تفرق الرجال إلي أماكنهم وقد غمرهم إحساس بالسعادة والقلق أيضا فها هي المعركة تدق علي الأبواب. ذلك ما كانوا يتمنونه وهي لكونها مازالت مجهولة النتائج فإن القلق لابد أن يكون قاسماً مشتركاً لكل الأحاسيس التي تتلون بها مشاعرهم. وعلي السفينة الثانية التي تسير بمحاذاة سفينة القيادة وللخلف منها قليلاً أخذ الملازم أول ابراهيم بعد أن أبلغ الجنود بتوقيتات المعركة يتنقل بينهم يشيع فيهم بقفشاته وروحه المرحة جواً من السعادة والمرح ليزيل عنهم ثقل الإحساس بقرب المعركة ووقف عند المجموعة التي يجلس بينها الرقيب عبدالمنصف وقال له ضاحكاً: ألم تسدد ديونك يا عبدالمنصف؟ش فضحك الرقيب الوديع وأجاب: لقد سددتها عن آخرها يا فندم ولم يبق غير أن نسوي حسابنا مع العدو وليس مهماً أن نعيش بعد ذلك أو نموت. فقال الملازم مبتسماً وهو ينصرف إلي مجموعة أخري: سوف تعيش إن شاء الله يا عبدالمنصف. ولن نسبق الأحداث وهي تتعاقب لتقرب كلا منهم من مصيره وقدره. وكلما زاد ابتعاد السفينتين وتوغلهما داخل البحر تعرضتا لتلاعب الأمواج الأمر الذي أصاب بعضهم بدوار البحر وحلا للبعض الآخر أن يتخذ من تلك المواقف التي تصاحب ذلك من صفرار وجه وغثيان مادة للتندر والسخرية حتي كانت السفينتان وهما تقومان بتلك الرحلة نصف الدائرية حول النقطة القوية شرق بورفؤاد مسرحاً لمواقف تبعث علي الضحك وتثير جواً من المرح كأنهما لم تكونا تقلان رجالاً في طريقهم لملاقة العدو في أشرس وأخطر المعارك. وفي مقدمة السفينة القائدة كان الجندي صبري عرفات يقف إلي جواره رشاشه يراقب الشاطئ بنظارة الميدان واقترب منه أحد الصيادين ووقف يتطلع ببصره نحو ذلك الشيء الذي يراقبه الجندي الذي يبدو من هذا المكان كأنه جزيرة عائمة. وعندما أحس صبري بوجوده رفع النظارة عن عينيه والتفت إليه متسائلا: هل أنت خائف يا حاج؟ فابتسم الرجل الطيب ابتسامة كشفت عن الفراغات الواسعة بين أسنانه الداكنة وأجاب: نحن يا ولدي لا نخاف إلا الذي خلقنا.. إن البحر العالي يقتل فينا معني الخوف. فضحك الجندي وقال: لقد أردت أن اطمئنك أنك بين رجال الصاعقة فنحن مثلك لا نعرف الخوف.. فنظر إليه الرجل نظرة عتاب وهز رأسه وقال في نبرة عميقة: يا بني نحن لا نخاف ليس لأنكم معنا بل لأن الله معنا وأنتم في أشد الحاجة إليه أكثر منا.. وشعر الجندي بكلمات الرجل العجوز تتسرب إلي شعاب نفسه وتهز بإيمانها أوتار فيه. وقال هو يهز رأسه مؤمناً: غلبتني يا حاج إننا حقاً في أشد الحاجة الآن إلي الله. وعندما تطلع الجندي إلي وجه الصياد وجد عينيه كمن تتسلق بنظراتها أشعة الشمس في طريقها إلي السماء لقد كان الرجل يبتهل في صمت وقد دمعت عيناه. وأخذ يوسف وهو يجلس مع الملازم ريان ضابط نقطة ملاحظة المدفعية 120 مم فوق كابينة القيادة ينظر إلي ساعته بين الفينة والأخري ثم يرفع نظارة الميدان إلي عينيه ليجوب بها الشاطئ البعيد. وفي احدي المرات سمعه الملازم