لقد كانوا يدركون أن العدو لن يلبث أن يخف لنجدة قواته التي تتعرض للهجوم علي امتداد القناة وكانوا يسابقون الزمن ليفرغوا من إنشاء الموقع قبل أن يأتي العدو وبينما كل مجموعة منهمكة فيما هي مكلفة به اصطحب قائد الداورية أفراد المهندسين وهم يحملون الألغام إلي المنطقة التي حددها لإنشاء حقل الألغام أمام الموقع وأخذ يحدد للأفراد الأماكن التي سيدفنون الألغام بها. فيسارعون إلي حفرها ثم يبدأون في تعمير الألغام ويضعونها في أماكنها ويثيرون فوقها طبقة من الرمال. لقد فعلوا ذلك علي جانبي الطريق كما بعثروا بعض الألغام علي الأسفلت وقاموا بإخفائها كل ذلك والأفراد المراقبون الذين عينهم قائد الداورية لا تفارق نظارات الميدان أعينه يراقبون حول الموقع لمسافات بعيدة خشية أن يفاجئهم العدو. وقبل أن ينصرم ذلك النهار كان الرجال قد تمكنوا من إنشاء موقعهم الذي أخذ شكل الدفاع الدائرة مواجهته للشرق. ويرتكز علي مجموعة من الحفر في الأمام والخلف يتوسطها موقع قيادة الداورية فوق كرمة رمل عالية يسار الطريق كانت تبدو كأنها مجمع للقاذورات ورواسب البحر لقد استغل الرجال بعض الأخشاب المكسرة والمتناثرة علي الشاطيء في تلك المنطقة لعمل تكسيات للحفر وأرضيات لها حتي لا تؤثر المياه التي تطفح من داخلها عليهم كما أنهم قد أقاموا بشكاير الرمل التي حملوها معهم مراغل للشرب وإنتاج النيران والشيء الذي حرص قائد الداورية علي أن يكون متوافر للموقع بدرجة جيدة هو عملية الإخفاء. والحقيقة أن الرجال لم يكونوا في حاجة لمن يؤكد عليهم هذه الضرورة فهم يعرفون أن المفاجأة هي سبيلهم الوحيد إلي النجاح ولن تتحقق المفاجأة إلا إذا نجحوا في إخفاء موقعهم. وعندما بدأ الليل يرخي فوق المنطقة ستار الظلام كان الرجال في حفرهم مستعدين لقدوم العدو لم يكن هناك ما يشغل فكرهم سوي المعارك الدائرة عند النقطة القوية كان صوت الانفجارات لا ينقطع خلفهم وكانت السحب السوداء قد بدأت تغطي السماء فوقهم ولكن ماذا حدث عند النقطة؟ ذلك هو السؤال الذي يثير القلق. غير أن الأنباء التي تحملها إليهم أجهزة الترانزستور وتخفف عنهم كثيراً من القلق والتوتر الذي يعانون منه نتيجة لغموض الموقف عند النقطة القوية ومع مرور الوقت وعدم ظهور دلائل تشير إلي قدوم العدو بدأ الرجال يصعدون فوق الحفر ويتجمعون في مجموعات صغيرة يدور بينها حديث لا يبتعد عن المعركة وعن عظمة النتائج التي ينقلها إليهم الأثير من الإذاعات المحلية والعالمية. وكان يوسف يجلس فوق حفرته وإلي جواره الملازم ريان ضابط المدفعية عندما مرقت علي يمينهم مجموعة من الطائرات تطير فوق الملاحات مندفعة نحو الغرب وتساءل الملازم. طيران العدو هذا؟ وأجاب يوسف الذي كان لا يزال يراقب الطائرات: نعم.. إنها سكاي هوك. لقد بدأت المعمعة إذن هل تعتقد يا فندم أن بمقدورنا أن نواجه طائرات العدو؟ وصمت يوسف قليلا قبل أن يجيب: أعتقد أننا سوف ننجح إننا نقاتل الآن شرق القناة لم نكن نريد أكثر من أنر العبور وقد جاء الأمر ولم يعد هناك سبيل إلي العودة إننا الآن أشبه برجال طارق بن زياد لم يعد أمامنا سوي أن ننتصر وسوف ننتصر بإذن الله وعاد الملازم يتساءل بقلق: لماذا لم يصل العدو حتي الآن؟ لقد كنت أخشي أن يصل قبل أن نستعد للقائه ولكن بوسعنا الآن أن نبني قصوراً هنا يبدوا أنهم "تنابلة". وأجابه يوسف ضاحكاً: اطمئن يا حضرة الضابط سوف يصل العدو لا شك أن المفاجأة قد شلت تفكيرهم وأفقدتهم القدرة علي الحركة السريعة لمواجهة هجماتنا ولكنهم بلا شك سيبدأون في التحرك لمحاولة استعادة الموقف المهم أن تأتي مدافعكم في الوقت المناسب. واستمرت عقارب الساعة ترحل لتطوي معها ساعات الليل والرجال في جلساتهم يتجاذبون أطراف الحديث ويقلبون مؤشرات الراديو علي الإذاعات المختلفة يتابعون من خلالها أنباء المعارك في سعادة وفرحة لا مثيل لها في حياة كل منهم. كانت الأنباء توحي بالاطمئنان والثقة ورغم أن قائد الداورية قد أعطي لرجاله أمراً بالراحة ومحاولة نيل قسط من النوم ليستريحوا من عناء المجهود الشاق الذي بذلوه إلا أن أحداً منهم لم يجد لديه رغبة في النوم وبقوا في ذلك المكان يتابعون بآذانهم أصوات المعارك المحتدمة بعنف علي المواجهة ويشاهدون القذائف المضيئة تتدلي في الفضاء خفلهم. وقبل أن تبدأ نسمات الفجر وشعاعه الأبيض في التسلل إلي أرجاء الكون الذي كان ضوء القمر يضئ جنباته وبينما الرجال في استرخائهم فوق الحفر سمع الجندي شعبان عبدالملك جندي المراقبة علي الحد الأمامي للموقع أصواتاً تتزايد في الوضوح حتي أصبح لا يخالجه شك في أنها أسوات الجنازير وهي تطوير الأرض نحوهم فأطلق صيحة مدوية: استعد.. استعد. وانتفض الرجال من أماكنهم وأسرعوا يقفزون داخل حفرهم وعم يرددون صيحة الاستعداد. وتحول الموقع الذي كان منذ لحظة ينعم بالهدوء تحت ضوء القمر إلي بركان يوشك أن يثور ليلقي بحممه إلي تفور بداخله. أعد الرجال أسلحتهم للاشتباك.. وخفضوا رؤوسهم داخل الحفر في انتظار إشارة البدء ومع أصوات الجنازير وهي تقترب كانت آذانهم ترهف السمع وأفئدتهم تنتفض في صدورهم لقد حانت اللحظة التي طالما كانوا يتمنونها لحظة أن يلاقوا العدو وكانوا في ترقبهم ينظرون إلي السماء وقد تناثرت فيها النجوم وألسنتهم لا تتوقف عن الدعاء إلي الله لقد كانوا يطلبون منه العون علي ما هم مقبلون عليه وفي تلك اللحظات يشعر الإنسان بشفافية المؤمن الصادق ويكاد يشعر من السكينة والاطمئنان والقوة التي تتولد بداخله أن أبواب السماء قد فتحت لدعائه وأنه ليس وحيداً في معركته. واستمر يوسف من موقعه وسط الرجال يراقب من المزغل الذي صنعه في حائط الشكاير أمامه يراقب دبابات العدو وهي تواصل اقترابها علي الطريق وتمكن بنظارة الميدان من أن يميز أربع دبابات كانت الأولي تتقدم بقية الدبابات بمسافة كبيرة بينما الثلاث الأخري تتحرك بمسافات متقاربة ومتساوية وتناول ميكروفون جهاز الاتصال اللاسلكي الترانزستور وقال لضباطه. احبسوا النيران واضربوا عند سماع أو طلقة. إن اللحظات التي تسبق تلك المنطقة التي تبدأ بعدها المعارك كأنها لحظة ميلاده فيها قلق الترقب والانتظار وفيها أمل تتعلق عليه القلوب. وصاح الملازم درويش