كانت الصورة العريضة تبتسم أمامي وتدعو إلي الابتسام.. لكنني للأسف لم أبتسم.. بالعكس أصابني الغم والاحباط مما آل إليه حالنا.. أو بالأصح حال قطاع بائس من أبناء هذا الوطن الذين عاد بهم الزمن إلي العصور الوسطي. الصورة المنشورة علي صفحة الجريدة التقطت لسيدة شرقاوية من محافظة الشرقية في الأربعين من عمرها تقريباً.. ترتدي عباءة ريفية بسيطة.. وتحمل فوق رأسها جركن ماء.. وتسوق أمامها حماراً هزيلاً يحمل هو الآخر علي جانبيه جركنين من الماء.. ويسير إلي جوارها كلب ضامر. لاشك ان الصورة بهذه التكوينات كفيلة بأن تنطق بالبؤس.. لكن الابتسامة العريضة البريئة علي وجه السيدة الشرقاوية تجعلك تشعر بأن الحقول الخضراء الممتدة من خلفها تتمايل من السعادة إلي ايقاع ابتسامتها.. فإذا ما تجاوزت الانطباع السريع للابتسامة وصاحبتها.. وأخذك العقل للتفكير في مدلول الصورة وما وراءها فسوف تكتئب علي الفور.. خصوصاً أن الكلام المنشور مع الصورة يوحي بأن السيدة المبتسمة خارجة للتو من معركة.. وتشعر بنشوة الانتصار لأنها أخيراً وبعد جهد جهيد تفوقت علي منافسيها ومزاحميها وحصلت علي الغنيمة التي هي جراكن مياه للشرب. من يصدق أن هذا المشهد يقع في منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.. في زمن تجاوز بأكثر من نصف قرن دعوات كانت تطالب بأن يكون التعليم حقاً طبيعياً يسيراً لكل الناس كالماء والهواء.. يحصل عليه المواطنون بمقتضي حق المواطنة لا أكثر. ها نحن نري الآن أن الناس تعاني الأمرين ليس من أجل التعليم فحسب.. وإنما من أجل الحصول علي الماء الذي تظنه صالحاً للشرب.. وتدفع الكثير من دخلها القليل لكي تفوز ب 3 جراكن ماء من محطات أهلية للتنقية.. وياليت الأمر يتوقف عند هذا الحد.. ولكن يتضح في نهاية المطاف.. وبعد المعارك اليومية أن هذا الماء الذي فازت به في معركة الجراكن ملوث والجراكن ملوثة والنتيجة الطبيعية لذلك هي التسمم الجماعي. في دول العالم المتحضر من حولنا صار مشهد الصراع الأهلي من أجل الفوز بجركن ماء نظيف أو الفوز بأنبوبة بوتاجاز من مخلفات الماضي السحيق.. وصارت هذه الخدمات العامة تصل إلي الناس في بيوتهم بسهولة ويسر.. وتفرغ المواطنون والمواطنات للانتاج والابداع والعلم.. ولم يعد لديهم وقت يضيعونه في معارك الجراكن والأنابيب. وحين تقارن بين هذه الصورة البئيسة لسيدة الجراكن المبتسمة والصورة الأخري التي نقلتها الكاميرات القديمة والأفلام القديمة للفتيات القرويات اليافعات وهن يحملن علي رءوسهن جراكن الماء المملوءة من النهر مباشرة دون معارك.. ويتمالين في دلال وبهجة مع نسمات الصباح الباكر بأغنية "البحر بيضحك لي" لابد ان تحزن علي التخلف الذي أصابنا مع تقدم الزمن.. العالم كله يسير إلي الأمام ونحن نسير إلي الخلف.. ونبتسم. لم يكن النهر ملوثا.. ولم تكن الجرة ملوثة.. ولم يكن هناك شئ اسمه تسمم جماعي. هل أدركت الآن لماذا لم أبتسم .. رغم أن الصورة كانت تبتسم؟!