يقوم وهو يشير بيده في اتجاه الشاطئ: ها هي النقطة القوية.. لقد وجدتها. فاقترب ريان منه وتنازل نظارته وراح هو الآخر يبحث عنها ويوسف يوجهه إلي موقعها حتي أمكنه أخيراً أن يتوقف بنظارته عندها ونظر الملازم إلي ساعته وقال: الساعة الثانية إلا ثلاث دقائق. فرد قائد الدورية بصوت كالهمس وهو ينظر إلي ساعته: نعم.. الثانية إلا ثلاث دقائق. ثم رفع عينيه إلي السماء وقال في ضراعة: يا رب. لقد كان اقتراب ساعة الصفر يثير في نفوس الرجال احساساً متزايداً بالحاجة إلي الله وكان يفرض علي مواقعهم فوق سطحي السفينتين صمتاً يشوبه القلق والتوتر. ونظر يوسف إلي قبطان السفينة الذي كان علي مقربة منه وسأله: كم نبعد الآن عن منطقة الوصول يا ريس؟. فألقي الرجل نظرة خبيرة إلي المياه وإلي السماء وقال في هدوء: أمامنا ساعة زمن. واستمرت السفينتان في اندفاعهما نحو الشرق. وكانت علامات الجد والاهتمام كلما اقتربت عقارب الساعة وهي تقطع الدقائق والثواني الأخيرة إلي ساعة الصفر تميز أحاديث الرجال بعد موجة من الضحك والمرح وانهمكوا في التتميم علي أدواتهم ومعداتهم وأخذوا يثبتون كل ما يحملونه من تعيينات وذخيرة حول أجسادهم ولبسوا جاكتات النجاة التي كانوا قد تخففوا منها وهم ينقلون حاجياتهم إلي السفينتين قبل الابحار كما أخذوا يتجمعون في مجموعات تمثل كل وحدة قارباً صغيراً من القوارب الستة التي ستنقلهم إلي الشاطئ. وبينما كان العمل علي أشده فوق ظهري السفينتين صاح أحد جنود المراقبة علي مؤخرة السفينة الثانية صيحة مدوية: طيران.. طيران. وتعلقت عيون الرجال بذلك الاتجاه الذي أشار إليه جندي المراقبة. فإذا بطائرات الميج- 17 تمرق تباعاً علي ارتفاع منخفض يسار السفينتين وتفجر مشاعرهم وانطلق هتافهم يتردد في قوة وحماس جنوني وهم يلوحون للطائرات الله أكبر.. ربنا ينصركم.. الله أكبر. ولم يكن هناك اتفاق بين هؤلاء الرجال الذين يراقبون الطائرات فوق مركبي الصيد في عرض البحر وبين آلاف المقاتلين علي امتداد الضفة الغربية للقناة الذين كانوا يرددون بلا انقطاع في تلك اللحظة نفس الهتاف السحري الذي توحدت عليه الأفئدة في كل موقع من مواقع الانطلاق في ذلك اليوم العظيم. ظلت عيون الذين يحملون نظارات الميدان تراقب الشاطئ في اتجاه النقطة القوية. وصاح الملازم أحمد خميس قائد احدي المجموعات الفرعية في الدورية: دخان علي النقطة.. لقد بدأت المعركة. ووصل إلي أسماعهم صوت انفجارات ثقيلة تتوالي في اتجاه عامود الدخان الأسود الذي غطي الشاطئ قبالة السفينتين وصاح الرقيب أول حجاج في سعادة غامرة وهو يتطلع إلي السماء: الله أكبر.. عليهم يا رب. وعانق الرجال بعضهم بعضاً ودمعت عيونهم وهم يشاهدون الطائرات المصرية تعمل فوق النقطة القوية بحرية تامة بعضها يرتفع إلي السماء وبعضها ينقض علي الموقع ثم ترتفع الطائرات المنقضة وتنقض الطائرات المرتفعة فيما يشبه دوران الساقية لكنها ساقية النيران. لقد