قائد أطقم الصواريخ مخاطباً قائد الداورية. الصواريخ جاهزة يا فندم. انتظر يادرويش. لقد كان الضابط يتململ في وقفته وهو يري الدبابات وقد دخلت في مرمي الاشتباك كان يود في هذه اللحظة لو أصدر قائد الدورية إليه أمر الضرب عليها ولكنه لا يعرف ماذا يدور في رأس هذا الرجل النحيل الذي يلتزم الصمت والدبابات توشك أن تدخل علي الموقع. إن أصوات الجنازير تصل إلي آذان الرجال القابعين داخل الحفر كأنها تدور في رؤوسهم وعبر جهاز الاتصال اللاسلكي جاء إلي قائد الدورية صوت الملازم إبراهيم يقول هامساً كأنه يخشي أن يسمعه العدو: لقد اقتربوا يا فندم هل نبدأ الآن؟ وجاءه صوت قائده: إهدأ يا إبراهيم إني أري شيئاً. واصلت الدبابات اندفاعها غير مبالية بالخطر الذي ينتظرها علي أجناب الطريق ومن أين للدبابة القائدة أن تعرف أن الرمال والأتربة التي تغطي بعض قطاعات الطريق إنما تخفي دماراً هائلاً يتمثل في حقل الألغام إن تقدمهم لا يوحي بأنهم قد تصورا قدرة المصريين علي الوصول إلي هذا المكان ولاشك أنه لو خالج أحدا من أفراد العدو اعتقاد في وجود قوات مصرية هنا فسيتهمونه بالجنون وهكذا أتيح للرجال الذين نجحوا في الوصول إلي عمق الحدود وخلف مواقعه أن يحققوا مفاجأة مذهلة لم تكن متوقعة بالنسبة لقادة وقوات العدو وأخيراً حدث الانفجار المروع. لقد حدث هذا الانفجار في رأس كل منهم مئات المرات وهم يتوقعونه. وتمزق ذلك السكون الذي كان يلف المنطقة منذ أن جاءوا إلي هنا لقد انفجرت الألغام أسفل الدبابة الأمامية وسرعان ما انهالت عليها القذائف الصاروخية من الموقع الأمامي فتوقفت. وقد أحاطت بها هالة كثيفة من الدخان والغبار. وصاح الرجال مهللين: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر ولكن قائدهم صرخ في وسط الموقع. سيطروا علي النيران لا تسرفوا في استخدام الذخيرة. وتوقفت الدبابة الثانية لقد أذهلتها المفاجأة ولعل طاقمها وهو يري الدبابة الأمامية قد تحولت إلي كتلة من اللهب والدخان كان يتساءل في خوف بالغ ما الذي يحدث في الأمام؟ وصاح العريف مصطفي الذي كان يراقب الدبابة المدمرة من خلال جهاز الرؤية الليلي فوق رشاشه: أفراد يهربون خلف الدبابة. فصاح فيه الملازم إبراهيم قائد المجموعة الأمامية خائفاً: ماذا تنتظر أيها الغبي إضرب عليهم واندفعت الطلقات تغمر المسافة بين الدبابة المدمرة والدبابة الثانية وسقط أحد أفراد العدو فانبطح الثلاثة الآخرون علي الأرض خلفه ثم دوي انفجار مروع لاحدي الدانات التي أطلقتها الدبابة الثانية أمام الموقع فسارع الافراد يحمون رؤوسهم داخل الحفر خشية أن تطيح إحدي الشظايا برأس أحدهم ثم ارتفعوا مرة أخري بعد أن وقع الانفجار ليشاهدوا الدبابة تندفع إلي الأمام واعتقدوا أنها تمهد لاقتحام الموقع واستعد حاملو القواذف للتعامل معها غير أنها توقفت فجأة وأطلقت قذيفة مرقت فوق رؤوس الرجال ثم انطلق الرشاش المثبت فوق البرج يغمر المنطقة بنيران كثيفة ولكنها طائشة ثم استدارت الدبابة بسرعة مذهلة بعد أن نجحت في التقاط طاقم الدبابة المدمرة وولت مقدمتها نحو الشرق