كان الرد العسكري علي جريمة داعش سريعا وحاسما.. لكنه يظل مجرد استجابة جزئية للغاية لمشكلة كبري مزمنة عانينا ومازلنا نعاني منها حتي اليوم.. وهي مشكلة شهداء لقمة العيش في الخارج.. هؤلاء المواطنون الذين ضاقت بهم السبل في وطنهم فانطلقوا يلتمسون سعة الرزق في الدول الصديقة بأعداد كبيرة ثم تضطرهم الظروف السياسية والصراعات الاقليمية إلي أن يفقدوا أرواحهم وأموالهم ثمنا لغربتهم. بعضهم ذبحوا أمام أعيننا في فيديوهات غير إنسانية علي يد الإرهابيين.. وبعضهم عادوا إلينا في نعوش طائرة بعد ان سلبت أموالهم.. وبعضهم طردوا شر طردة وأجبروا علي الرحيل بلا أدني رحمة دون ان يحصلوا علي حقوقهم. حدث ذلك من قبل في ليبيا والعراق والكويت وبعض دول الخليج الأخري والسبب الرئيسي لذلك هو ان مصر صارت منذ زمن بعيد طاردة للعمالة بالملايين من أبنائها ممن يبحثون عن لقمة العيش بعد ان اعتصرهم الفقر في وطنهم. والذين تأخذهم العاطفة الآن ليترحموا علي القذافي وأيامه وصدام حسين وأيامه ربما في حاجة إلي من يذكرهم ان العمالة المصرية في ليبيا والعراق دفعت ثمن الخلافات المستحكمة بين نظامي القذافي وصدام من ناحية ونظام السادات ومبارك من بعده من ناحية أخري.. وان لم يصل الأمر إلي مستوي البشاعة اللاإنسانية التي وصلت إليها جريمة داعش في ذبح 21 قبطيا مصريا بشكل انتقائي همجي. وقد منعت السلطات المصرية العمال من الذهاب إلي ليبيا ودعت مئات الآلاف الموجودين هناك إلي العودة لوطنهم.. إلا ان مستوي الاستجابة لقرار المنع ودعوة العودة لا يشير إلي أن هناك تغييرا جوهريا قد حدث في تفكير العمالة الموجودة هناك أو العمالة الراغبة في السفر.. والسبب في ذلك لا يرجع إلي اطمئنان هؤلاء العاملين البسطاء إلي مستقبلهم في ليبيا وإنما يرجع إلي ان الفقر الذي يعانون من ويلاته في مصر يدفعهم إلي المغامرة مهما كانت عواقبها. من هذه النقطة تحديدا أقول ان الرد العسكري علي جريمة داعش كان جزئيا.. أما الرد الاستراتيجي طويل المدي لحماية أرواح ابنائنا في الخارج فلابد ان يبدأ من سد ابواب الفقر والعوز.. وفتح ابواب الرزق للمصريين في وطنهم حتي لا يضطروا إلي المغامرة بأرواحهم خارج الحدود فيرخص سعرهم وترخص أرواحهم. يجب ان نكون قد وصلنا الآن إلي قناعة بأن احترام كرامة المصري في وطنه هي أساس احترام كرامته في الخارج وأول درجات احترام كرامة المصري في وطنه أن توفر له الحكومة مستوي لائقا من المعيشة يستطيع به أن يخرج من دائرة الفقر والعوز. الأموال التي دفعتها الحكومة لتعويض أهالي شهداء جريمة داعش كان يمكن أن تدفعها في صورة فرص عمل حقيقية لهؤلاء الشباب فلا يضطرون إلي المغامرة في الخارج.. ويلقون بأنفسهم في المستنقع الليبي. ميزانية الدولة يجب ان تتضمن تخصيص جانب مهم من الاستثمارات لإنشاء مصانع واستصلاح مساحات من الأراضي الصحراوية وشق الطرق واقامة الجسور من أجل ايجاد فرص عمل حقيقية وثابتة ومتطورة أمام الأجيال التي تبحث عن عمل ولا تترك المهمة بالكامل للمستثمرين المحليين والأجانب. المستثمر ليس مسئولا عن حل مشكلة البطالة وليس مسئولا عن حل مشكلات المواطنين الاجتماعية والاقتصادية.. الدولة هي المسئولة وهي الملزمة ومثلما تفكر في زيادة أسعار الطاقة وتخفيض الدعم يجب ان تفكر في حماية حق مواطنيها في الحياة الكريمة.. وأول بنود هذه الحياة الكريمة هو الحق في العمل والتعليم والصحة. إذا أردت الرد الحقيقي الاستراتيجي علي جريمة داعش وما سبقها فاتجه فورا إلي الحل العملي وابدأ بخطوات تدريجية محسوسة.. ودعك من كل الشعارات الرنانة.