في مايو 2004، أقدم الشاب المصري عبد الحميد شتا على الانتحار بإلقاء نفسه من فوق جسر أكتوبر الشهير بالقاهرة، بعد أن طالع قائمة أسماء المقبولين لشغل وظيفة ملحق تجاري في السلك الدبلوماسي، فوجد نفسه غير مقبول، رغم تفوقه على كل منافسيه حاصلًا على المركز الأول في كل الاختبارات. كان يمكن لشتا ألا يفعل ذلك، لو جاءت نتيجة الاختبارات في غير صالحه، لكن الذي صدمه هو أن الاختبارات، وهي الشيء الذي يملكه، جاءت في صالحه، وكان الشيء الذي لا يملكه وهو مهنة والده الفلاح، سببا لرفضه، حيث أعطته وصف "غير لائق اجتماعيا". لم تمح السنوات العشر التي مرت على هذه القصة تفاصيلها من الذاكرة الشعبية، ذلك لأن استدعائها صار سمة مميزة لأي واقعة يتجسد فيها الظلم المجتمعي الذي تتعرض له فئات بعينها من المجتمع، وهي الفئات التي يطلق عليها شعبيا "أبناء البطة السوداء". ويعود هذا المصطلح إلى قصة شهيرة للأطفال عن بطة سوداء تنكرت لها أمها واخواتها لأن لونها أسود ومغاير للونهم الأبيض، مع أنها خرجت من نفس البيض، وأصبحت تضرب مثالا في الانكار والتهميش والنبذ. واستخدم المصطلح في التعليق على تصريح وزير العدل المصري محفوظ صابر أمس في برنامج تلفزيوني، بخصوص عدم أحقية ابن عامل النظافة في تولي منصب في القضاء، وهو التصريح الذي آثار جدلا، لأنه جاء من شخصية معنية بتطبيق الدستور، الذي تنص مادته ال53 على عدم التمييز، لكنه في نظر أغلب المصريين الذين تجاوبوا معه بتعليقاتهم على صفحات مواقع السوشيال ميديا "ليس جديدا". وتنص المادة رقم 53 من الدستور المصري، الذي أقر في شهر يناير/كانون الثاني 2014، على أنه "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة أو الجنس، أو الأصل، أو العرق أو اللون، أو اللغة، أو اإلعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو أى سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض". وذهبت كثير من التعليقات منتقدي تصريحات وزير العدل إلى أن واقع التمييز يمارس بحق فئات من الشعب المصري، ولكن الجديد هو الاعتراف الوزاري بذلك، حسب مراسل الأناضول. وجسدت كثير من الأفلام التي قدمتها السينما المصرية هذه القضية، منها فيلم " لعبة الست " الذي تم تقديمه في عام 1946، عندما لم ينجح حسن أبو طبق، الذي لعب شخصيته الممثل الكبير نجيب الريحاني في الحصول على وظيفة رغم كفاءته، لأنه من أسرة فقيرة. ولأن هذه الثقافة كانت سائدة حينها في المجتمع المصري، رفعت ثورة 23 يوليو/تموز عام 1952، التي أطاحت بالنظام الملكي في البلاد، شعار "العدالة الاجتماعية"، وجاءت الأفلام السينمائية التي قدمت بعد الثورة معبرة عن ذلك، ومن بينها الفيلم الشهير "رد قلبي" انتاج عام 1957، والذي تزوجت خلاله انجي ابنة أحد الأمراء (جسدت دورها الممثلة مريم فخر الدين) من علي ابن الجنايني (جسد دوره شكري سرحان)، بعد قيام الثورة، وذلك كأحد منجزاتها في تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية. ما تحقق "سينمائيا" لم يتحقق على أرض الواقع، وظلت هذه الثقافة سائدة، وتجلت مظاهرها في حرمان فئات من المجتمع المصري من بعض الوظائف، فظلت قطاعات مثل القضاء والشرطة والسلك الدبلوماسي قاصرة على أبناء العاملين بتلك القطاعات، فصارت هناك عائلات شهيرة بأن أغلب أعضائها في الهيئات القضائية، وعائلات شهيرة بأن أغلبها ضباط. وجسد الفيلم الشهير "عمارة يعقوبيان" انتاج 2006 هذه المشكلة، عندما لم يتمكن طه نجل البواب (جسد دوره محمد إمام) من تحقيق حلمه في الالتحاق بكلية الشرطة، رغم تفوقه الدراسي، حيث رفض في امتحان القبول لأنه ابن بواب، مما دفعه لاعتناق فكر متطرف وتحول إلى إرهابي