واندفعت في جنون نحو الدبابتين الخلفيتين اللتين استدارتا عندما شاهدتا الدبابة الهاربة تندفع نحوهما وعندئذ صاح يوسف في قائد أطقم الصواريخ: اضرب يادرويش. كان الملازم يترقب في لهفة هذا النداء فلم يكد قائد الدورية يصدر الأمر حتي صاح في حماس وقوة مضيء إضرب. وانطلقت دانات الهاون المضيئة واندفعت تشق الفضاء بصفيرها الحاد ثم تتدلي فوق الدبابات وأعقب ذلك صرخة الملازم درويش في أطقم الصواريخ. طاقم واحد اشتبك وتوثبت قلوب الرجال في صدورهم من شدة الفرح وهم يتابعون الصاروخ الذي اندفع بسرعة مذهلة وقد أضيئت مؤخرته باللهب الناتج عن احتراق وقود المدفع وكان الرقيب عزت شوشه الذي يمسك بعصا التوجيه أكثر الرجال ترقباً ولهفة وأخذت عيناه تتابعان الهدف علي ذلك الضوء المنبعث من الطلقات المضيئة يوجه العصا يميناً وشمالاً وانشقت حناجر الرجال في الموقع بالهتاف حين ارتطم الصاروخ بالدبابة وأخذوا يصيحون بفرحة طاغية: الله أكبر لقد تدمرت وكأن الرقيب عزت قد أصابه مس من الجنون فأخذ يصيح وهو يقفز فوق الحفرة التي يرقد بداخلها ويلوح بيديه لقائد الداورية: لقد دمرتها يافندم لقد دمرتها وصاح فيه الملازم درويش. انزل حفرتك يامجنون. وضج الموقع بالضحك وغمرته السعادة فقد تحولت جبال الصلب أمام موقعهم إلي حطام وترسب في أعماقهم إحساس بالمقدرة علي صنع الانتصار فها هو العدو الذي كان يختال منذ لحظة كالطاووس يتلقي علي أيديهم صدمة قوية تضع حداً لغطرسته وتقضي علي الأسطورة التي أشاعها عن نفسه والغرور الذي كان يركب رأسه. إن الكراهية والاحساس بالمرارة التي ترسبت كالصخرة في أعماق الرجال جعلت اصرارهم المتزايد علي القتال يثمر تلك النتائج المنطقية التي يحققونها الآن وألقي قائد الدورية نظرة علي الموقف أمامه كانت هناك دبابة ترقد أمام الموقع الأول وقد فرط جنزيرها وتدمرت الصناديق الحديدية علي أجناب البرج كما تدلي الرعاش النصف بوصة علي جانبها الأيمن. أما الدبابة الثانية فكانت غارقة في هالة من اللهب المتوهج وقد اعتلاها الدخان الأسود الكثيف. لقد أصابها الصاروخ في مؤخرتها العريضة وهي أضعف الأماكن التي تصاب فيها الدبابات وظلت مشتعلة حتي انفجرت انفجاراً هائلاً مع الساعات الأولي لصباح اليوم التالي. وعندما سطعت الشمس علي موقع الرجال كان في مقدورهم أن يشاهدوا بوضوح نتيجة قتالهم فجر اليوم. وخرج قائد الدورية يمر علي جنوده يهنئهم ويهنئونه ويشاركهم فرحتهم بالنجاح في أولي معاركهم ثم يذكرهم بحقيقة يدركها تماماً. إن العدو سيعود مرة أخري لقد انتهت المفاجأة وعرف أننا هنا ولكن بوسعكم الآن أن تدركوا أنه ليس أسطورة لقد هربوا عند أول خسارة نزلت بهم سوف يحاولون مرة ثانية ولكننا سنظل نغلق الطريق أمامهم ونوقع بهم أفدح الخسائر ولكن أريدكم أن تهدأوا قليلا وتقاتلوا بثقة وثبات إن خروج الطلقات بغزارة نحو هدف محدد لا يصلح في قتالنا إن معركتنا قد تطول وتشتد حاجتنا إلي كل طلقة تخرج بلا هدف. ودفعهم حب الاستطلاع لإلقاء نظرة علي الدبابة الراقدة كآثار التاريخ أمام موقعهم واخذوا يفحصونها وقد