بدأت الحرب إذن وجاء اليوم الذي كان غائباً في ظلمات الأيام والسنين وحانت الساعة المجهولة التي تمناها الرجال ليثأروا من العدو وينتصروا لبلدهم الذي كان قبل هذه اللحظة يخيم عليه سحب الهزيمة ولم يدرك أحد ممن كانوا يزاولون حياتهم اليومية في الجبهة الداخلية أن هؤلاء الرجال قد حملوا كلمة مصر إرادتها لتدك حصون العدو وتقضي علي اسطورة الجيش الذي لا يقهر ولقد ازدادت لهفتهم علي الوصول يتطلعون إلي الشاطئ الذي يبدو علي البعد كأنه يركب قمم الأمواج وينظرون إلي قائدهم الذي كان يراقب كل شيء من خلال نظارته وكانت فرحته الواضحة وهو يتحدث إلي الملازم ريان تبعث بأن الأمور تسير علي خير ما يرام انهم متلهفون علي أداء دورهم وكأنهم يخشون أن تنتهي المعركة قبل أن يصلوا لقد كانوا كمسافر في قطار وهو في عجلة من أمره يخيل إليه من لهفته ورغبته الجارفة في الوصول إلي محطته أن القطار يسير بطيئاً متهملاً بينما هو في أعماقه سباق يكاد يدفعه إلي النزول والعدو لعله يصل قبل القطار. وعندما بدأت المدافع الثقيلة بأصواتها المدوية وانفجاراتها الرهيبة تلتقط الخيط من الطائرات التي عادت إلي قواعدها متفرقة وتواصل مهمة التمهيد النيراني لقوات الاقتحام ود الرجال لو كان في مقدورهم في تلك اللحظة أن يفعلوا شيئاً. كان حماسهم طاغياً والفرحة التي تلمع في عيونهم تشع في جنبات نفوسهم احساساً بالثقة في النصر يبدد ذلك القلق الذي كان يشوب أحاديثهم منذ لحظات. وفي ثلاجة السفينة الثانية جلس عدد كبير من الجنود يستمعون إلي أجهزة الراديو الصغيرة التي كانوا يحملونها وينتظرون أن تنقل إليهم البيان الأول عن المعركة وعندما بدأت الموسيقي العسكرية تمهد لإعلان ذلك البيان أرهفوا السمع وقد ساد بينهم صمت تكاد تسمع من خلاله أنفاسهم المتلاحقة كأنهم يتسابقون. وبعد أن فرغ المذيع من قراءة البيان التاريخي استبد بهم الحماس فانطلقوا ينشدون في قوة "بلادي بلادي" وما هي إلا لحظات حتي كان النشيد يتردد فوق الشفينتين ويختلط بصوت الأمواج والماكينات. كأنها تردد لحن الرجال واستمر الاندفاع السريع نحو الشرق ولكن إلي أين ولماذا؟. لقد كانت مهمة هؤلاء الرجال الأبرار خلف قلعة العدو الحصينة شرق بورفؤاد لمنع العدو من الوصول إليها عندما تتعرض لهجوم قوات المشاة. وكان يتحتم عليهم أن يظلوا صامدين في مواقعهم خللف النقطة يقاومون كل محاولات العدو لتدعيمها ويستميتون في إغلاق طريق التقدم الوحيد الذي يخترق الشريط الساحلي الضيق ضرق النقطة وكان ما يحملونه من ذخيرة ومؤن يتيح لهم الاستمرار في مهمتهم إلي اليوم التالي. حيث تكون عناصر المشاة المكلفة بالهجوم علي النقطة قد نجحت في إسقاطها والاستيلاء عليها ومن ثم يصبح بمقدورها دفع مفرزة متقدمة لتحقيق الاتصال مع قوة الصاعقة. وبينما كان الرجال فوق السفينتين يستعدون لبدء عملية الإبرار صاح ربان السفينة القائدة: لقد وصلنا يا رجال. وهدأت سرعة