواصل متابعة العلاج. حتي نشفي. لا يبرح ذاكرتي تقافزي إلي شقتنا في الطابق الثالث. أهتف بالفرحة لأنه طلب أن تعد لي أمي بعد شفائي من مرض الحصبة أرنباً مسلوقاً.
آخر ما أذكره من الدكتور مردروس نزولي إلي عيادته في الطابق الأول. أدعوه للكشف علي أمي التي شمل الهمود جسدها. فهي لا تستجيب لنداء ولا هزة يد.
حدق الرجل في العينين. ضغط علي البطن المنتفخ. أنصت إلي سكون الصدر. ثم رفع رأسه متأثراً: ماتت!
غاب مردروس عن ذاكرتي.
لم أعد أتردد علي عيادته. ولا حتي أميل بنظراتي ناحيتها في صعودي. أو نزولي. علي سلالم البيت. وقال أبي ذات عصر إن الدكتور عاد إلي بلده أرمينيا. بعد أن حصلت علي الاستقلال.
وحين فاجأتني أْعراض قرحة الإثني عشر. كنت أقود سيارتي لعيادة صديق مريض في سكة المناصرة. تركت السيارة أسفل كوبري شارع بورسعيد. وجاهدت لأصل إلي مقعد أمام دكان عطارة. علي ناصية الطريق. أحاطتني رعاية مصرية طيبة. مضت بي إلي مستشفي عين شمس التخصصي.
تناولت ما حدث بإسهاب في روايتي التسجيلية "الحياة ثانية". ما يهمني تأكيده دور صديقي الجميل الدكتور رضا عبدالتواب "الصداقة تالية لدخولي المستشفي" أعاني قيئاً دموياً. وإسهالاً دموياً كذلك.
حاول الدكتور سامي عبدالفتاح أن يتبين بالمنظار طبيعة الحالة. من أين ينبجس النزف. لكن الدماء الغزيرة منعت الرؤية.
لم يكن في المستشفي طبيب متخصص في أمراض الجهاز الهضمي. بادر الدكتور رضا بإجراء العملية. تناسي تخصصه كجراح وطبيب مسالك بولية.
قلت للدكتور رضا عبدالتواب. في لحظات عدوانية. لا أعرف بواعثها. وإن تفاجئني شخصياً:
أنتم الأطباء جزارون.
قال في ابتسامته الهادئة:
لكننا جزارون إنسانيون!
زرت الطبيب الشهير الراحل مصطفي المنيلاوي للاطمئنان إلي سلامة العملية.
قال بعد أن أجري فحصاً بالمنظار إذا كانت قسوة الحالة قد منعت إجراء العملية بالمنظار. فإنها عملية ناجحة.
توثقت فيما بعد علاقتي بالدكتور رضا عبدالتواب صارت صداقة أعتز بها. لم تتح لها الظروف أن تتواصل بالكيفية التي أريدها. وإن اعترفت بالجميل الذي أسداه لي في الإهداء المطبوع لروايتي "النظر إلي أسفل": "أدين لك بفضل إتمام هذه الرواية. لقد تدخلت في لحظات قاسية. وحاسمة فأضفت إلي حياتي بإرادة الله ما أتاح لي استكمال ما كنت بدأته".
حدثتك عن مفاجأة الآلام المبرحة وأنا أقف في محطة سيدي جابر. أتهيأ للعودة إلي القاهرة. هو صديقي الدكتور محمد زكريا عناني ومنير عتيبة من طبيعة الآلام. رجحا أن تكون نتيجة التعب الذي بذلته في حفل زفاف "نيللي" ابنة أخي. حاولت أن أكون أباً بديلاً. وإن أربكني الإحساس بأني قد لا أكون موفقاً.
ترددت علي أطباء في العظام. أشاروا بمسكنات. حقن وأقراص. ظلت الآلام علي حالها. تفاقمت من حقنة خاطئة. فتوقفت ساقي عن الحركة.
نصح صديقي أنس الفقي رئيس هيئة قصور الثقافة آنذاك "أساء إليه اشتغاله بالعمل السياسي" أن أعرض حالتي علي شقيقه الدكتور المعتز بالله في عيادته بشارع ضريح سعد زغلول. تأمل الأشعة. وملأ الروشتة بأسماء أدوية مسكنة. عادت بتعاطيها تأثيرات القرحة.