أثار انتباههم بضخامتها وصعدوا فوقها مبهورين وقال العريف عبدالرحمن شلبي ضاحكاً وهو يجلس فوق البرج يخاطب الجندي جابر فتحي الذي يقف علي الأرض يتأمل مدفع الدبابة: خد لي صورة ستة في تسعة يا جابر اقدمها في العمل ضمن مسوغات التعيين. فرفع جابر قاذفة فوق كتفه ووضع احدي عينيه فوق جهاز التنشين كما يفعل المصورون وقال: مازحاً: حاضر يا سيدي سوف آخذ لك صورة ستة في تسعمائة. فقفز عبدالرحمن داخل البرج وهو يضحك ويتظاهر بالهرب وغاب داخل الدبابة برهة وعندما رفع رأسه كان يحمل بين يديه حافظة كبيرة عندما سلمها إلي قائد الداورية وجد بداخلها خريطة كبيرة موضحاً عليها مواقع العدو شمال ووسط سيناء وعاد الرجال إلي مواقعهم يحملون بعض الملابس العسكرية وأدوات للاستعمال الشخصي والمعدات الفنية كتذكار المعركة. عندما أشرقت شمس يوم السابع من أكتوبر علي جبهة قناة السويس كان هناك آلاف من الجنود المصريين فوق اسلحتهم ومعداتهم الثقيلة يقفون حائلاً بين دبابات العدو التي تحاول في استماتة اختراق رؤوس الكباري لتصل إلي القوات المحاصرة داخل النقط الحصينة التي سقط بعضها واستمر البعض الآخر يقاتل علي أمل ان تصل إليه قوات الاحتياطي المكلفة بنجدتهم وكان حصن العدو الشمالي شرق بور فؤاد هو أحد المواقع التي استطاعت ان توقف قوات الاقتحام المصرية وظل محتفظاً بتماسكه أمام عنف الهجمات التي يتعرض لها من الطائرات والمدفعية ولعل رجال الصاعقة يتوقعون ان تصل اليهم قوات تعزز موقفهم الذي كان علي وشك الانهيار ولكن رجال الصاعقة الذين ابروا خلف هذا الحصن المنيع قد ضيعوا أملهم وأغلقوا خلفهم طريق النجدة وزادوا من صعوبة الموقف الذي يتعرضون له خاصة بعد ان افشلوا المحاولة الأولي لتقدم الدبابات بعد ان دمروا منها دبابتين وأصبح ذلك الصباح الذي اشرق علي القوات المتحاربة ثاني أيام القتال يخفي أهمية خاصة والجميع يتوقعون له ان يكون صباحاً تاريخياً. انهمك الرجال في إعداد وجبة الافطار واخذت تعليقاتهم تنتقل عبر الحفر ساخرة ومرحة وعلي الموقع الأول توجه الجندي رجب أبو اليزيد إلي الملازم إبراهيم متولي قائد مجموعته وقال له مازحاً: يا فندم أنا معايا أورنيك عيادة واريد منك ان توقعه لي. وضحك الجنود عندما صاح ضابطهم قائلاً وهو يوجه بندقيته نحو الجندي: يبدو أنني سأتولي الكشف عليك بنفسي. وتوالي الضحك والمرح بين الرجال الذين تخلصوا تماماً من وطأة الانتظار بعد اشتباكهم الأول واصبحوا مؤهلين نفسياً لخوض معارك أخري وكما يقول الجندي دواس "إن الطلقة الأولي نطلق معها عن نفوسنا مشاعر التوتر والقلق". وحول إحدي الحفر تجمع بعض الرجال حول وجبة الافطار المكونة من الفول المدمس والجبن والمربي المحفوظة في انابيب مثل تلك التي يعبأ فيها معجون الاسنان وقال الجندي الحسيني ابن بورسعيد الذي يتوسط تلك المجموعة: أين أنت يا أمي لتري ما يفعله ابنك؟ فنظر إليه الجندي الجيوشي وقال مازحاً : إنها لو عرفت اين انت سوف "ترقع بالصوت الحياني". ضحك الحسيني كأنه يري حالة أمه وقال: عندك حق لقد كانت تتمني زواجي ومن يدري؟ لعل الله يحقق لها أمنيتها. وقال الجندي الجيوشي متسائلاً: هل هناك في مصر كلها من يتصور أننا هنا؟ وأجاب الجندي صبري عرفات وهو من بحري الإسكندرية: اسمعوا يا تحف ماذا تقول الإذاعات الأجنبية حتي إذاعة العدو تعترف بنجاحنا ودين النبي لتدخلوا التاريخ من أوسع بوابة. فضحك الحسيني وقال: أنت فعلاً تحتاج إلي أوسع أبواب التاريخ لتستطيع الدخول. وانتصف نهار ذلك اليوم وارتفعت الشمس تقدح بحرارتها أجسادهم الملتهبة من إلصاق ملابسهم التي تبللها مياه البحر المالحة بالأمس ثم جفت وتصلبت علي اجسادهم كأنها منشآة واخذت تسبب لهم ألما ظل يتزايد مع مرور الوقت حتي افضي إلي حدوث تسلخات مؤلمة وظلوا في اماكنهم يتجاذبون اطراف الحديث وينتظرون قدوم العدو. وفي الساعة الثانية بعد الظهر صاح جندي المراقبة في الموقع الأمامي تلك الصيحة التي لا يكاد يسمعها الرجال حتي يسارع كل منهم إلي حفرته ويتناول سلاحه ويستعد للقتال لقد عاد العدو كما كانوا يتوقعون وضاقت حدقات عيونهم وهي تتطلع من أسفل خوذات الصلب فوق رؤوسهم تراقب ذلك الغبار الذي يقترب من بعيد ويرهفون السمع إلي أصوات الجنازير وهي تتزايد في الوضوح مع اقتراب مركبات العدو وعاد الصمت المشوب بالترقب يخيم علي الموقع وكان واضحاً لاعينهم ان العدو يتحرك علي الطريق وعلي اجنابه كما كان عرض سحابة الغبار التي تثيرها الجنازير توضح لهم ان قوة العدو هذه المرة أكبر من المرة السابقة واستطاع قائد الموقع الأمامي أن يحصي سبع قطع علي العدسة المقعرة لنظارة الميدان وعندما أبلغ الموقف لقائد الداورية التفت هذا الي ضابط المدفعية الذي كان يقف في حفرة الي جواره وقال: يبدو اننا سنحتاج اليك الآن هل أنت مستعد؟ فأجاب الضابط بثقة تامة: مستعد يا فندم سوف نسقط الجحيم فوق رءوسهم. إذن اتصل بالكتيبة وأعد معها بيانات الاشتباك. وبينما كان الملازم يحاول تحقيق الاتصال اللاسلكي بموقع المدافع في بورسعيد جاء الي قائد الداورية صوت الملازم ابراهيم في جهاز اللاسلكي يقول: ان بعض الدبابات توارت خلف التبة الصناعية علي الشاطيء.. انهم فيما يبدو ينوون اقتحامنا تحت ستر نيران هذه الدبابات. وعندئذ صرخ يوسف وسط الموقع بأعلي صوته: اخفضوا رءوسكم لا أحد يتحرك في الموقع. ولقد صح ما توقعه ضابط المجموعة الأمامية إذ اتخذت أربع دبابات من تلك التبة الرملية والتي تبعد عن الموقع قرابة كيلو متر ساترا لها وبدأت تقصف من خلفه موقع الرجال قصفا منفردا ولكن متتاليا.. بيد أن الدانات وهي تمرق فوق رءوسهم كانت تعبر الموقع لتصطدم بالأرض خلفه محدثة انفجارات هائلة تهز الأرض بعنف حتي كانت الرمال تنهال علي الجنود وقد تكوموا داخل الحفر البرميلية يترقبون أمر الاشتباك واستمر قصف الدبابات للموقع قرابة الساعة لم يكن هناك أحد يستطيع أن يرفع رأسه عندما يسمع الصوت المكتوم لانطلاق الدانات صم صفيرها فوق رءوسهم لتصطدم بالأرض في أماكن متفرقة ورغم عنف القصف وشدته فلم تكن هناك خطورة حقيقية علي الموقع ولعل الفشل في ذلك يرجع الي براعة الاخفاء الذي كان عليه والذي جعل من الصعوبة بمكان ان تحدد دبابات العدو أماكن الرجال بدقة. حتي انه خلال هذه الساعة لم تسقط دانة مباشرة علي الموقع وكان الشيء الذي يشغل فكر قائد الداورية هو ماذا بعد هذا القصف الأهوج؟ لابد أنهم يمهدون للتقدم وهذا ما حدث فعلا فصاح الملازم ابراهيم في جهاز الاتصال يخاطب قائده: هناك دبابتان تتحركان بسرعة علي الطريق وخلفهما عربة محملة بالجنود هل سنتركهم حتي يصلوا الي حقل الألغام؟ انتظر قليلا يا ابراهيم. وأخذ يوسف يعمل فكره في هذا الموقف بسرعة يستطيع معها مجاراة سرعة العدو في الاقتراب لقد بدا له لأول وهلة أن يترك الصواريخ تتولي بفاعليتها وشدة تدميرها إيقاف العدو وقال يجيب ضابطه الذي كان ينتظر علي اللاسلكي وقد استبد به القلق: بلغ درويش يستعد للاشتباك حينما تصل أول دبابة بمحاذاة الدبابة المدمرة في الخلف. وانتقل الأمر سريعا حتي وصل الي أطقم الصواريخ وبقوا في حفرهم يقبضون علي أجهزة الانطلاق ومركبات العدو تواصل تقدمها علي الطريق بينما الدبابات الأربع تواصل قصفها للمنطقة خلف الموقع وان كانت آخر قصفة قد سقطت أمامه ولليسار منه حيث كان الرقيب محمد صابر يتولي قيادة مجموعة الرجال يسار الموقع وعندما اقتربت الدبابة الأمامية من الدبابة المدمرة في الخلف صاح الملازم درويش: طقم اثنين اشتبك. وانطلق الصاروخ الصغير من فوق منصته واندفع للأمام مثيرا لبعض الأتربة خلفه وارتفعت رؤوس الرجال في حذر تراقب الصاروخ الذي يثير بينهم روحا حماسية قوية ويعطيهم الاحساس بالتفوق وامتلاك اليد الطولي علي العدو ولكن الصاروخ هذه المرة جاء مرتفعا عن هدفه ولكنه أثار في قلب الجندي الواقف فوق البرج خلف الرشاش رعبا هائلا فترك نفسه لينزلق داخل الدبابة التي استدارت علي الطريق مؤثرة عدم التورط في اقتحام موقع يطلق الصواريخ ولكن الملازم درويش الذي جن جنونه عندما أخفق الصاروخ في اصابة الهدف عاد يصيح في غيظ: طقم ثلاثة اشتبك تحكموا أكثر والا قتلتكم بيدي. وأطلق الجندي سويلم صاروخا آخر تجاه الدبابة التي كانت قد أكملت استدارتها وبدأت تتراجع بسرعة نحو الشرق وفي الثواني القليلة التي استغرقتها رحلة الصاروخ الي الهدف كانت عيون الرجال تنظر الي السماء وتتضرع الي الله أن يصطدم الصاروخ بالدبابة وكأن السماء قد فتحت أبوابها لدعائهم كما فتحت أبواب الجحيم لهذه الدبابة التي ألحقها الصاروخ بمصير زميلاتها وسط فرحة الرجال وسعادتهم واشراقة وجوههم بعد أن استبدت بها مشاعر القلق والتوتر عندما أخفق الصاروخ الأول. ولاذت الدبابة الثانية بالفرار تسبقها العربة المدرعة وأسرعتا بالاختفاء وراء التبة التي تحمي خلفها بقية الدبابات وعاد القصف من جديد ولكن الدانات في هذه المرة قد اقتربت من الموقع الأول بشكل خطير. وأصبحت الشظايا تصفر فوق رءوس الرجال مما دعا الداورية الي أن يطلب قادة المجموعات الفرعية بعد كل انفجار يهز الموقع ويتساءل: هل حدث شيء؟ وكانت اجاباتهم تهديء مخاوف وتبعث الاطمئنان الي نفسه. وقال الملازم ريان ضابط المدفعية للنقيب يوسف: يا أفندم أأمر درويش يطلق صاروخا وسط التبة؟ ان الصواريخ تسبب لهم ذعرا ولمعت عينا قائد الداورية لهذه الفكرة الرائعة وصاح في ضابط الصواريخ: يا درويش أطلق صاروخا وسط التبة. ثم نظر الي ضابط المدفعية وقال: ليتك تستطيع أن تسقط الجحيم فوق رءوسهم الآن. سأحاول وسرعان ما انطلق الصاروخ نحو التبة ليثير وسط الدبابات سحابة هائلة من الرمال مختلفة بدخان الانفجار الأسود وكان ذلك كافيا لتصمت مدافعها بل ان ذلك كان كافيا تماما ليعرف العدو أنه لا فائدة من محاولاته للمرور وبدأ يتراجع. ونظر يوسف الي الملازم ريان وتساءل: ما أخبار المدفعية يا ريان؟ يبدو أن الموقف لديهم الآن لا يسمح بمعاونتنا. ولاحظ يوسف ان الملازم يشعر بضيق شديد فابتسم في وجهه وقال يخفف عنه: ولا يهمك انهم ينسحبون وأرجو ان تبدأ من الآن في التأكيد عليهم بضرورة معاونتنا وفي المرة القادمة انني أتوقعها أشد عنفا من سابقاتها. ولم يستطع يوسف ان يمنع عن نفسه لمسة حزن أصابته وهو يري الأمور تتعقد حوله فالنقطة مازالت صامدة والمدفعية الآن لم تقدم له العون في معركته والوقت يمضي وكل شيء معه يتناقص وكان يفكر في الهجوم التالي للعدو كيف سيكون وسط هذه الظروف العصيبة ومع كل هذا أثر أن يعطي لنفسه ورجاله فرصة للراحة فهم في أشد الحاجة اليها الآن وبدأ الهدوء يعود الي الموقع مرة أخري وأخذ الرجال يطلون برءوسهم فوق الحفر وقد تنفسوا الصعداء وعلي الأفق البعيد كانت دبابات العدو تتواري في كتل من الغبار الذي تثيره الجنازير وهي تبتعد عن المنطقة ويبتعد صوتها حتي يتلاشي من آذان الرجال ونظر قائد الداورية الي الجندي الذي عن يمينه وقال متسائلا: ما أخبار الي يا نوار؟؟ لقد كنت أخشي أن يكون لسيادتك رأي آخر. كبقية رجاله لماذا؟ يقول يوسف لقد تلقيت في تلك الليلة موقف التعيين في المجموعات وأصبت بصدمة عندما علمت ان أحدا في الموقع لم يكن يحمل علبة تعيين واحدة كما ان الماء كان علي وشك النفاد ولولا أننا وضعنا نظاماً قاسياً للإعاشة لنفدت إمداداتنا منذ أمس ان ذلك المكان علي شاطيء البحر يثير حاجة الإنسان إلي الطعام والماء. ولقد حاولت الاتصال بقيادة وحدة المشاة لأستفسر عن الموقف ولكننا لم ننجح في ذلك ولم أجد غير السماء أتطلع إليها وفي نفسي يتردد دعاء لا ينقطع إلي الله ان يجعل لنا من هذا الموقف مخرجاً. وأخذت الساعات تمضي بطيئة ثقيلة الوقع علي نفس قائد الداورية الذي كان يحاول في هذه اللحظات ان يقدر الخطوة التالية للعدو لقد مرت ليلة أمس ونهار ذلك اليوم وأوشك الليل كذلك علي الأنتهاء ولم يأت العدو فهل كانت الدبابات الثلاث التي تدمرت له كافية لمنعه من معاودة الهجوم؟ إنه لا يعتقد ذلك فالنقطة مازالت قائمة وهو ورجاله يقفون في صلابة أمام محاولات العدو للمرور إليها ولكن هل العدو سيسمح باستمرار هذا الموقف؟ إن المنطق يقول لا فلاشك ان العدو يريد ان يستغل نجاح هذه النقطة في الصمود ويدعمها حتي تبقي في يديه ورقة رابحة بعد ان انهارت نقطه الحصينة علي شاطيء القناة. وخرج يوسف من هذا التقييم للموقف ان الصباح لابد ان يحمل إليه إجابة علي ما يثيره هذا الموقف من تساؤلات.