السفينتين واستدارتا لتولي كل منهما مقدمتها نحو الجنوب واستمرتا تشقان صفحة المياه نحو الشاطئ الذي بدا مع اقترابهما كأنه يرتفع من تحت الأمواج وكان الضابط وأفراد المراقبة يجوبون بنظارات الميدان منطقة الإبرار خشية أن يكون هناك عدو يتربص لهم لقد بدأت معركتهم منذ هذه اللحظة تدخل مرحلة حاسمة تجعل من الحرص والحذر واجباً يفرض عليهم أن يللتزموا به قبل أي خطوة يخطونها وقبل أي عمل يقدمون عليه وتوقفت نظارة الميدان في يد قائد السرية مع أنفاسه حين خيل إليه أنه يري أفراداً للعدو علي الطريق وصاح في الرجال حوله: كونوا مستعدين للاشتباك من الآن يحتمل وجود عدو علي الشاطئ. واستمرت السفينتان في اقترابهما وقد أحالهما إلي خليتي نحل تغليان بالحركة والنشاط وبدأ كلل فرد يشمر عن ساعديه استعداداً لتفريغ الحمولات إلي القوارب الستة لقد جاءت اللحظة التي كان قائد الدورية يخشاها ففوق هذا الموج العالي الذي يلعب بالسفينتين كأنهما دمي صغيرة أن تنقل أفراداً ومعدات إلي الشاطئ. إن ذلك ليس بالعمل السهل ولعل يوسف وهو يراقب تلك الأشياء التي تثير مخاوفه علي الطريق كان يتضرع إلي الله ألا يكونوا أفراداً للعدو. حتي لا يكون الإبرار حافلاً بالمشاكل اللخطيرة التي قد تودي بالرجال وبالمهمة. واقترب ربان السفينة القائدة من النقيب يوسف وقال له: ستنزلون هنا يا كابتن رجالنا سيوصلونكم ويعودون بالقوارب. فنظر قائد الدورية إلي الشاطئ الذي بدا له بعيداً بعض الشيء وقال للرجل في رجاء: ليتك تساعدنا بالاقتراب قليلاً حتي توفر علينا مشقة التجديف. إن الأمواج عالية كما تري وستكون الحمولات فوق طاقة القوارب.. ولكن الربان اعتذار قائلاً: والله يا بني كنت أود لو حملتكم إلي هناك. ولكن الأرض لا تسمح فأنت لا تستطيع أن تقف علي قدميك في الماء بعد عشرة أمتار من هنا. ولم يجد قائد الدورية بداً من إصدار أمر النزول إلي القوارب. وعلي الفور جذب الرجال حبال الجر التي تربط القوارب بالسفينتين وكان الموج يتلاطم بينهما. والرجال يستميتون فوق الحبال حتي لا تبتعد القوارب وتسقط تلك الحمولات الضخمة في جوف المياه. لقد كانت الصواريخ من طراز "ساجر" ترقد في أماكنها داخل الصناديق الطويلة وقذائف الهاون متراصة بداخل الصناديق المربعة فمن يستطيع أن يتحمل الصدمة بفقد أي من هذه الصناديق الآن. للقد كان صراعاً مريرياً وشاقاً. ولكن الرجال وهم يصارعون تلك الظروف كانوا في قمة حماسهم لقد تولدت فيهم قوة هائلة تمكنوا من تفريغ حمولات السفينتين إلي القوارب في فترة وجيزة وإن لم يخل الأمر من بعض ما يبعث علي الأسف فقد سقطت احدي مواسير الهاون في البحر كما أن بعض بطاريات أجهزة اللاسلكي الاحتياطية قد بللتها المياه ولكن ذلك ليس بالشيء الذي يثير الخوف. أخذ الجنود في كل قارب يتبادلون التجديف كالصيادين في قوة وعنف كانوا وكأنهم في سباق وقائد السرية يقف وسط أحد القوارب ويصرخ فيهم أن يسرعوا. لقد