أشار المعتز بعلاج أوقف التأثيرات المزعجة. وزدت من تعاطي الزنتاك إلي جانب الأدوية الأخري حتي استردت ساقي قدرتها علي الحركة. إهدائي المطبوع. الثاني. لطبيب هو ما جاء في مفتتح روايتي "مواسم للحنين".
أدين بالفضل كذلك لأطباء. كان أول لقائي بهم في عيادة. أو مستشفي. أزالوا بعلاجهم أعراض المرض. لا أعرف أسماءهم. ولا التقيت بهم قبل المرض الطارئ. هم ملائكة رحمة بلا تشبيه بلاغي. حاولوا العلاج بدافع إنساني. لا شأن له بالعمل الوظيفي. أعرف أنهم كانوا يستطيعون أن يعهدوا بالأمر إلي طبيب معاون. لكنهم أخلصوا في الكشف. وحرصوا علي تخفيف الألم. وعلي المتابعة. دون أن يسألوا إلا عن الاسم!
لعلي أشير إلي قسم المصري أبقراط. الذي صار التزاماً لكل أطباء العالم نقلاً عن كتاب "طبقات الأطباء" لموفق الدين بن أبي أصيبعة : "إني أقسم بالله رب الحياة والموت. وواهب الصحة. وخالق الشفاء وكل علاج. وأقسم بأسقيليبوس. وأقسم بأولياء الله من الرجال والنساء جميعاً. وأشهدهم جميعاً علي أن أفي بهذا اليمين. وهذا الشرط. وأري أن المعلم لي في هذه ا لصناعة بمنزلة آبائي. وأواسيه بمعاشي إن احتاج إلي مال... وأما النسل المتناسل منه. فأري أنه مساوي لإخوتي. وأعلمهم هذه الصناعة إن احتاجوا إلي تعلمها بغير أجرة ولا شرط. وأشرك أولادي وأولاد المعلم والتلاميذ الذين كتب عليهم الشرط. وحلفوا بالناموس الطبي في الوصايا والعلوم وسائر ما في الصناعة. أما غير هؤلاء فلا أفعل له ذلك. وأقصد في جميع التدابير بقدر طاقتي منفعة المرضي. وأما الأشياء التي تضر بهم. وتجور عليهم. فأمنع منها بحسب رأيي. ولا أعطي إذا طلب مني دواءً قاتلاً. ولا أشير أيضاً بمثل هذه المشورة. وكذلك لاأري أنني أعّرض النساء لما يسقط الجنين. وأحفظ نفسي في تدبيري وصناعتي. في الزكاة والطهارة. ولاأشق أيضاً عمن في مثانته حجارة. لكن أترك ذلك إلي من كانت حرفته هذا العمل.
وكل المنازل التي أدخلها. إنما أدخلها لمنفعة المرضي. وأنا في حال بعيد عن كل جور وظلم وفساد إرادي مقصود إليه في سائر الأشياء التي أعاينها في أوقات علاج المرضي أو أسمعها. أو في غير أوقات علاجهم. فأمسك عنها. وأري أن أمثالها لا ينطق به. فمن أكمل هذا القسم. ولم يفسد منه شيئاً. كان له أن يكمل تدبيره وصناعته علي أفضل الأحوال وأجملها. وأن يحمده جميع الناس فيما يأتي من الزمان دائماً. ومن تجاوز ذلك كان بضده.
أشير كذلك استطراداً إلي كتابات كثيرة لمؤرخين يونايين ورومانيين تجد في الطب المصري القديم ما يستحق الإشادة والتقدير. وأنه كان بعداً مهماً في الحضارة المصرية. استكمل مقوماتها في صنع فجر التقدم الإنساني. آلاف البرديات والكتب التي عنيت بالجسم الإنساني. أمراضه وذكاء التشخيص. وطرق العلاج. كل الأمراض التي صاحبت الجسم البشري منذ وجود الإنسان علي الأرض. حتي الآن.