وقامت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 (أطاحت بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك) رافعة نفس شعار ثورة 1952 وهو" العدالة الاجتماعية"، ولكن لم يتغير الحال إلى الأفضل، وأثيرت - مؤخرا - قضية بطلها 120 شابا تم استبعادهم من النيابة العامة، لأن أبائهم لا يحملون مؤهل عال، وهو الشرط الذي وضعه المجلس الأعلى للقضاء في مصر للالتحاق بالمناصب القضائية. ورغم هذا "الشرط المعلن" من المجلس الأعلى للقضاء، إلا أن تصريح وزير العدل محفوظ صابر كان الأكثر إثارة للجدل، كونه جاء من شخص يمثل السلطة القضائية وينتمي إلى الحكومة، ويناقض ما جاء في حكم تاريخي أصدرته محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية في وقت سابق. وقضت المحكمة السبت الماضي، بمنع قيام المسؤولين في الحكومة والدولة بتوريث الوظائف الحكومية أو العامة لأبنائهم وعلى حساب أبناء الفقراء والبسطاء. وذهبت في حكمها إلى أحقية نجل فلاح بالبحيرة شمال البلاد في الحصول على وظيفة بشركة مياه الشرب بالمحافظة على حساب نجل مسؤول كبير بالشركة لتفوقه وحصوله على درجات أعلى من نجل المسؤول الذي حصل على الوظيفة رغم حصوله على درجات أقل، وأمرت بتنفيذ الحكم بمسودته دون إعلان. وجاء في حيثيات الحكم أن ما أقدمت عليه الشركة هو " تحد سافر لمبدأ العدالة الاجتماعية ضد المتفوقين من أبناء البسطاء والفقراء من هذا الوطن تحت عباءة المكانة الاجتماعية للعائلات، رغم أن الدستور جعل الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة ودون محاباة أو وساطة"، وفق مراسل الأناضول. وينص دستور 1971 الذي تم إلغاءه في المادة الثامنة من الباب الثاني علي "ضمان تكافؤ الفرص لجميع المواطنين " وفي الباب الثالث علي "المساواة أمام القانون، ومنع التمييز على أساس من الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة".
ورغم الحكم القضائي ومواد الدستور المصري المستفتى عليه في عام 2014 ، وكذلك دستور عام 1971 الذي تم إلغاءه عقب ثورة يناير، جاء تصريح الوزير، وهذا هو سر خطورته، كما تقول الأديبة المصرية سحر توفيق، والتي تطرقت لقضية " أبناء البطة السوداء" في روايتها "طعم الزيتون". وتضيف الأديبة في تصريح خاص للأناضول "رغم نصوص الدستور الواضحة يأتي هذا التصريح، ليكشف عن توجه، لا يوجد فقط في مهن مثل الشرطة والقضاء والسلك الدبلوماسي، لكنه يوجد - أيضا - في الأدب". وكانت الأديبة ومجموعة من زملائها قد روادتهم فكرة لانشاء جمعية تحت عنوان " كتاب وكاتبات البطة السوداء" عام 2001، بهدف التنبيه إلى أن فكرة التمييز توجد - أيضا - في الأدب. وتشير الأديبة إلى أن هناك أدباء عظام توفوا ولم ينتشر خبر وفاتهم، لأنهم ليسوا بشهرة من هم أقل منهم موهبة، مثل الأديب الكبير سليمان فياض، والسبب أنهم لم يرتموا في أحضان السلطة بحسب سحر توفيق. وحذرت الأديبة من أن استشراء هذا التوجه سيؤدي إلى قتل المواهب، وهدم القيم الانسانية، والتي لا تعترف بالتمييز بين البشر، كما أنه سيؤدي لشيوع التمييز الطبقي. وعبرت التعليقات التي عجت بها مواقع التواصل