"لاتزال آليس" "still Alice" واحدا من أجمل وأرقي الأفلام التي أنتجتها السينما الأمريكية عن مرض الزهايمر .. دراما انسانية تتسم بالعمق وبالقدرة علي سبر أغوار مأساة يمكن أن يواجهها أي إنسان منا.. وعظمة الفيلم تكمن من قوة رسم الشخصية المصابة وعظمة أداء الممثلة التي تدفعك إلي التأمل والتفاعل وتذرف الدموع في كثير في المواقف التي تصل فيها الموهبة ومستوي الابداع في اسلوب التعبير إلي درجة لا تملك ازءها غير التوحد مع المريضة والشعور بالرعب من السقوط ضحية لمثل هذا المرض المرعب فعلاً!! وهل هناك ما هو أكثر إثارة للرعب من أن تفقد عقلك وتضيع شخصيتك وتصبح إنساناً بلا ذاكرة ولا حول ولاقوة!!. بطلة الفيلم "آليس" التي لعبت دورها جوليان مور واستحقت جائزة الأوسكار عن جدارة في الأسبوع الماضي كأحسن ممثلة. أستاذة في جامعة كولومبيا. تقوم بتدريس "اللغويات" أي علوم اللغة. امرأة لعبتها الكلمات والجمل والتعبير والكتابة ثم فجأة تجد نفسها عاجزة عن تذكر بعض المصطلحات اللغوية وأن اللغة تتسرب منها ولم تعد تسعفها وهي الأستاذة الناجحة القديرة وفجأة وأثناء ممارستها رياضة الجري تجد نفسها لا تتذكر الأمكنة التي أعتادت الجري فيها. وفي عيادة الطبيب وبعد فحص دقيق واختبارات تعرف أنها مصابة بمرض الزهايمر في مرحلته الأولي وأن المرض بالضرورة سوف يتفاقم. الأكثر مأساوية أن مرضها وراثي . ومن الجائز أن ينتقل إلي أولادها الثلاثة "ابنتان وولد".. إنها إذن مأساة إنسانية فعلا بكل المقاييس!. من الوظائف المهمة للسينما أن تواجهنا بقضايا حساسية وتفتح مدارك المشاهد علي أمور حياتية من المحتمل أن يواجهها في الواقع. هنا ومع "آليس".. الأستاذة والزوجة الناجحة والأم لثلاثة من الابناء. يقدم كاتب السيناريو والمخرج ريتشارد جلاتزر. واش وستمولاند دراما عائلية لأسرة تتعرض لاختبار دقيق عندما يصاب أهم أفرادها بمرض يفقده قوامه الإنساني. ويذهب عقله. وكيانه. الزوج والأب "جون" الذي يلعب دوره باقتدار واقناع آسر الممثل آليك بولدوين. وهو زوج متعاطف ومحب ومؤمن بقيمة زوجته ودورها في الحياة كأستاذة جامعية وكأم يواجه المأساة بصبر. ويدرك مدي المسئولية بعد أن يصبح هو وحده المصدر المادي الوحيد للأسرة بعد أن تفقد الأم وظيفتها الأكاديمية في الجامعة. وكذلك يدرك الأبناء الثلاثة فداحة ما يعنيه المرض الوراثي الذي يتهدد الجميع. فالابنة الكبري متزوجة وحامل وحاملة للمرض والصغري التي تهوي التمثيل وتعد نفسها لطريق فني بعيد عن الطريق الاكاديمي التي برعت فيه أمها. ترفض أن تخضع للاختبار لمعرفة امكانية اصابتها ومن ثم فإن الجدل بين الاثنين الأم والأبنة الصغري لا يتوقف.. بناء الفيلم بسيط. سلس. واقعي. يتمحور حول شخصية مركزية تحيط بها مجموعة من الشخصيات المساعدة الأم.. الزوج. الابناء الثلاثة.. ولكل من هؤلاء كيانه. وتركيبته الإنسانية وملامحه المتفردة. وتفاعله مع المأساة الأم... ولكل ممثل قدرته علي إشاعة الاحساس العميق بالدراما الحياتية وبتأثيرها علي كل واحد منهم الأمر الذي يجعلك تشعر بوجود "مايسترو" يدير سيمفونية الأداء باحساس ورؤية متكاملة. في واحدة من أجمل وأعمق المشاهد نري الأم الأستاذة المدركة لمأساة ما تعانيه. نراها في مؤتمر لمرض الزهايمر تلقي خطاباً رائعاً. قوياً. يفجر الدموع لامحالة. عن حجم المصاعب التي عليها أن تواجهها. وعن كيفية إدارة الشعور بالخسارة. بالفقدان. خطبة فكرية بليغة. مؤثرة. كاشفة عن عمق الدراما. حاضنة ضمنيا لشخصية من الألم المحسوس. أيضا المشهد الأخير بين الابنة الصغري لعبتها باقتدار كريستين ستيوارت التي كانت دائما علي خلاف مع أمها ولكن بعد أن تذوب