نقرأ علي سبيل المثال ما كتبه هوميروس في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد إن كل طبيب مصري يمتلك خبرة ومعرفة أكثر من بقية الناس. ونقرأ ما كتبه هيرودوت في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد إن فن الشفاء عند المصريين يتحقق من خلال طبيب متخصص في مرض واحد. لا يجاوزه إلي تخصصات أخري. وأن الإتقان هو السمة التي تجمع كل الأطباء المصريين. والأمثلة كثيرة.
***
ربما لم أكن عشت التجربة القاسية. آلام ما قبل العملية وما بعدها. لو أني أجريت أشعة الرنين في الوقت الذي حدد طبيب. اجتبتني اللافتة المحملة بالكثير من المناصب ودرجات الزمالة في جامعات الغرب.
استعدت صورة التابوت الحديدي. يختفي المريض داخله لإجراء الأشعة. لم يكن جهاز الرنين المفتوح قد أتيح في مراكز الأشعة.
لو أني نفذت مطلب الطبيب. كنت تعرفت في فترة باكرة نسبياً إلي طبيعة الآلام. وعالجتها بصورة صحيحة. أو خضعت لعملية أقل خطورة من التي اعتذر عن عدم اجرائها أطباء كثر. قبل أن يعلن الدكتور علاء عبدالحي موافقته.
عرفت متأخراً أن إهمال نذر الخطر لا يلغيه. وأنه قادم بتأثيرات قاسية. عبر عنها الطبيب المساعد بالقول في إشفاق:
إذا رفضت الأشعة فأنت توافق علي احتمالات خطيرة!
عندما صارت الاحتمالات واقعاً. فإنها جعلت الألم في جسدي متصلاً. شحبت تأثيراته أحياناً بتعاطي الأدوية. لكن الألم ما بين صعود وهبوط ظل قائماً. ومتواصلاً. يقيد حركة الذهن والجسد. ويضعني في دوامة إحباط قاسية.
حدثتك في روايتي التسجيلية "الحياة ثانية" عن وفاة الدكتور هاني القاضي بنزيف قرحة الإثني عشر. الحالة نفسها التي رفضت التوجه إلي مستشفي قصر العيني لجراحة تعالجها.. لعل ذلك هو الباعث لأن أفر من العملية. إذا كان هاني القاضي قد مات متأثراً بالمرض نفسه الذي كنت أتهيأ لعلاجه. فلما يدرينيا أن خطراً مماثلاً يتهدد طبيب العظام؟!
أتأمل وجه العملة الآخر: ربما لو أن العملية تأخرت. كانت الغضروف الذي أجاد الالتفاف حول النخاع الشوكي قد أصابه بتهتك. بمعني فقدان القدرة علي الحركة. أو الشلل الرباع. أو الموت.. والتوقع طبي!
تذكرت كريستوفر ريفز بطل أفلام سوبرمان الشهيرة. أصيب في النخاع الشوكي بما أدي إلي شلل رباعي. وعدم قدرة علي التنفس التلقائي. وتوالت المضاعفات المتصلة بالمرض. حتي مات النجم الشهير.
في اليوم التالي. أدرك الدكتور علاء عبدالحي خطورة الحالة. حدد يومين للفحوص والتحاليل. ولإجراء العملية.
جذبني إلي الدكتور علاء عبدالحي ملامح صديقة. كأن كلا منا يعرف الآخر من قبل أن نلتقي. شعرت حين تعرفت إليه للمرة الأولي أني أعرفه من زمن. وأن صداقتنا قديمة. ملامح هادئة. طيبة. وميل إلي الدعابة.
أعرف قرابتك لعبدالحميد السحار.
قال:
إنه خالي. أنا ابن شقيقته زينب.
أضاف متسائلاً:
هل كنت تعرفه؟
أحببته مثل أبي.
تعرف نور وصلاح؟
تذكرت زوجتي نصيحة للدكتور صلاح أن تتولي علاجها من مرض طارئ.. كررت النصيحة لي.
عرض الدكتور علاء أحد مستشفيين يجري فيهما عملياته: كليوباترا. والمقاولون العرب. رفضت "المقاولون" لسابق تجربة. فقد كنت قريباً من شقيقي الذي عاني المرض حتي ودع الحياة. ذكري قاسية من الصعب نسيانها.