الاجتماعي عن هذه المخاوف الذي ذكرتها الأديبة المصرية، قال الكاتب المصري أحمد النجار رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحيفة الأهرام (المملوكة للدولة) عبر صفحته الرسمية علي فيسبوك :" أنا فخور بوالدي الذي جمع الحسنيين حيث كان عاملا بالحكومة ويقوم بزراعة أرضه يعني فلاح في نفس الوقت، وهو من علمنا القراءة والكتابة وعشق تراب الوطن وفتح أبواب الثقافة أمامنا ربما بأفضل وأعلى كثيرا من دعاة التمييز الطبقي المقيت". وعلي الطريق ذاته من استنكار هذه النظرة الطبقية لدي وزير حكومي، قال خالد علي المرشح الرئاسي السابق والمعارض المصري في حسابه على تويتر: "تصريح وزير العدل ليس مجرد رأى شخصى، لكنه تجسيد حى لسلوك منهجى تستخدمه كافة أجهزة الدولة لاستبعاد كل أبناء الطبقات الفقيرة من وظائف السلطة ". من جانبه، قال سعد الدين ابراهيم استاذ علم الاجتماع السياسي أن تصريحات وزير العدل " غير موفقة وعليه أن يعتذر أو يستقيل". وفي تصريحات عبر الهاتف لوكالة الأناضول ، يري ابراهيم أن " الصراع الطبقي سيبقي في كل المجتمعات وليس في مصر فقط خاصة وأنه في أي مجتمع تتواجد طبقات متفاوتة في الحظ والقوة والجاه" وتابع متسائلا :" لكن يجب أن نسأل هل هذا التفاوت يتم لقواعد مشروعة أم لا؟ ثم أجاب قائلا :"القواعد المشروعة في المجتمع الديمقراطي هي التحصيل والانجاز والإنسان يحصل علي مكانته وحقوقه طبقا للتحصيل الدراسي والعمل ". وأوضح أن "التفاوت ليس مشكلة لكن المشكلة في القواعد التي تحكم هذا التفاوت".
وحول الحالة المصرية وأزمة الصراع الطبقي، قال ابراهيم :" التفاوت في المجتمع المصري أو العربي طالما لا تحكمه معايير عالمية شفافية سيظل هناك ظلما اجتماعيا " ، مضيفا :" في مصر الآن لا تحكم هذا التفاوت معايير واضحة تماما ". وكان وزير العدل المصري محفوظ صابر، قال، في تصريحات صحفية سابقة له اليوم الاثنين، إنه لم يسئ لأحد، خاصة عمالة النظافة عندما قال إن هناك مهنا تناسبهم ليس منها القضاء. وأوضح الوزير، في تصريحات صحفية له اليوم، أن البعض فهم تصريحاته بعدم السماح لأبناء عمال النظافة من التعيين في السلك القضائي ب"الخطأ"، موضحا: "لم أسئ لأحد، ولم أقصد الإساءة لأحد، خاصة عمال النظافة".
وأشار محفوظ إلى أن البعض فهم تصريحاته بطريقة خاطئة، وأخرجها عن سياقها، بهدف "إثارة البلبلة" داخل مصر، و"طرح قضايا ليس وقتها الآن"، مؤكدا "احترام كل طبقات المجتمع والمهن بمن فيهم عمال النظافة"، مشيرا إلى أن "تعيين القضاة شأن خاص بمجلس القضاء الأعلى وليس وزارة العدل".
كان صابر، قد قال، في تصريحات تلفزيونية، أمس الأحد، إن "ابن عامل النظافة لن يصبح قاضيًا، لأن القاضي لابد أن يكون قد نشأ في وسط مناسب لهذا العمل، مع احترامنا لعامل النظافة"، وفق قوله.
وأضاف صابر، خلال حواره ببرنامج (البيت بيتك)، المذاع على قناة (تن) الخاصة، أن "ابن عامل النظافة لو أصبح قاضيًا سيتعرض لعدة أزمات منها الاكتئاب، ولن يستمر في هذه المهنة"، متابعًا: "كتر خير (يُشكر) عامل النظافة أنه ربى ابنه وساعده للحصول على شهادة، لكن هناك وظائف أخرى تناسبه، فالقضاء لديه شموخ وهيبة مختلفة".
وأثارت تصريحات صابر، موجة غضب عارمة، بين نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، الذين طالبوا بإقالة الوزير، كونه خالف الدستور الذي يرفض التمييز بين المواطنين لأي سبب.