الخلافات. ويحل الفهم والتعاطف والحب مكانها. وبعد أن تكون الأم الاستاذة "آليس" قد وصل بها المرض إلي مرحلة التوهان الكامل. ولم يتبق في قاموسها المعرفي الضخم سوي كلمة واحدة "الحب". في فيلم "لاتزال آليس" نحن أمام درس مدهش بقدر ما هو ممتع في معني الابداع علي مستوي الأداء التمثيلي. في كيفية أن يكون الممثل أو الممثلة مثل شاعر يكثف أعمق المشاعر وأعقد الأحاسيس. وأصعب المواقف في جملة. في حركة بالعين. في طريقة النطق. في لغة الجسد في التعبير عن الانفعالات بأكثر الطرق اقتصاداً وطبيعية ودون أدني قدر من النطق أو الصنعة.. جوليان مور جسدت هذا الشاعر الذي يهز المشاعر. كيف يجرنا الممثل المبدع والممثلة الرائعة جداً بحجم ومستوي هذه النجمة إلي الدخول في قلب الدراما تشيع مشاعر الوجل والألم وتحفر بصمة في الوجدان وتجعلك تدعوا من أعماقك أن يجنبك الله مثل هذا المرض الذي بات منتشراً وبالذات بين كبار السن.. "آليس" في الخمسين من العمر. واصابتها بمثل هذا المرض تعتبر في سن مبكرة. ولا تحدث إلا في مرات نادرة والفيلم ليس الأول الذي يعالج هذا المرض. وجوليان مور ليست أول ممثلة عظيمة تؤدي الدور سبقتها الممثلة القديرة جودي دنيش في فيلم "إيريس" "IRis" وجولي كريستي في فيلم "بعيداً عنها" away prom hen ممثلات "كوادر" ومن نوع رفيع وفريد نماذج لفن الأداء التعبيري المرئي.. لم يحصل فيلم "لا تزال آليس" علي جائزة أحسن فيلم في جوائز الأوسكار الأخيرة "السابعة والستين" وكان جديراً بها. ولكننا نعرف أن للاكاديمية اعتبارات وحسابات مثل كل المؤسسات المانحة للجوائز العالمية مما يجعلها تحتفي بفيلم أمريكي رجعي يميني وعنصري وعديم الانسانية مثل "القناص الأمريكي" الذي كان يقتل الأطفال والنساء العراقيات بقلب بارد وبدافع حماية "إخوانه" المقاتلين الأمريكيين دون أدني تفكير في أن هؤلاء مستعمرين. ومحتلين ومجرمين في نهاية الأمر جاءوا بقانون "القوة وبادعاءات كاذبة للاستيلاء علي ثروات بلد نفطي وتبديد حضارته العريقة وتشريد شعبه هكذا!!. جوليان مور أخذت عن دورها في هذا الفيلم العديد من الجوائز إلي جانب الأوسكار كأفضل ممثلة. فقد حصلت علي جائزة الجولدن جلوب وجوائز معظم الهيئات السينمائية الأخري.. ودرها هنا يعتبر "حالة للدراسة" والفيلم نفسه درس رقيق وإنساني في معني التعاطف والتفاهم. والقبول بالخسارة إذا كانت هذه مشيئة القدر وأيضا الاحتفاء بما لم يضع منا بعد.. فهناك بعض ما يمكن أن نفرح به في الفيلم . علي سبيل المثال جاء أحفاد "آليس" التوأم متحررين من "جينات" المرض رغم أن أمهما ابنه آليس الكبري حاملة له .. وظهر "جون" الزوج الطيب في صورة الرجل الداعم للأسرة. الذي يتحمل عبء وظيفة أخري في ولاية بعيدة حتي يواجه المتطلبات المتزايدة التي تفرضها الظروف والابناء "آنا وتوم" وليديا يمتلكون من الولاء والتعاطف والقدرة علي التأقلم مع مأساة الأم علي نحو جدير بالاحترام والاعجاب . فالأدوار الثانوية هنا ليست ثانوية وإنما داعمة ومساعدة فعلا والممثلين الذين قاموا بها امتلكوا من قوة الأداء والاقناع بما يضيف للقيمة الفنية للفيلم ويجعلنا أمام "طاقم" من متناغم. ومتفاعل ومتعايش مع طبيعة الموضوع. ويجعل الفيلم نفسه أحد أفضل الأعمال التي عرضت عام 2014. وواحد من أقواها علي مستوي الأداء واللغة المسموعة والمرئية.. والفيلم عن رواية بنفس العنوان للكاتبة ليزا جينوثا. الأمر الذي يدعم وجهة نظري الشخصية بأن الأدب الروائي سوف يظل أبدا النبع المتدفق والعذب الذي تنهل منه السينما أجمل حكايتها وأروع الشخصيات التي تتحرك أمامنا علي الشاشة . وأعمق الدروس المستفادة علي المستوي الانساني.