اخترت كليوباترا لأنه لم يكن لي به سابق صلة. وافق الدكتور علاء علي اختياري. وحدد أقرب موعد بعد يومين لأن الحالة تستدعي سرعة اجراء العملية. وافقت علي اجراء العملية. أهملت مخاوف الأطباء الذين اعتذروا بحجة خطورة النتائج. أهملت حتي نصائح أهلي وأصدقائي. استقر في خاطري أن منتهي الألم الذي سأعانيه سيكون أقل من الألم الذي حل ضيفاً قاسياً علي جسدي. فيصعب تحمله.
في اليوم التالي. صحبت زينب "تبدل ما كان معتاداً. فأنا الذي أصحب. وليس العكس. صرت مريضاً يحتاج إلي الرعاية".
أين أنت؟
أعادني السؤال إلي نفسي. وإلي زينب الجالسة جواري في التاكسي. أخذني الشرود إلي ما كتبته في عقب تجربتي في روايتي التسجيلية "الحياة ثانية": "أنت تحيا مع الناس. تخالطهم. تمارس الحب والأبهة والسيادة والعبودية والإعجاب والرفض. تسأل وتجيب وتناقش وتبدي الرأي. لكنك في لحظة ما. ولسبب ما لابد أن تكون بمفردك. لا أحد معك سوي نفسك. تفكيرك ومشاعرك وغرائزك التي لا يتدخل فيها أحد. ولا تتأثر بأحد. ولا تؤثر في أحد.. فإذا مات المرء لم يعد هناك شيء إلا الجسد الميت. لا ينزل محبوه القبر معه. مهما يكونون لصيقين به. مهما يسرفون في الندب واللطم والعويل والصراخ. فإن المجاديل لابد أن تغلق علي القبر في النهاية. وينصرف الجميع. ويطل علي استحياء. في البداية بطل بلا ملامح. لكن تأثيراته بلا حدود. اسم ذلك البطل كما نعرف هو النسيان!. يتوقف الزمن في حياة الإنسان. تتوقف حياته. لا زمن ولا حياة. لكن الزمن مع ذلك يستمر في حياة الآخرين. وفي الطبيعة والحيوان والنبات والأشياء: تطلع الشمس كل صباح. ويواصل النيل جريانه. وتظل الأماكن في مواضعها: البيوت والميادين والشوارع والكباري والأشجار. وتقلع الطائرات في مواعيدها. ويسهر الناس في القهاوي والحدائق والمسارح ودور السينما. وتعلو صيحات لاعبي الكوتشينة والطاولة ونداءات الجرسون علي الطلبات. وتهتف المظاهرات بالشعارات المؤيدة والرافضة. ويعلو الأذان في الصلوات الخمس. وتدق أجراس الكنائس. وتصخب الموالد. ويتطوح الذاكرون. وتزغرد النسوة أمام أضرحة الأولياء للنذور التي تحققت. ويرتشفن تطلعاً للخلفة في حلقة السمك. كوباً من دم الترسة. ويعانين آلام الحمل. ويحتفل الناس بالأعياد والمناسبات السعيدة. ويفرقعون زجاجات الشمبانيا في استقبالهم للعام الجديد. وتعقد الصفقات. وتشغي الأسواق بالبيع والشراء. وتتناثر الهمسات في الأركان المظلمة. ويحتدم الفصال والمساومات والإشفاق والاختلاف. وتمتلئ الملاعب بمشاهدي مباريات الكرة. ويتأمل الناس بضائع الأوكازيونات. ويعد الشبان أوراقهم العمل خارج البلاد. أو للهجرة. وتزدحم الأوتوبيسات. ويدخل الأولاد المدارس. وينام المشردون تحت الجسور. ويغرس فلاح نخلة. يعرف أنه لن يجني ثمارها. وتبدأ المناقشات ولا تنتهي حول السؤال: هل كان عبدالناصر زعيماً وطنياً أو ديكتاتوراً؟.. لحطات متباينة. تلاقت وتشابكت في لحظة واحدة. يصعب أن أصفها: الأمل واليأس والحياة والموت والخوف والإرادة واليقين الديني والتعاطف والمشاركة والحب والقلق وتوقع المجهول.. ثم تغطي ذلك كله برداء من السكينة. لا ملامح ولا قسمات ولا صوت. الأبدية مطلقاً. لا قبل ولا بعد. التواصل في الذات. الامتداد في الداخل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.