كل التقارير الصحفية التي تنشر الآن عن العمالة المصرية في ليبيا تركز علي وفود العائدين بعد جريمة "داعش" البشعة بذبح 21 من الأقباط المصريين العاملين هناك.. لكن هناك تقارير قليلة جداً تلقي الضوء علي الجانب الآخر من الصورة.. أقصد علي الشباب المصريين الذين مازالوا يصرون علي السفر إلي ليبيا للعمل بحثاً عن لقمة العيش رغم مخاطر الذبح والقتل والخطف التي يتعرضون لها. في اعتقادي أن هذا الوجه الآخر للصورة في غاية الأهمية.. لأنه يكشف أمامنا أبعاداً لا نعرفها للحقيقة.. ويجب أن تكون واضحة ونحن نبحث ونحلل ونقترح وسائل حماية المصريين العاملين في ليبيا.. وكنت قد كتبت مقالاً بالأمس أصف فيه إخوتنا الذين مازالوا يصرون علي العيش في ليبيا بحثاً عن سعة الرزق بأنهم شهداء لقمة العيش.. أما الجديد الذي يقدمه لنا تقارير الوجه الآخر للصورة فتتعلق بأولئك الذين يبحثون عن السفر إلي ليبيا رغم الإرهاب الحقيقي الذي ينتظرهم هناك. أحد السائقين الذين يعملون في نقل العمالة من مصر إلي ليبيا يقول إن بعض الشباب بالفعل يتصلون به لنقلهم إلي ليبيا بعد أن توقفت رحلات الطيران إليها.. هناك تشديد أمني علي الحدود هذه الأيام خاصة بعد أزمة ذبح العمال المصريين مما يصعب عملية الدخول.. لكنه بالتنسيق مع ليبيين وضباط بإمكانه عبور معبر السلوم البري والدخول للأراضي الليبية دون قيود. ولكن.. لماذا هذه المغامرة.. وماذا يستحق أن يذهب الشاب وهو في مقتبل حياته إلي الموت برجليه؟! التقرير المطول الذي نشرته "الشروق" الخميس الماضي ينقل عن شاب قارب الثلاثين قوله: "لو كنا لقينا لقمة عيشنا في مصر ماكناش سبناها ورمينا نفسنا وسط النار.. بلدي مش قابلاني.. وسني اتأخر ولازم أشوف أكل عيشي في مكان تاني.. وأصدقائي قالوا لي إن المنطقة التي يعملون بها تبعد نحو 45 دقيقة عن المدن ولا تشهد أعمال عنف وبإمكانه أن يجد عملاً بسهولة في هذا الوقت الذي قرر فيه آلاف العمال الرحيل عن ليبيا". هذا الشاب الثلاثيني تخرج منذ 6 سنوات ولم يتقدم خطوة واحدة إلي الأمام.. ومنذ أربع سنوات تقدم لخطبة إحدي الفتيات لكنه إلي الآن لم يستطع إتمام الزواج.. يقول: "جربت جميع الحرف واشتغلت كل حاجة ومفيش فايدة.. مقابل العمل يكفي مصاريفي الشخصية وأصدقائي كونوا أنفسهم من سنتين في ليبيا وأصبحوا قادرين علي الزواج وبعضهم استطاع أن يبني منزلاً.. وقد أخبرني أصدقائي أن الأجر المقابل للعمل في ليبيا في وقت الاشتباكات والفوضي يكون مضاعفاً لأن العمالة هناك تقل.. وأنا مش عايز غير سنة واحدة أقدر من خلالها أحقق حلمي.. أما عن السلامة فلنا رب يحمينا". هكذا يفكر شاب تجاوز الثلاثين من عمره مازال يبحث عن لقمة العيش.. ومازال يبحث عن مصدر كريم للرزق يستطيع من خلاله أن يتم الزواج.. ولو كان وطنه قد وفر له هذا المطلب الأساسي الذي يعتبر أول حق من حقوق الإنسان المعاصر لما استهان بالمخاطر ولما رمي بنفسه في محرقة ليبيا وهو يعرف أن مصيره قد يكون الذبح أو القتل. في وطننا القادرون يتقاتلون من أجل احتكار المال والسلطة والنفوذ ليزدادوا غني والفقراء لا يجدون عملاً كريماً ويلقون بأنفسهم إلي التهلكة.. ومازالت ليبيا المنهكة بالإرهاب والفوضي قبلة الغلابة والباحثين عن لقمة العيش من المصريين. ومن لم يمت بالذبح في ليبيا سوف يموت غرقاً في قارب الهجرة غير الشرعية.. ونستعيذ بالله أن تتحول مصر إلي وطن يكره أبناءه.. ويطردهم إلي الموت.