قبل ثورة يوليو 1952 كان الالتحاق بالوظائف المميزة.. والتي تتطلب مهارات خاصة وإمكانيات اجتماعية ومالية غير عادية.. كانت هذه الوظائف قاصرة علي أبناء الأعيان والأثرياء أو من أبناء كبار المسئولين وذوي الحيثية.. وفي بعض الأحيان كان يمكن قبول أبناء بعض أفراد الشعب الذين حصلوا علي تقديرات عالية ولهم وساطات كبيرة يمكن أن يتوسطوا لهم. وفي وظائف مثل السلك الدبلوماسي كان هناك شرط آخر هو أن يكون الملتحق بهذه الوظيفة ذا مقدرة مالية بحيث إنه يمكنه الإنفاق علي وظيفته من ماله الخاص. وعندما قامت الثورة.. قرر جمال عبدالناصر العدول عن هذه الشروط.. وجعل مبدأ تكافؤ الفرص هو السبيل الوحيد للحصول علي وظيفة مرموقة أو الالتحاق بإحدي الكليات العسكرية. ووضع لذلك شروطاً موحدة لا تُحدث أي تفرقة بين فئات الشعب وأصبحت الكفاءة والتميز هي أساس الاختيار وليس الحيثية أو الثراء.. ومضت الأمور تسير كما أراد جمال عبدالناصر ثم حدثت بعض التطورات تبعاً للتقارير التي كانت تعدها وتقدمها الجهات الرقابية.. وفي هذا يذكر سيد مرعي في مذكراته التي تناول في جزء منها فترة حكم جمال عبدالناصر حيث أشار في أحد اجتماعات مجلس الوزراء عام ..1968 أن هناك فئة من رجال القضاء وهم في الأصل من أبناء الإقطاعيين والأثرياء الذين صودرت أموالهم.. يتندرون علي الثورة وعليه شخصياً في اجتماعات وتجمعات لهم في نادي القضاة.. ولهذا فهو يتشكك في عدالتهم وبالتالي قرر إقصاءهم عن منصة القضاء. ثم في العصور التالية تم وضع أسس أخري لاختيار من يلتحق بأي وظيفة مرموقة.. وفي هذه الفترة ظهر شعار جديد لمن يرفض طلبه وهو "غير لائق اجتماعياً" ومعني هذا الشعار أن المتقدم لوظيفة متفوق دراسياً وثقافياً ولكن بيئته الاجتماعية متواضعة وتطور الأمر مرة أخري حيث قضت شروط أخري بضرورة أن يكون الأب والأم من الحاصلين علي شهادات عليا!! وعلي هذا كان يتم رفض طلبات كثيرة من شباب تفوقوا في جميع المجالات عدا هذا الشرط!! صحيح أن هذه الوظائف قد تتطلب شروطاً معينة ولكنني أقف كثيراً عند شرط حصول الأب والأم علي شهادة جامعية.. هناك فعلاً شروط يجب أن يتمتع بها طالب الوظيفة.. أن يكون والداه وإخوته من المتمتعين بسمعة متميزة ولا يكون أحد منهم قد سبق اتهامه في جريمة مخلة بالشرف.. صحيح أن هذه الشروط مهمة ولكن ما ذنب الفتي الذي ذاكر واجتهد حتي حصل علي أعلي الدرجات ثم تكون المفاجأة أنه غير لائق اجتماعياً لأن أسرته خذلته ولم تكن علي المستوي اللائق وفي رأيي أنه حتي إذا كان الوالد أو الوالدة لمثل هذا الشاب يعملون في وظائف دنيا.. فإن ذلك مفروض ألا يؤثر علي مستقبل هذا الشاب ولكن بشروط هي أن تتولي الحكومة تعيين مثل هذا الشاب في وظيفة قد تكون مميزة بعض الشيء ولفترة محدودة يتم خلالها إجراء محاولات لتحسين حال الأسرة ونقلهم من الحال المتردي إلي حال أفضل.. حتي لا يخسر المجتمع شخصاً نابهاً لأن الذي سيحدث هو أن مثل هذا الشاب سيظل ناقماً علي البلد وعلي المجتمع ويلعن اليوم الذي جاء فيه إلي الحياة.. وقد يتحول من إنسان سوي إلي شخص منحرف.. وهذا يذكرني برواية عمارة يعقوبيان عندما تقدم ابن البواب ليلتحق بكلية الشرطة وفاجأه رئيس لجنة الاختبار بقوله أليس والدك يعمل بواباً.. وأسقط في يد الشاب وطبعاً رُفض الطلب وتحول الشاب من شخص سوي إلي إرهابي!! والواقع يقول إن مبدأ تكافؤ الفرص يجب أن يعود لأن الطالب الذي سهر الليالي ولم يعرف في حياته أي لون من ألوان الترفيه مثل أقرانه من الأثرياء.. كان كل همه هو المذاكرة حتي تخرَّج نابهاً متفوقاً.. أليس من حقه أن يكافأ علي هذا المجهود ويعين في الوظائف القاصرة علي فئة أو فئات معينة. إننا يجب أن ننظر إلي هذا الموضوع نظرة شاملة.. مثلاً إذا كان الشاب يسكن مع أسرته في إحدي الحواري.. لماذا لا تعمل الدولة أو أي هيئة من الهيئات علي رفع مستوي هذه الأسرة التي أنجبت مثل هذا الشاب المتفوق وترفعهم اجتماعياً بسكن لائق وفي مكان لائق.. حتي لو استدعي الأمر تعيين هذا الشاب في وظيفة مؤقتة حتي يتم تغيير أوضاعه الاجتماعية والأسرية. وأتذكر أن واحداً من أساطين القانون كان يذاكر علي لمبة جاز وفي بعض الأحيان كان يستذكر دروسه تحت ضوء عمود النور في الشارع.. وأصبح علاَّمة في القانون.. وغيرهم كثيرون.. في الوقت نفسه تطالعنا الأحداث بأخبار عن جرائم رشوة وفساد ارتكبها موظفون كبار.. وهناك علي الجانب الآخر أشخاص لا يجيدون القراءة والكتابة ولكنهم استطاعوا أن يصلوا بجدهم واجتهادهم إلي أن أصبحوا من كبار رجال الأعمال وهناك من يمتلك العمارات الفارهة والأبراج العالية ويسكن فيها أكابر المسئولين ولعل في قصة إحسان عبدالقدوس لن أعيش في جلباب أبي ما يؤيد هذا الكلام عندما سكن الوزير في عمارة من استطاع أن يصل إلي مستوي عال في التجارة.. وهناك وقائع كثيرة. الحقيقة أن هذه الأوضاع يجب أن تتغير.. الناس لا تريد محسوبية أو وساطة ولكنها تريد فرصاً متكافئة.. وبالتأكيد فإن تحريات جهات الرقابة ضرورية لأن أي وظيفة مهما علا أو انخفض شأنها يجب علي من يتولاها أن يكون جديراً بها.. لا يهم إن كان من يطلب الوظيفة ابن عامل أو فلاح فكلاهما يعملان بشرف وأصحاب فضل علي جميع أفراد الشعب.