كانت القوارب تنوء بحمولاتها وهي تتحرك ببطء نحو الشاطئ والأفراد يتأرجحون بداخلها مع حركة الأمواج وهي تعلو بهم تارة وتهبط تارة أخري. ولاحظ يوسف أن أحد القوارب قد حملته الأمواج بعيداً إلي اليسار فصاح في أحد القوارب القريبة منه: نادوا علي القارب المنحرف يساراً لينضم للداخل. وعلق الجندي حسني في قارب القيادة وهو يجذب المجداف إلي صدره في قوة قائلاً: يبدو أنهم ينوون الإبرار في العريش. فرمقه قائده بنظرة حادة جعلته يطبق شفتيه كإعلان أسف. وكلما ازداد اقتراب القوارب من منطقة الابرار ازداد تأرجحها فوق الأمواج التي تتوالي في اندفاعها نحو الشاطئ متكسرة عليه وهي تنتشي بالرغوة البيضاء تتهادي فوق قمم الموج حتي تتلاشي عند ذلك الخط غير المستقر والمتعرج الذي يمثل نهاية البحر وبداية الساحل الرملي. وظل قائد الدورية يصرخ في القوارب التي يحملها الموج بعيداً عن الاتجاه المحدد للإبرار حتي بح صوته والموج كأنه يسخر من قوة الرجال الذين لا يملكون إلا أن يجاهدوا قدر طاقتهم للوصول إلي الشاطئ. وقال أحد الصيادين للملازم أول إبراهيم متولي الذي كان يقود قارب الاستطلاح الأمامي: سوف ننزل إلي المياه لسحب القارب يا كابتن ونريد مساعدة بعض الرجال لأن الموج يتعبنا. وأجابه الضابط: انزل انت أولاً إلي الماء واسحب القارب نحو الشاطئ وسوف نساعدك عندما يصل عمق الماء إلي ركبتك حتي لا يؤثر البلل في كفاءة الأفراد. وعلي الفور نزل الصيادان إلي البحر وأمسك كل منهما بالحبل المثبت علي جانبي القارب وكان الماء يغطي صدريهما وهما يشقان طريقهما نحو الشاطئ والأمواج تندفع حولهما متعاقبة وصوت البحر يختلط بصوت الانفجارات التي بدت بعد ابتعاد القوارب عن هدير الماكينات في السفينتين أشد وضوحاً. لقد كان رجال هذه اللدورية يدركون في تلك اللحظة أن قتالاً ضارية يدور رحاه عند النقطة التي يتصاعد عنها الدخان الأسود وتخيم عليها سحب الغبار توضح بجلاء عنف المعارك التي تستفتح تاريخ الحرب الرابعة مع العدو. وبدأت القوارب تصل تباعاً إلي الشاطئ وأخذ الرجال الذين يطأون بأقدامهم منطقة الإبرار يسارعون بتفريغ قواربهم. ثم يندفعون نحو القوارب الأخري فيقدمون العون لزملائهم حتي يمكن للدورية أن تنتهي من عملية الابرار سريعاً وأن تستعد لقتال العدو. لقد كنت أخشي أن نفاجأ بوجود عدو في المنطقة إن أقدامنا لم تكن قد رسخت بعد علي الأرض وكان من العسير أن نخوض تجربة القتال فور نزولنا إلي الشاطئ. ولكني حمدت الله حين وجدته خالياً من كل أثر للعدو. وأن الشيء الذي أثار مخاوفي فوق السفينة لم يكن سوي علامات الكيلو متر التي تبدو كرءوس الأفراد. وكان الموج قد بعثر القوارب فوق مساحة الكيلو متر التي تبدء كرءوس الأفراد. وكان الموج قد بعثر القوارب فوق مساحة كبيرة من الشاطئ محصورة بين كيلو 6 وكيلو 8 بينما كان من المقرر أن يكون ابرار الدورية عند علامة الكيلو متر 4 ولم يؤثر ذلك في عزيمتنا علي تنفيذ المهمة. لقد نجحنا في الوصول وكان هذا دافعاً قوياً لنا لمواصلة النجاح. والشيء الذي منحني ثقة كبيرة في مقدرتنا علي تنفيذ المهمة تلك الروح التي غمرت نفوس الرجال فور نزولهم من القوارب كأنهم كانوا تائهين وسط البحر يبحثون عن شاطئ النجاة لقد كانت روحهم عاية وحماسهم للعمل طاغياً وكانوا جميعاً لا يكادون يتلقون مني أمراً أو اشارة بعمل شيء ما حتي ينطلقون لتنفيذ ما آمرهم به في سرعة ودقة. يضيف الرقيب عبدالمعز: لقد كنا جميعاً نشر بعظمة الدور الذي نلعبه في المعركة. وكان هذا يثير في أعماقنا إحساساً بالمسئولية يجعل أعمالنا تتم بهذا القدر من اللسرعة والاتقان. ولم يكن هناك علي ذلك اللسان الرملي المحصور بين البحر والملاحات الذي لا يتعدي اتساعه عن تلك المنطقة أكثر من 500 متر سوي بعض أكوام الرمال وحولها تناثرت الخشب والحديد والزجاجات الفارغة وكانت الساعة قد قاربت علي الرابعة والنصف وعندما وقف الرجال يلقون نظرة وداع علي القوارب الصغيرة وهي تبتعد فوق الأمواج نحو السفينتين حتي كاد الانفعال ينسيهم ما يجب عليهم أن يفعلوه ولكن قائدهم صاح فيهم قائلاً: هيا بنا يا رجالة ليس لدينا وقت نضيعه. كان القارب الذي يحمل الملازم أحمد خميس ومجموعته قد انحرف يساراً حتي وصل إلي الشاطئ أمام احدي التبات الصناعية علي الساحل مباشرة. فأرسل الملازم ابراهيم الجندي رجب أبواليزيد ليرشد القارب الذي انحرف يميناً إلي منطقة الإبرار. ولم يمض وقت طويل حتي كان الرجال قد تجمعوا حول مجموعة القيادة يحملون الصناديق الضخمة للصواريخ والذخائر. أجري قائد الدورية مع ضباطه وقادة المجموعات الفرعية من ضباط الصف عملية استطلاع للمنطقة تأكد لهم فيها أنه لا أثر هناك للعدو. وقد لاحظ قائد الدورية أن هناك تبتين غير مرتفعتين من الرمال علي جانبي الطريق فقرر أن يتخذ منهما موقعاً يغلق به طريق تقدم العدو إلي الغرب وأخذ يحدد لضباطه موقع كل مجموعة علي الأرض فوضع المجموعة الثانية علي التبة الأمامية الممتدة يمين ويسار الطريق ووضع المجموعة الأولي للخلف منها بمسافة 200 متر فوق التبة الثانية ليشكل بها عمقاً للموقع وغطي الثغرات اللجانبية بأفراد من المهندسين العسكريين. لقد كان في خططه أن يتصدي للعدو بأسلوب الكمائن ولكن الكمائن تحتاج إلي تضاريس أرضية تمتد بحذو الطريق ولم يكن هذا متوفراً في طبيعة الأرض علي شاطيء الإبرار لذا فقد قرر يوسف أن يقوم بعمل موقع دفاعي علي نسقين مستغلاً في ذلك الصواريخ ومدافع الهاون والمعاونة النيرانية لمدفعية قطاع بورسعيد وأخذ يحدد لقادة أطقم الصواريخ المضادة للدبابات قطاع النيران وأماكن القواذف ووضع خلفها الهاونات عيار 82مم لإضاءة أرض المعركة في حالة الاشتباك ليلاً. وبعد أن تحدد لكل مجموعة موقعها وأقواس نيرانها انتشر الرجال فوق مساحة الأرض التي قدر لهم أن يسطروا فوقها أعظم صفحات البطولة يعدونها كما يعد المسرح قبل الستار.